أي إنسان يحمل قدرًا ولو ضئيل من الوعي والنضج، يستطيع أن يفصل تمامًا بين شخصية الفنان ومواقفه السياسية أو أي مواقف يتخذها في الحياة من أي نوع، وما يقدمه من أعمال فنية، فحياة الفنان ملك له، ومواقفه الحياتية هو حر فيها سواء أعلنها علي الملأ أو احتفظ بها لنفسه، فلم نكره أغنيات مايكل جاكسون واستعراضاته رغم سقطاته الأخلاقية، ولم نكره أفلام آدم ساندلر رغم علمنا أنه يدعم إسرائيل دعما معلنا وصريحا، لكننا بالتأكيد سنتأذي نفسيا كلما شاهدنا لقاءا تليفزيونيا أو حوارا صحفيا لهذا الفنان، خصوصا إن كان هذا اللقاء يحوي ما لذ وطاب من مواقف وكلمات تنطق بما يؤذي مشاعر الناس الذين أحبوا أعماله الفنية.. لن تخصم مواقف الفنان الخاصة - أيا كان سخفها- من جماهيريته أو شعبيته كفنان، وإن كانت ستهزها بعض الشيء، ولكنها بالتأكيد لن تسحب جماهير جديدة إلي أرضيته، فسيظل - في أضعف الإيمان- محتفظا بمن يعجبون بأعماله منذ البداية. لكن هل تخصم مواقف الفنان السياسية من مصداقيته ورصيده في قلوب عشاقه؟ سؤال صعب، لكن إجابته سهلة بمنطقيتها ووضوحها وتعدد الأمثلة المؤيدة لها.. نعم مواقف الفنان السياسية قد تخصم من مصداقيته ورصيده في قلوب عشاقه وجمهوره، خصوصا إن كانت ضد أفكار السواد الأعظم من هذا الجمهور، ولنضع مثالا علي عادل إمام، فهو أكثر فنان مصري يرغي ويزبد في طرح رؤاه ومواقفه السياسية، بما يناهض رأي وموقف الغالبية العظمي من جمهوره الذي حمله علي الأعناق، فعندما نشاهد فيلم «الإرهاب والكباب"، بالتأكيد لن نمنع أنفسنا من تذكر كلماته، وهو يسخر من المتظاهرين الشباب المطالبين بحقهم وحق غيرهم في حياة محترمة «رأيه في مظاهرات المصريين ضد العدوان علي غزة» كان كالتالي: إحنا هنفضل نتظاهر ونقول بالروح بالدم نفديك يا فلسطين؟ نتظاهر وماله.. بس إحنا زهقنا من المظاهرات.. بالروح بالدم نفديكي يا فلسطين»، وفورا لن يصدق أحد بطل الفيلم المهزوم الذي وجد نفسه متمردا علي الحكومة. كلما شاهدنا فيلم «اللعب مع الكبار» المدهش في طفولته، سننزعج كثيرا، عندما نتذكر أن البطل الذي أنهي الفيلم بصرخته الشهيرة: «أنا هاحلم»، لا يحترم أحلام رجال يرغبون في تغيير واقع بلادهم المذري، ويسخر من أي رجل يرغب في ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية بخلاف الرئيس وولده ، أو وهو يهاجم حزب الله بقوله «حزب الصلاة علي النبي ولا حزب وداد قلبي». كلما شاهدنا فيلم «المنسي»، والذي نتعاطف ونتضامن نفسيا مع بطله المهمش، سنتأذي عندما نجد نفس هذا البطل، وهو يصرح في التليفزيون عابثا بمشاعر كل من أحب بطل «المنسي» قائلا: «مش النظام بينفذ مواقف.. هو أنا لما أهاجم الإرهاب أبقي ضد النظام، لما أتكلم عن الفساد أبقي ضد النظام.. دي بقت مشكلة دلوقتي إنت تجيب واحد فاسد في أي فيلم يقول لك انتظر شوية، وكأن كل واحد فاسد تابع للحكومة». ظلت أفلام عادل إمام المهمة الرائعة مثل «طيور الظلام» و«حتي لا يطير الدخان» و«الأفوكاتو» و«كراكون في الشارع» و«الحريف» محتفظة برونقها وألقها وتميزها وصدقها وقوتها ووضوح رؤيتها وطزاجتها، وترهل عادل إمام الإنسان وتلعثم بمواقفه السياسية، وفقد بريقه في لقاءته التليفزيونية.. ظلت أعماله كلها مثل «إبراهيم الطاير» و«الإرهابي» و«دموع في عيون وقحة» و«النوم في العسل» و«حب في الزنزانة» و«المشبوه» و«عريس من جهة أمنية»، وستظل ناضجة مفعمة بالحيوية والقوة والجرأة والضمير اليقظ، بينما ارتعش الفنان واهتز بكلماته وأرائه المؤسفة الساذجة في الشأن السياسي. عشاق الأفلام السابق ذكرها وغيرها من أفلام النجم العظيم والمحبوب -فنيا- لن يتذكروا سوي عظمة الأفلام، لكنهم سيتذكرون أيضا سخف تصريحات بطلها، وهو يصيح بكلمات خائبة عن الشأن المصري والشأن العربي، بل والشأن العالمي أيضا. ما الذي يريده فنان وصل إلي قمة النجاح وقمة التألق، ومازال محافظا علي تربعه علي القمة حتي الآن.. ألا يكفيه التفاف الجماهير حوله.. ألا يكفيه انتظار الناس لجديدة عاما بعد آخر وفيلما بعد آخر؟ أليس هذا الجمهور هو الذي تحمل سخافة أفلامه الأخيرة وتكرار مشاهدها وحوارتها ورسائلها محافظا علي وده القديم لأفلام عادل إمام، فظل مخلصا له حريصا علي تشجيعه وتأييده، حتي قدم له كارثة «بوبوس»، والتي أخرجت جميع عشاقه وجمهوره وحتي أقرب المقربين له من الصحفيين والنقاد عن شعورهم وعن محاولتهم الحفاظ علي مشاعره.. لماذا كان الجميع حريصا علي مراعاة مشاعر عادل إمام وأحاسيسه، بينما كان هو حريصا بمنتهي القسوة والعنفوان والجبروت علي دهس مشاعر الجميع دون استثناء.. أقصد باستثناء الحكومة والنظام ومن والاهم؟ كيف طاوع عادل إمام نفسه وقلبه، فخرج علي الناس محتجا علي قتل الجندي المصري أحمد شعبان علي الحدود مع غزة، بينما لم يذكر مجرد إشارة إلي قتل سبعة مصريين في صعيد مصر «نجع حمادي»، وذلك بعد عرض مسرحيته، عندما ندد بقتل الجندي علي يد حماس مع أبطال مسرحيته «بودي جارد» - وهم للعلم مجموعة من الكومبارس الغلابة باستثناء النجم محمد هنيدي الذي اتمني الآن ألا يكون تلميذا مخلصا له، وأن يسير علي نهج آخر غير نهج عادل إمام في الحياة. ألا يعني قتل سبعة أشخاص شيئا لعادل إمام؟ هذا الشهيد الذي قتل علي عيننا وعلي رأسنا ونتمني أن يحشرنا الله معه يوم القيامة، ولكن ماذا عن مقتل 16 مصريا بيد إسرائيل علي الحدود في السنوات الخمس الأخيرة.. أتحدي عادل إمام إن كان يعرف أسمائهم أو حتي اسم واحد منهم.. ليس هذا فحسب، بل إنه يصرح بمنتهي الفجاجة عندما سأله الإعلامي المتميز عمرو الليثي عن رأيه في تصدير الغاز إلي إسرائيل قائلا: «مش فيه اتفاقيات.. ليه ناسيين إن فيه اتفاقيات بين مصر وإسرائيل.. إيه المانع إن إحنا نكون شطار في اتفاقيات.. دول يهود يقول لك ما ترجعش في كلامك تاني.. أمال اتفقت ليه من الأول؟!» أستاذ عادل قبل وقفتك الاحتجاجية هذه، وطالما قررت أن يكون لك موقف، كان يجب أن تقف 1000 وقفة قبلها.. لذلك فإننا لن نصدق انفعالك ولن نصدق تجاعيد وجههك التي زادها الحزن المفتعل وضوحا خلال وقفتك الاحتجاجية.. فقبل هذه الوقفة كان يجب أن تقف احتجاجا علي موت 1200 بني آدم مصري غرقا، واحتراق 357 بائس في قطار الصعيد، هذا بخلاف شهداء قطار العياط، و45 شهيدا احترقوا في مسرح بني سويف، وأكثر من 75 شخصا دفنوا أحياء تحت صخرة الدويقة، واستشهاد 1400 فلسطيني في العدوان الإسرائيلي علي غزة، ومقتل أكثر من 10 أشخاص عزل - وهذا هو الرقم المعلن- بينهم نساء وأطفال من اللاجئين السودانيين بميدان مصطفي محمود، والفنان الذي هو سفير النوايا الحسنة للمفوضية السامية لشئون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة اتخذ وقتها موقفا متخاذلا وصرح تصريحًا مائعًا قال فيه: «اللاجئون أنفسهم »يعني قيادات اللاجئين«! هم المسئولون عن الأرواح البريئة التي راحت جراء الحادث، دون أن يراعوا وجود أطفال ونساء في وسطهم وإنهم تعمدوا المماطلة والدعاية لقضيتهم باعتبارها قضية عادلة، فتدخل الأمن المصري لفض المشكلة»!