شهدت الأسابيع القليلة الماضية مناقشات حامية في الصحف ووسائل الإعلام حول المناهج الدراسية في التعليم العام، ومشكلة الكتب الخارجية، بمناسبة بدء العام الدراسي الجديد. وامتد النقاش إلي محاولات الدكتور أحمد زكي بدر - وزير التربية والتعليم - إصلاح ما أفسده «الزمن» في التعليم المصري، وظهر بوضوح تصدي أصحاب المصالح في بقاء الحال علي ما هو عليه لتلك المحاولات الجريئة لإصلاح حال مدارسنا ومناهجنا ونظامنا التعليمي. وأي متابع للحالة التي وصل إليها التعليم العام في مصر في السنوات الماضية يلحظ بوضوح الخطر المحدق بهذا البلد. لدينا طالبات وطلاب يحصلون علي الدرجات النهائية في امتحانات الشهادات العامة لكنهم لم يكتسبوا من التعليم معارف حقيقية، كل ما اكتسبوه مهارات الإجابة النموذجية علي أسئلة الامتحانات، غاب الهدف الأساسي من وراء التعليم أعني المعرفة، وأصبح هدف الطلاب وأولياء الأمور المجاميع العالية بغض النظر عن وسيلة الوصول لها، وبغض النظر عما تم تحصيله من معارف وقدرات بالفعل، ومن يعمل بالتدريس في الجامعة لا بد أن يستشعر الخطر من تراجع المستوي المعرفي للطلاب المتفوقين الذين يلتحقون بالجامعة. مجاميع عالية، ومستوي معرفي متراجع! كيف؟ وأين تكمن المشكلة؟ المشكلة في تقديري تكمن في تضاؤل المقررات الدراسية وانكماشها المستمر وخلوها من المحتوي الذي يكسب الطالب المعارف المطلوبة، الانكماش الذي يأتي تحت ضغط الرأي العام وأولياء الأمور بزعم الحشو في المناهج، وخضوع وزارة التربية والتعليم لهذه الضغوط و«تخفيف» المناهج الدراسية المرة تلو المرة حتي خلت من المحتوي، وأصبحت هيكلا فارغا. كذلك انفراد «التربويون» بوضع المناهج، ومعظم الأجيال الجديدة منهم، ممن تخرجوا من كليات التربية بعد أن أصبحت تخرج طلابا في المرحلة الجامعية الأولي يمتلكون قدرات عالية في الجانب التربوي، يمتلكون أدوات بناء منهج دراسي من الناحية الشكلية لكنهم لا يمتلكون القدر الكافي من المعرفة بالمحتوي العلمي المتخصص في المواد الدراسية المختلفة، والنتيجة خواء المقررات الدراسية. لقد أتيح لي أن أطالع مقررات الدراسات الاجتماعية في المرحلة الابتدائية التي كانت مقررة في العام الدراسي الماضي، 2009 2010، وهي ست كتب للصفوف الرابع والخامس والسادس من المرحلة الابتدائية، لكل صف كتاب للفصل الدراسي الأول وآخر للفصل الدراسي الثاني. من خمسين سنة عندما كنا طلابا في المرحلة الابتدائية كانت هذه المادة تسمي المواد الاجتماعية، وكانت تتكون من ثلاث مواد منفصلة عن بعضها لكل منها كتاب مستقل، التاريخ والجغرافيا والتربية الوطنية، ولكل من المواد الثلاث، ساعات دراسية منفصلة. انكمشت المواد الثلاث لتصبح مادة واحدة بكتاب واحد. كتاب صغير الحجم خال من المحتوي كثير الأخطاء. لكن قبل أن أسترسل في الحديث عن عيوب الكتب المقررة في المرحلة الابتدائية في مادة الدراسات الاجتماعية، ما المستهدف المطلوب من تدريس التاريخ والجغرافيا والتربية الوطنية أو التربية المدنية للطلاب في هذه المرحلة العمرية، بين الثامنة أو التاسعة والحادية عشرة أو الثانية عشرة من العمر؟ أظن أن الهدف الأساسي العام أن يكتسب التلميذ معرفة بالمفاهيم الأساسية للجغرافيا والتاريخ ولماذا يدرسهما، وذلك بشكل مبسط يلائم هذه المرحلة من العمر. ثم أن يكتسب التلميذ المعارف الأساسية عن جغرافية مصر في إطار علاقتها بقارتها الأفريقية وانتمائها إلي عالم البحر المتوسط والعالم العربي، في حدود ما يمكن أن تستوعبه مداركه في هذه المرحلة الدراسية. وكذلك المعرفة بتاريخ مصر وحضارتها في مختلف العصور بشكل متوازن. ولابد أيضا أن يكتسب التلميذ معرفة بالنظام السياسي المعاصر في مصر بصورة تلائم مدركاته. من ناحية أخري ينبغي أن تسهم المادة في تنمية القدرات الذهنية لدي التلاميذ، وتساعد في تملكهم وسائل متنوعه في اكتساب المعرفة، وتنمي لديهم مهارات البحث وحب الاطلاع والتفكير النقدي. وفي النهاية يجب أن تنمي هذه المادة التي تضم في داخلها ثلاث مواد دراسية قيم المواطنة، والانتماء، والمساواة، واحترام القانون، وتقبل الآخر المختلف، والاعتراف بالتنوع البشري والثقافي، والحفاظ علي البيئة لدي الأطفال والناشئة في هذه السن المبكرة. ورغم أن من قاموا بوضع المقررات الدراسية يدركون علي ما يبدو معظم تلك الأهداف، ويظهر هذا جليا من خلال ما صاغوه في مقدمات الكتب الدراسية، وفي بداية كل وحدة من الوحدات في كل مقرر من المقررات، فإن مناهج الدراسات الاجتماعية في تقديري لم تنجح في تحقيق هذه الأهداف. وللحديث بقية...