يوميات من ميدان التحرير السبت 5فبراير الساعة 9 صباحا اليوم 12 من الثورة اكتب بسرعة لأستبق فعل الذاكرة الخئون، الآن أنا في شقتي الكائنة بالدور الثالث بشارع قصر النيل، المشهد من البلكونة، برودة شتوية صباحية. كانت المتاريس الأربعة في مكانها، لكن اختفى المقلاع الخشبي، أين اختفى ؟ كان المقلاع مكونا من ثلاثة قوائم خشبية تلتقي كلها في نقطة رأسية، مثبت بين القوائم الثلاثة عارضة خشبية تحمل ذراعا ينتهي بقصعة معدنية بغرض وضع الحجارة بها فإذا ما تم جذب ذراع المقلاع الخشبية لأسفل قام بقذف الطوب لأبعد نقطة، ربما تتجاوز ابعد بلطجي من مؤيدي مبارك في ميدان طلعت حرب، ولكن لماذا اختفى المقلاع ؟ هل هو غير عملي؟ هل هدأت المعارك بعد الفضيحة الدولية لمعركة الجمل والأحصنة والسيوف والسنج وبعد القذف بقنابل الملوتوف والرصاص الحي من فوق كوبري أكتوبر وميدان الشهيد عبد المنعم رياض ومن فوق بعض العمارات داخل ميدان التحرير ذاته. يقف صف بشرى على بعد عشرة أمتار من المتراس الأول الذي يحجز فوهة شارع قصر النيل عن الميدان، وأمام أفراد المتراس الأول خط غليظ من الحجارة المعدة للقذف وعلى بعد نحو عشرين مترا أخرى وقف صف بشرى ينتهي طرفه الأيمن إلى جدار الجراج الضخم لشركة مصر لإدارة الأصول العقارية، وجانبه الأيمن إلى مشروع إنشاء فندق حيث تقف آلات الحفر العملاقة، وأمام هذا الصف حوالي خمسة وعشرين كومة من الحجارة المعدة للقذف، وعلى بعد حوالي عشرة أمتار من هذا الخط الدفاعي يبدأ المتراس الثاني المكون من قطع من الأخشاب والصفيح والحديد وأعمدة الإنارة المخلوعة والمشمع، كان كل متراس يتراوح ارتفاعه مابين متر ونصف إلى ثلاثة أمتار، يلي المتراس الثاني شبكة من الأسلاك الشائكة التي شدت مابين عمودي الإنارة على الرصيفين شمالا ويمينا، وبعد المبنى الذي تشغل طابقه الارضى الخطوط الجوية السعودية، وعلى بعد عشرة أمتار أخرى شُد حبل غليظ اصفر اللون بين عمودي الإنارة، ثم امتد باقي شارع قصر النيل، وقبل أن يصب في ميدان طلعت حرب وضع متراس كبير على فوهة الميدان مكون من الشباك البلاستيكية والحديد والأخشاب والصفيح، طرف المتراس الأيمن هو الخطوط الجوية الفرنسية، وطرفه الأيسر جروبي، كان أفراد الإشارة أو "الناضورجية" يختفون في زوايا المباني وخلف المتاريس وفى مدخل الشارع الجانبي الضيق الذي يفصل عمارة الخطوط الجوية الفرنسية عن العمارة التي يوجد بها بار "استوريل" وكان للشارع الضيق الذي قطعه متراس مرتفع نسبينا أهمية إستراتيجية، حيث يؤدى لكشف التحركات في شارع طلعت حرب وشارع هدى شعراوي الذي يتعامد عليه، فإذا ما لاحظ فرد الإشارة اى تحرك مريب كما لو رأى مجموعة من أفراد الشرطة السرية في زى مدني أو مجموعة من البلطجية تحاول الوصول للميدان واختراق المتاريس، راح يضرب صفيح المتراس بقطعة خشب، وراح يطلق الصفير بوضع إصبعيه تحت لسانه، ومن ثم ينتقل الصفير إلى المتراس التالي ثم الذي بعده والذي بعده إلى أن يصل إلى ميدان التحرير حيث تنطلق مجموعة كبيرة لاحتلال مواقعها أمام أكوام الحجارة فإذا ما تبين أن الإنذار كاذب راح الأفراد أمام متراس المواجهة الأول يرفعون أيديهم إلى أعلى