، وهذا التصريح قاله بعد وقوع المذبحة بثلاث سنوات، وبالتحديد في صالون الأوبرا الثقافي عام 2008 دون التنديد واستنكار أو حتي شجب ما فعله الأمن المصري من قتل أبرياء بلا طعام.. بلا وطن، حتي إنه وصف «المذبحة» ب«المشكلة».. حتي رهافة الفنان غابت واختفت تحت غلظة الانسياق وراء خطب ود الأمن والنظام الذي يحرسه الأمن.. هكذا دون ذرة خجل ولو كان مستترًا تحت قناع التأييد الأعمي لكل ما يفعله النظام وأمنه! لكن مقتل الجندي المصري علي الحدود مع غزة أكثر ما أثار الفنان صاحب القلب الرقيق حتي إنه قال - وهو العالم ببواطن الأمور- واصفا في مشهد تمثيلي ضعيف المستوي كيف قتل قناص حماس الجندي المصري، حتي تخيلت أنه حضر المشهد، فقد قال إن القناص نشن رصاصته في جبهة الجندي المصري، رغم أن نتائج التحقيقات لم تذكر أي معلومة عن رصاصة في الجبهة علي الإطلاق.. عموما ربما كانت علاقات الفنان عادل إمام وصلات الود بينه وبين أولي الأمر قد أطلعته علي ما هو خافيا عنا. لن أقف كثيرا عند مواقف الفنانين السياسية، لكني فقط سأرجوهم أن يبتعدوا عن السياسة، إن كانوا سيدلون بآرائهم فيها علي طريقة عادل إمام، وإن كانت ممارستهم لها ستعني الوقوف في خندق النظام والحكومة، تصديقا علي أجندتهما بالحق والباطل، وإن كانت الممارسة السياسية في نظرهم تعني رفع علم مصر وشتم الجزائريين وتأييد الجدار العازل. ابتعدوا عن السياسة إذا كنتم ستمارسونها بعيدا عن مصالح الناس، فالسياسة تنتهي وينتهي رجالها بانتهاء عصورهم، أما الفن والموقف فإنهما باقيان إلي الأبد، وشخصية الفنان واضح الرؤية محدد الهدف والموقف.. المنحاز للناس قد تنفصل أحيانا عن اختياراته الفنية، لكنها إذا كانت متوافقة ومتسقة مع ما يقدمه، فالمصداقية تكبر والرصيد يتزايد، وإذا كنتم غير قادرين علي المعارضة أو علي تحمل تبعاتها، فليس مطلوبا منكم أكثر من التزام الصمت والتركيز في العمل، فلا تسفهوا أحلام البسطاء وتشاركون في ذبح من يدفعون لكم ثمن التذكرة لتبقوا نجوما، مفضلين الانحياز لأنظمة أفسدت علينا حياتنا، وكرهتنا في العيشة واللي عايشينها. أستاذ عادل لقد نفذ رصيد مصداقيتك عندي وعند آخرين كإنسان، وأعتقد أنه نفذ لدي ملايين من عشاقك في مصرو وخارجها، ولكن رصيدك الفني القديم مازال كما هو لم يمس، وينتظر فقط أن تزيده بأعمال أخري ذات قيمة.. فأفلامك ستعيش في ذاكرتنا وذاكرة التاريخ، أما أفكارك وآرائك فستموت بموتك، فما نذكره من نجيب الريحاني أفلامه، ولا يهمنا أن نعرف شيئًا عن آرائه السياسية ، وليتعلم باقي الفنانين هذا الدرس من عادل إمام كما تعلموا منه القدرة علي مواصلة النجاح، وليتابع أي منهم ردود أفعال الناس وتعليقاتهم علي أي خبر ينشر عن عادل إمام علي الإنترنت في المواقع المصرية أو العربية، ليعرف الفنانون وليعرف هو مدي السخط والغضب الذي يحمله الناس تجاهه.. سواء بعد تصريحاته عن إن «إحنا اللي علمنا الجزائريين العربي ولسة بيتهتهوا فيه"، أو هجومه المستمر والدائم علي عمرو خالد وحزب الله وحماس، أو تأييده المستميت لجمال مبارك كوريث لوالده، أو معاداته المبالغة للإخوان المسلمين، ولكل المعارضين في مصر، فهو القائل لا فض فوه: «هبلة ومسكوها طبلة».. يقصد المعارضين. عادل إمام.. أرجوك أن تقف أمام مرآة رائقة لتجيب عن سؤال وجهته لأصدقائك في «مدرسة المشاغبين» عندما سألتهم: زعيم أونطة أنا بقي ولا إيه؟ فجمهورك المصري والعربي أدي دوره وأجاب بالتصديق علي السؤال ، فأرائك السياسية بتبعيتها وانسحاقها أمام وجهة النظر الرسمية لا تتمتع بالاستقلالية والنضج والتفرد التي يتمتع به الزعماء.. بقي أن تقف أنت أمام نفسك لتجيب علي السؤال. وأخيراً أستاذ عادل إمام أنت بجد زودتها أوي .