صناعة التشريعات في كل الدول الديمقراطية لها أسس واحدة لا تتغير، ومسار واضح لا يستغني بالبرلمان وهو منتخب من الشعب، عن الشعب نفسه، ولا يقبل بطرح مشروعات القوانين على النواب قبل أن تنضح في حوار مجتمعي موسع يشمل أهل الحكم والمعارضة وأصحاب المصلحة المباشرة، الرافضين قبل المؤيدين. في بريطانيا على سبيل المثال لا تحال التشريعات الجديدة أو التعديلات التشريعية إلى مجلس العموم وهو هيئة منتخبة يشكل زعيم الأغلبية فيه الحكومة، قبل أن تمر بمراحل تضمن حصولها على توافق عام بصرف النظر عن الجهة التي تقترح القوانين وما تمثله من أغلبية في البرلمان أو الشارع. تبدأ هذه المراحل بمرحلة الاستشارات وهي مهمة منوطة بالوزارة أو الهيئة التي يقع التشريع في دائرة اختصاصها، حيث تقوم باستطلاع رأي أهل الخبرة و الهيئات الأهلية بالتزامن مع الهيئات الحكومية، والأهم هو فتح حوار مجتمعي شفاف واستشارة عامة الناس عبر وسائل اتصال مختلفة، أهمها الإعلام واللقاءات المباشرة للوقوف على رأي الناس والقوى الفاعلة في المجتمع وأهل المصلحة، بعد ذلك يحال التشريع إلى مجلس العموم ليأخذ مرحلة أخرى قبل التصويت تسمى بمرحلة القراءة، ثم الصياغة قبل أن يُعرض على الأعضاء للمناقشة والتصويت، وفي حال أقر مجلس العموم القانون هناك دورة مماثلة من العمل يقوم بها مجلس اللوردات. نظرياً تقول كثير من الدول أنها تطبق نفس الآليات، بل يمكن لأي واحد من "الفلول" التأكد على أن الحزب الوطني المنحل كان يقوم بعمل مشابه قبل طرح مشاريع القوانين على البرلمان، لكن في النهاية كانت تصدر القوانين لصالح نفس الطبقة الفاسدة المتحكمة في السلطة والثروة والموجودة الآن في طره. مصر بعد 25 يناير تستحق صناعة لتشريعاتها مماثلة لما تشهده الديمقراطيات العريقة، والشعب المصري الذي سطر ملحمة من النضال من أجل الحرية والعدالة يستحق أن يستشار ويؤخذ برأيه في كافة القوانين والتشريعات التي تؤسس للدولة الجديدة فما بالك إذا كانت هذه التشريعات تؤسس للديمقراطية وبناء مؤسسات العمل السياسي وتداول السلطة . بمنتهي الصراحة لا شيء من ذلك يحدث منذ لحظة تشكيل لجنة التعديلات الدستورية، إذ برهنت اللجنة بشخوصها وطريقة عملها أن استحقاقات هذا الشعب العظيم مهملة، فالمشاركين فيها مثلوا فريقاً وحيداً دون بقية قوى المجتمع، ثم أنها فرضت ستاراً من السرية على عملها حتى خرجت علينا بتعديلات لم تنضج مجتمعياً وعارضها أطياف سياسية كثيرة وانتقدها فقهاء دستوريين مشهود لهم بالخبرة والعلم . بعد ذلك صدرت قوانين وقرارات مهمة لكن لا أحد يعلم كيف صدرت ومن الذي أشرف على صياغتها، هل هي نفسها لجنة التعديلات الدستورية بتشكيلها الذي واجه عاصفة من النقد، أم أن هناك لجنة أخرى سرية لا يعلم احد من هم أعضائها، ثم الأهم، أين هو النقاش المجتمعي الذي دار بشأنها ؟ الأمر طبعاً يدعو للدهشة والاستغراب، فالمجلس العسكري يصر على أن كل القوانين التي صدرت تم مناقشتها مع القوى السياسية، بينما تجزم الأخيرة بأنها مغيبة وبعيدة عن دائرة المشورة ولا يؤخذ برأيها بل إنها لا تدعى إلي مثل هذه الحوارات. أخشى أن يكون الإخوان وحدهم من يؤخذ رأيه في القوانين التي صدرت ويرعبني أن يكون المحامي الإخواني صبحي صالح عضو لجنة التعديلات الدستورية هو ممثل القوى السياسية الوحيد في اللجنة السرية المجهولة التي صاغت قانوني الأحزاب ومباشرة الحقوق السياسية. أمر أخر يستحق أن نؤسس له بشكل توافقي ويتيح لنا تحقيق الديمقراطية المنشودة لمصلحة هذا البلد التي تعلو على مصالح كل الجماعات والتنظيمات السياسية أو الدينية، لست ادري لماذا الإصرار علي إجراء انتخابات مجلسي الشعب والشورى بعد أقل من ثلاثة شهور من الآن ، هل قدر المجلس العسكري أو المصرين على احتلال السفينة وهي لازالت في عرض البحر حجم الخسائر المادية والبشرية المحتملة بسبب شيوع البلطجة والفلتان الأمني، ثم ما هي الفائدة من الاستمرار في سيناريو للانتخابات يفرض على مصر أن تعيش أجواء من التنافس والصراع الانتخابي المدعوم بميليشيات البلطجية، وجنون الثروات الحرام وفلول النظام الساقط. هل ستتحمل مصر انتخابات لمجلس الشعب على مراحل قد تستغرق عدة أسابيع ثم يعقبها انتخابات لمجلس الشورى بنفس الآلية بعد ذلك تشكيل لجنة لصياغة دستور جديد للبلاد لندخل بعد ذلك في انتخابات رئاسية، وهل سيتحمل جهاز الشرطة عبء كل هذه المواجهات وهو عاجز ضعيف غير قادر عن حماية مقراته، هل حسبنا تكاليف الخسائر؟ وهل حسبت جماعة الإخوان خسائرها جراء هذا الانفلات، أم أن جني الثمار يعمي الجميع عن مخاطر حقيقية تتهدد الوطن. لا ينبغي أن تكون الدعوة لإعادة النظر في الجدول الزمني للانتخابات وإعادة تحديد أولويات المرحلة الانتقالية كما يصورها البعض على أنها صراع حول جنى ثمار الثورة، لأننا إذا كنا نريد ديمقراطية حقيقية لابد أن نؤسس لها بموجب توافق وطني لا أغلبية برلمانية. أظن أن هذه هي المرة الأولى في تاريخ الثورات... الشعب يريد إطالة بقاء الجيش في السلطة حتى تستقر الأوضاع، والجيش يرفض... صحيح أن الجيش يواجه تحديات جسام في الداخل والخارج، ويرغب في العودة إلى مهامه الحقيقية في حماية الحدود، لكنني أعتقد أنه مهما كانت التحديات والمبررات لا ينبغي أن يعود الجيش لثكناته ويترك البلاد لتغرق في الفوضى، وأجزم بأن الجيش لن يفعلها بوازع الوطنية الراسخة في وجدانه وعقيدته.