ويشيرون بها أن: انتهى، فيعود الجميع أدراجه إلى مواقعه السابقة، على أن حركة الدخول والخروج تسير أثناء ذلك في النقاط الأمنية بتنظيم شديد، ولا تتوقف أبدا إلا في حالة اشتعال معركة تقاذف بالحجارة، حيث يتحول فضاء الشارع إلى قطع من الحجارة الطائرة كأنها المطر لايكف عن التساقط، يتناهى إلى من التلفزيون خبر عاجل من قناة الجزيرة: انفجار خط أنابيب الغاز المؤدى إلى إسرائيل بالشيخ زويد بسيناء وحريق هائل. من البلكونة على يميني كان يمكنني رؤية شطر عرضي من ميدان التحرير واللافتة الضخمة لمشروع تطوير وتحديث فندق ريتز كارلتون وإحلال وتجديد المنطقة الخلفية ثم قطاع من الفندق ذاته، وقد اقتلعت نوافذه، وعن يساري كان يمكنني رؤية تمثال طلعت حرب يتوسط الميدان الذي يحمل اسمه، كان ظهر السيد طلعت حرب تجاه ميدان التحرير، بينما وجهه يطل على امتداد شارع قصر النيل، الذي يصل إلى ميدان الزعيم الشاب مصطفى كامل، كانت الحركة الصباحية في بداياتها،على الجانب الأيمن من الطريق بوابات دخول من المتاريس،على كل باب متراس لجنة أمنية مكونة من نحو أربعة أفراد تقوم بالاطلاع على البطاقة والتفتيش الذاتي عن الأسلحة، وبعد اجتياز نحو أربعة بوابات أمنيه يمكن الدخول إلى الميدان، أذكر نفسي أن اليوم هو السبت 5 فبراير الصباح التالي لجمعة الرحيل، وان بعض الإعلام الرسمي الذي يسيطر عليه النظام يتشدق بأن جمعة الرحيل المليونية انتهت ولم يرحل حسنى مبارك، من القطاع العرضي المتاح لي عبر البلكونه أرى أعداداً قليلة من المترجلين وارى البوابات تعمل وان عدد القادمين قليل، طمأنت نفسي أن ذلك معتاد فاليوم هو التالي لوقفة مليونية، وأيضا يوم إعداد لمليونية أخرى هي غدا الأحد 6 فبراير، وهو اليوم الثالث عشر من عمر الثورة. أحاول تجاوز القلق وما تصورته نبرة حزن في صوت احمد اللباد، وأنا أتحدث إليه منذ ساعة على الموبايل قال انه لم ينم، وانه كان سهرانا في" ميريت" وقال انه لاحظ أن الناس تعبت في الميدان، سارعت إلى القول أن ده مش صحيح وان الثورة دى بتحركها طاقة متجددة، الحقيقة كنت أقول هذا الكلام لنفسي لا للباد، فالحكاية طالت والهجمة المرتدة تعلمت الخبث، وتراهن على الوقت، وقد دست ناساً داخل المظاهرة تدعوا إلى الإنهاء والى الاكتفاء بما تم، كنت أتصور أن هذا النظام الذي عاش وشاخ داخل سلطة قمعية لاتتورع عن فعل اى شيء، نظام له مجرميه وبلطجيته جاهزون وقت الحاجة، نظام له أتباعه الذين استفادوا منه وله مؤيدين فعلا، لطول عهدي باليأس كان يخايلني دائما في كل منعطف، كنت ابحث عن لحظة يمكنني القول فيها بثقة عن استحالة العودة إلى الماضي، وكنت موقنا إلى الساعة ونحن في اليوم الثاني عشر من الثورة أن مبارك لو تركت له الفرصة وانتهت الثورة لاستعاد نظامه وكافة مشاريعه بما فيها توريث ابنه الحكم ولصار اشد شراسة وبطشا بخصومه ولأنشأ نظاما قمعيا جديدا غير قابل للزوال ولنال تعاطف الغرب فالأنظمة المؤيدة تميل إذا ما مالت مركب الثورة، وهكذا اشعر أن الثورة تسير على منحدر زلق اوتصعد حائطا زجاجيا غير مسموح لها بالسقوط وإلا صارت هي الجريمة ولصار القائمين بها هم المجرمون الذين تنصب لهم المشانق في الميدان.