فور كل مصيبة أغنية، وبعد كل كارثة أوبريت، هذا هو حال الغناء فى التعامل مع بعض أزمات الوطن، لا يكاد يمر 24 ساعة على الحدث حتى تظهر الاغانى وتتكاثر، وبعد أقل من أسبوع يظهر أوبريت غنائى برعاية الدولة، نفس ردود فعل الاعلام التى تختزل المسألة فى بث مباشر وموحد وأوامر بالبعد عن مناقشة صلب القضية والاكتفاء بالالحاح فى العزاء والافراط فى المواساة، نفس حرارة التعبيرات الطنانة عن مصر وما تتعرض له من هجمة الحاقدين عليها لانها دولة متقدمة فى كل المجالات (هكذا صرح السيد صفوت الشريف رئيس مجلس الشورى منذ أيام)، وهكذا يجمع الساسة ومن خلفهم الاعلاميين بقيادة وزير الاعلام أن مصر تتعرض لخطر لانها أعظم بلد فى العالم ولانها محسودة على ما تمتلك من امكانات هائلة ونفوذ كبير، ويصدق بعض الناس البروباجندا تحت الحاح هذا الكم من الأغانى المؤثرة الباكية، وتحت الحاح أهم نجوم وفنانى مصر الذين يتجمعون فى لحظة ويشكلون جوقة أو تخت غنائى يقرأ من ورقة واحدة كتبتها الدولة، وبعد أيام أو أسابيع ننسى المشكلة الحقيقية أو نتناساها تحت أثر مخدر الاغانى والطقاطيق الوطنية، ولن يجرؤ ساعتها أحد على فتح فمه ولوم الدولة فى أى اهمال أو تقصير، الدولة عملت اللى عليها وغنت وبكت أنهار الدموع ومعها خلاصة نجوم مصر واعلامييها، ولم يناقش أحد حقيقة ما حدث، فالحدث جلل والوقت غير مناسب، ومن يقرأ التاريخ يجد أن الوقت لا يكون مناسباً أبداً. تظل الأوبريتات الوطنية أحد أسوء الاختراعات الفنية المصرية على الاطلاق، وقد انتشرت كثيراُ وأصبحت ملازمة لكل مناسبة وطنية منذ كارثة غزو العراق للكويت وحتى الأن، ويكاد مدحت العدل يكون صاحب الحق الحصرى فى الولولة والغناء الوطنى النمطى طوال السنوات الماضية وحتى حادث تفجير كنيسة القديسين حيث قام بكتابة أوبريت بعنوان (مصر مفتاح الحياة) فى أيام قليلة وقام بتلحينه "عمرو مصطفى" وقام بأداءه عدد من الفنانين بمصاحبة كورال مكون من مجموعة من الشباب من الجنسين يقفون أمام المبنى الرئيسى لجامعة القاهرة، يرتدون بدل وكرافتات سوداء تمنحهم شكل رسمى متحفظ ومتخشب يبدون فيه كما لو كانوا يصورون اعلان بنك وليس أغنية عن كارثة انسانية، وهذا هو نفس حال النجوم والفنانين الذين ظهروا بشكل مصطنع أمام كامير تتراقص يميناً ويساراً بدون أى دلالة فنية لهذه المرجحة البصرية اللهم الا اذا كان الأمر لتعويض الوقفة العسكرية التى يقفها مجاميع الشباب، وأما عن الأداء فحدث ولا حرج، يقف المطرب أو الممثل الذى تم احضاره على عجل وعلى وجهه تجهم مبالغ فيه، وحركات وجهه ويده عصبية، وصوته صراخ وعويل، ونظراته محملقة غاضبة بشكل مبالغ فيه، محمد فؤاد يشخط ولا يغنى، وهانى رمزى تقمص شخصية وحركات مطرب عاطفى فخرجت حركاته كوميدية، وهالة صدقى لا تجد ما تفعله سوى التسبيل فى حزن، وشريف منير على وجهه علامات القرف أكثر من الغضب، ويظهر سامى العدل على الشاشة وملامحه توحى بانه على وشك بداية