خلال الأيام الفائتة تابع الناس بشغف حُكمين قضائيين مُهمّين، يخصّان«هشام طلعت مصطفي»، في قضيتي «مدينتي»، وقتل «سوزان تميم». والقضيتان من بداياتهما لهما تشابكات عديدة، سياسية واقتصادية، ويربطهما انتهاك القانون، وخطورة اجتماع السلطة والمال، فهشام طلعت مصطفي من كبار أعضاء الحزب الحاكم، وعضو مجلس شوري ووكيل إحدي لجانه، وشركته اهتبلت أراض مملوكة للشعب بمئات المليارات، ونتيجة لتراكم ثروة طائلة لديه تعاظم نفوذه في دوائر اتخاذ القرار، ففعل ما يعرفه الجميع. والسكري تحول من ضابط منوط به أمن الوطن إلي قاتل يستبيح الأرواح بأجر مثل أولاد الليل في التراث الشعبي. الحكمان طمأنا النفوس، وأراحا الرأي العام بشكل ما، وإن خيّبت الحكومة الآمال بتفريغ حكم الإدارية العليا في قضية مدينتي من مضمونه. أكثر ما استوقفني كان مرافعة النيابة، بدقتها القانونية وبلاغتها الأدبية، التي تذكرنا بمتون أحكام النقض الرصينة، وبدا فيها الميل لتهدئة الناس، وحماية القانون بجسارة، والاقتصاص ممن استخفتهم الظنون و«نسوا الله فأنساهم أنفسهم». قالت النيابة لهيئة المحكمة الموقرة : «جئنا اليوم إلي ساحتكم المقدسة نحمل إليكم كلمة المجتمع الذي منحنا شرف تمثيله، في واحدة من القضايا ننشد فيها الحق الذي يعيش في ضمائركم، والعدل الذي أشربت نفوسكم حبه، وأقسمتم يمين الولاء له..». وظني أن أثر هذا الخطاب يجاوز ساحة القضاء إلي براح الوطن، يُطيّب الخواطر، ويقطع بأن صرح القضاء يستعصي علي الإفساد، ويزخر برجالات فاضت قلوبهم بالحق، فتنكبوا سبل العدل ابتغاء مرضاة الله، ووجه الوطن المنكوب. مرافعة المستشارين مصطفي سليمان، ومصطفي خاطر ممثلا النيابة أعطت القضية أفقاً عاماً واعياً، ومذاقاً لغوياً ممتعاً، ورممت ثقة المصريين بقضائهم، حيث قالا إن القضية : «فيها رغبة عارمة وشغف كبير لدي رأي عام يريد الاطمئنان إلي أن المال والسلطة لا يعصمان صاحبهما من العقاب إذا أجرم وأن الشريف يستوي مع الضعيف في تطبيق القانون». وبجانب العمد وسبق الإصرار وصفوها بأنها : «قضية إزهاق نفس بشرية دون وجه حق، قضية فساد وإفساد في الأرض، فيها ثراء ونفوذ طمع، وشره غرام وهيام، هجر ونفور جحود، ونكران حماقة، وتهور تهديد، ووعيد غدر، وخيانة وحشية، وانتقام قتل، وتنكيل بهتان، وتضليل ذل ومهانة بعد عز وكرامة...»، و«.. قضية رجلين غرتهما الحياة الدنيا بما لهما من مال وسلطان، واتبعا شهوتيهما في حب النساء والمال فسقطا في مستنقع الجريمة..». وعن محسن السكري قالت : «... رزقه الله بالمال الكافي ليحيا وذووه حياة كريمة، وحباه بقوة البنية وفُتُوّة العضلات..»، «.. لكنه يحمل في ذات الوقت بين جنبيه نفساً شريرة غير قنوعة..»، «... فتحول من رجل شرطة مهمته الأولي توفير الأمن وحماية أرواح المواطنين إلي قاتل أجير، سفاح من أسوأ أنواع المجرمين قاطبة بل أسوأ صنوف البشر..»، و«.. وها هو اليوم يجني ثمرة ذلك الفساد وتلك الاستهانة بالحرمات وصدق ابن عطاء الله السكندري في قوله : «ما بسقت أغصان ذل..... إلا علي بذرة طمع». أما هشام طلعت مصطفي فهو عندها : «من كبار رجال الأعمال في مصر، سطع نجمه، وذاع صيته في مجال العمل في ميدان المقاولات، وأرسي فيه كياناً اقتصادياً كبيراً، فَعَلا شأنه وازدادت ثروته حتي أصبح يشار إليه بالبنان، ثم اتجه إلي العمل العام، وصار عضوا بالحزب الحاكم، فنائباً بمجلس الشوري ووكيلاً لإحدي لجانه، بعد أن حاز ثقة الناس فمنحوه أصواتهم والتفوا حوله بالخداع، حيث استطاع أن يتخفي وراء قناع من البر والتقوي، ويخفي حقيقته كقاتل محترف يسير علي نهج كبري العصابات وإن لم يقتل بيده، فاكتسب جانباً من السلطة وصارت له مكانة مرموقة في المجتمع، وأصبح يحلق في سمائه بجناحي المال والنفوذ، ولما اجتمع له المال والسلطان ظن أن الدنيا قد حيزت له وخضعت، وأن ما يشتهيه يجب أن يحصل عليه، ومتي أمر فقد وجبت طاعته..»، و«... لم يقابل ذلك بالشكر لله والعرفان، بل بالجحود والنكران، ففعل ما فعل، واقترف ما اقترف، وسقط في هاوية الإجرام، وارتكب من الآثام أشدها، وساهم في قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وصار من المفسدين في الأرض، فأضاع نفسه بماضيها وحاضرها ومستقبلها، وحق عليه الهوان وأشد العقاب وصدق الشاعر في قوله : «إذا جلت الذنوب وهالت.... فمن العدل أن يهول الجزاء» ورأت النيابة إن كلا المتهمين : «كان آمناً في وطنه معافي في بدنه، ورزقه الله المال والبنون، لكنها النفس الأمّارة بالسوء التي إن رزقت بخير وفير طَغَتْ، وإن عُوفيت بَغَتْ وتجبرت، وإن ابتليت بعدم الرضا فلن تشبع أبدا، وإن انحطت بشهوتها كانت أدني خلق الله منزلة». المفارقة أن هذا الحكم صدر متزامنا مع حكم جليل آخر صادر عن المحكمة الإدارية العليا باسترداد أراض مدينتي التي استغلتها شركة «هشام طلعت مصطفي» بمقابل هزيل، واستبشر الشعب خيرا بعودة حقه إليه، لكن لا أحد يلتفت، إلا الحكومة التي تداركت الأمر سريعا، خشية انسحابه علي بقية المشاريع المشابهة المشبوهة، فأعادت بيع الأرض إلي الشركة ذاتها بالأمر المباشر، وبالمخالفة لقانون المزايدات، التفافا علي حكم الإدارية العليا، حتي لا يسعي آخرون لاستصدار أحكام مماثلة تسترد بقية حقوق الشعب من سُرّاقِها. القضاء المصري كدأبنا به أضاف صفحة جديدة لتاريخه المجيد، وأعاد الثقة للناس بالقيم العليا في وطن مستباح، وحفظ علي العدل هيبته في مواجهة فساد أنيابه دامية، يلغّ في دم البلد ناسيا أن الله تعالي لا يفلت الظالمين وإن أمهلهم، «وما للظالمين من أنصار». فدعهم في غيّهم يعمهون !