مشاجرة سيفتك فيها بمن امامه رغم انه يقف أمام الكاميرا ويتوجه بكلامه للمتفرج المسكين الذى عليه تحمل مشاهدة هذا الأوبريت الذى يتحرش بمشاعره الوطنية عشرات المرات يومياً. قبل أن يستوعب أى أحد أى شىء مما حدث ويبلوره كعمل فنى تنتشر الاغانى التى تتحدث عن الألم وترسم صورة الحزن على الضحايا، ويتحول الأمر بعد حين من مبادرات فردية الى تقليد ومزايدة من الجميع، واذا تدخلت الدولة وطلبت الغناء بالتكليف الرسمى المباشر سنجد عشرات ومئات الفنانين جاهزين وحاضرين دون تأخير أو تفكير فى قيمة ما يقدمونه من فن، ورغم أن مشاعر حزن الفنانين نفسها طبيعية ومُقدرة الا ان ابتذالها فى أغنيات سطحية وأوبريتات سريعة التجهيز لا تعبر بأية حال عن احترام الحزن والحادث، من الممكن أن يذهب النجوم بشكل شخصى للتعزية وابداء التعاطف مع المصابين وأسر الضحايا كما فعل بعضهم باحترام وهدوء، ولكن عليهم أن يرحمونا من بكائيات الحزن البلهاء البعيدة عن أى صدق فنى، وطبيعة الفن الصادق انه يمتص الأحداث ويبلورها بصورة فنية جديدة ومبتكرة تحمل خيال ابداعى، وهذا هو الأمر الذى يجعلها تعيش طويلاً، أما ما يقدمه الفن المصرى حالياً من أغنيات وأوبريتات فلا يدخل فى بند الفن على الاطلاق، انها مجرد بروباجاندا عاطفية بعضها بمبادرات فنية وبعضها بأوامر الدولة التى لا يعنيها الفن فى هذه الأيام، وانما يعنيها استخدامه كمسكنات اعلامية سريعة المفعول حتى لو كان لها أضرار ومضاعفات مستقبلية، وأهمها نسيان كل شيء بعد حين بعد استهلاك كل المشاعر فى الطبطبة والمواساة فى المطلق، لا يهم الاعلام الحكومى انه يرعى أغانى وأوبريتات تحمل كلمات نمطية ومباشرة، وموسيقى حزينة فقيرة لا تحمل أى خصوصية ولا يمكن تذكرها بعد الاستماع اليها حتى لو تكرر عرضها 100 مرة يومياً. هل نعلم مثلاً أن عدد الأغنيات التى كتبت تأثراً بأحداث 11 سبتمبر هى 5 أغنيات فقط؟ وأن هذه الأغنيات لم تكتب بعد الحادث مباشرة، بل بعد فترة زمنية كافية للوصول الى عمل فنى ناضج، احدى هذه الأغنيات واسمها "الحرية" "Freedom" كتبها ولحنها وغناها المطرب "بول ماكارتنى" الذى كان بالصدفة فى نيويورك ساعة ضرب أبراج التجارة وشاهد الهجوم بنفسه، ورغم انه كتب أغنيته فى اليوم التالى الا انه ظل ينقحها ولم يصدرها الا فى ألبوم صدر بعد الحادث بعام، وكان متردداً فى وضعها فى الألبوم حتى انه حينما قرر اضافتها له كانت المطبوعات الخاصة بالألبوم قد انتهت وظهرت الأغنية فى الألبوم مفاجأة للجمهور فى طبعته الأولى، ولم تتحدث الأغنية أو تولول على ما حدث فى أبراج التجارة التى مات فيها الألاف، بل تحدث مكارتنى ببساطة وبلاغة عن الحرية التى يحاربها الارهاب. مشكلة الأغنيات والأوبريتاتى الوطنية التى تعرض الآن هى انها ستدفن مع ضحايا كنيسة الاسكندرية، فلا هى خلدت ذكرى من ماتوا غدراً ولا هى خلدت كقيمة فنية وانسانية معبرة عن الحزن النبيل على من سقطوا وماتوا بلا ذنب من الأبرياء.