ذهبتُ إليه فى مكتبه بجريدة «السياسة» الكويتية بعد الزوبعة الفضائية، التى ثارت، ولم تخمد بسبب حديثه مع المشير عبد الفتاح السيسى.. أكثر من 30 مداخلة للرجل طيلة اليوم الذى صدرت فيه جريدته يتصدرها فى الصفحة الأولى مانشيت: «السيسى لأحمد الجار الله: حُسم الأمر.. وسألبى مطالب الشعب».. وتليفون الرجل لم يهدأ من الرنين من كل أنحاء العالم.. لذا كان صعبًا جدًّا أن أقابله فى هذا اليوم.. ولم أستطع حتى التقاط هاتفه «غير مشغول» لأحدّثه، وأحدد معه موعدًا.. فصبرت هذا اليوم.. وفى اليوم الثانى ذهبت مباشرةً إلى مقر جريدة السياسة الكويتية بعد الرابعة عصرًا دون موعد.. وحظى أن الرجل كان بمفرده، حيث يمتلئ مكتبه عادة بالكثيرين.. فاستقبلنى مرحبًا وبحفاوة ملحوظة .
لم أكن مشغولًا بالمرة بسؤال أرّق كثيرًا من الإعلاميين فى مصر: لماذا يخص السيسى صحفيًّا غير مصرى وجريدة كويتية بهذا الحديث الخطير.. شغلنى أكثر ما قيل عن أحمد الجار الله من البعض أنه ربما لم يتحدث معه أساسًا.. وصورته مع السيسى المصاحبة للحوار كانت مناسبة عامة التقى فيها السيسى بوفد إعلامى كويتى زار مصر قبل شهر تقريبًا.. وذهب البعض الآخر إلى ما هو أقل حدة: ربما أجرى الجار الله هذا الحديث مع المشير، لكن لم يقل له ما كتبه نصًا وحرفًا.. وجاء بيان المتحدث العسكرى فى هذا الشأن ما جعل هذا البعض يغالى فى خيالاته، مع أن الفيصل هنا أن البيان لم يكذّب إطلاقًا ما كتبه الجار الله، لكنه قال فيه بعض الاجتهاد من رئيس تحرير السياسة الكويتية.
وكان من الطبيعى أن أسأله هذا السؤال المباشر مع يقينى أن الاجتهاد فى مثل هذه الحوارات أمر مقبول، شريطة أن لا يتجاوز الكاتب فى اجتهاده، فينقل عن الرجل نقيض ما قاله تمامًا.. ولا أظن أن صحفيًّا بقيمة أحمد الجار الله يغامر بتاريخه الطويل الممتد من أجل حوار مع شخصية محورية فى هذا الوقت تحديدًا.. ويكتب على لسانه ما لم يقله، فيخسره إلى الأبد.
قال لى ضاحكا: إنت عارف يا أخ أحمد مسرحية «شاهد ماشفش حاجة».. عندما قال عادل إمام لرجل الشرطة «أصرت» فصحح له الضابط، وقال «ألحت» لأ أصرت.. لأ ألحت.. اكتب يا حسين، وضحكنا كلنا ما بين الكلمتين والمعنى واحد.. هذا يجعلنى أضحك ممن يقولون إنه اجتهد.. فحتى لو أن هناك اجتهادًا، وهو مشروع فى حوارى مع السيسى، فلم يخرج هذا الاجتهاد عن «أصرت وألحت»، لأن المعنى واحد، والنتيجة واحدة.. فالإصرار من الإلحاح، والإلحاح من الإصرار.. المهم فى النهاية أن الرجل سيرشح نفسه حتمًا لرئاسة الجمهورية، وأظن أن الشارع العربى كله يعرف هذا الأمر، والسيسى نفسه لا يملك الآن والآن تحديدًا القرار.. «خلصت» مثلما تقولون فى مصر.. فكنت أتمنى بدلا من استهلاك الوقت فى تفاهات،
أو هكذا أراها، أن نناقش فحوى الحوار الطويل، ونتحدث فيه ونحللّه تفحيصًا وتمحيصًا، لنعرف إلى أين سيأخذنا هذا الرجل.. فخطوته محسوبة وبدقة ليس على المستور الإقليمى فى مصر فقط، لكن على المستويين العربى والعالمى.. هذا هو المهم بدلا من مراهقة التفكير وسذاجته.. لماذا قال ذلك لصحيفة كويتية، ولم يقله لصحيفة مصرية.. فنحن كعرب لنا فى السيسى مثلما لكم أنتم فيه.. ولو أدرك المعترضون هذا المعنى جيدًا، ما تفوّهوا بمثل هذا الكلام الرخيص.. ويكفينى ما قاله الصحفى الكبير الأستاذ مكرم محمد أحمد بأن السيسى حر فى اختياره لمن يوجه حديثه، وبدلا من أن نغار كالصغار من شطارة صحفى كبير، أولى بنا أن نلوم أنفسنا لماذا لم ننجح نحن فى اقتناص هذا الحوار.
■ تقول إن السيسى لا يملك الآن والآن تحديدًا القرار.. من أين لك كل هذه الثقة.. فالرجل إلى الآن لم يعلن هذا الأمر رسميًّا، ولم يتقدم بأوراق ترشحه، حتى وإن خصّك أنت بهذا التصريح؟
- قطعًا.. الأمر خرج من يد السيسى.. الذى لا تعرفه يا صديقى أن الشعب العربى من محيطه إلى خليجه يريد السيسى.. فالأمر لم يعد يخص مصر وحدها.. بل شعوب العالم العربى قاطبةً.. هل تعلم أن عدد الذين دخلوا على موقع السياسة الكويتية بعد نشر هذا الحوار تعدى المليون ونصف المليون، درجة أن الموقع من كثرة الضغط والزيارات «هنّج».. أحدثك عن الشعوب العربية فى بلادها الأم، وفى بلاد الله خلق الله فى العالم كله.. السيسى ليس رئيسًا مصريًّا.. لكنه زعيم «عربى»، والكلمة أعنيها وعلينا أن ندرك مقصدها.. علينا أن نفرح بزعيم عربى يقود سفينة البناء والتقدم ويعيد إلى العرب هيبتهم التى افتقدوها منذ سنوات.
■ هل تعتقد أن المشير السيسى منذ أن وقف بجانب شعبه فى ثورة 30 يونيو كانت عينه على كرسى الرئاسة، أم أنه فى حقيقة الأمر زاهد إلى حد التصوف فى الوصول إليه؟
- يقينًا أقول لم يكن فى باله إطلاقا هذا الحلم، الذى يراود الكثيرين.. وهو لا شك حلم، لكنه حلم أشبه بالكابوس عند من يدرك حجم الأخطار التى ستقابله.. ومطالب 90 مليونًا محرومين من تحقيق القليل منها منذ سنوات ليست أبدًا بالقليلة.. الرئاسة خاصة رئاسة دولة بحجم مصر ليست رفاهية.. والسيسى يدرك ذلك جيدًّا.. ويدرك أنه معرّض بحكم طبيعة الشعب المصرى «لا يحب أوى.. لا يكره أوى».. أقول معرّض للانتقاد بسبب استعجال من وضعوا ثقتهم فيه، وينتظرون البشارة دون قليل من الصبر.. ومع ذلك واستجابة لهذا الحب الجارف الذى لم أرَ مثله إلا لعبد الناصر، قرر الرجل تحمل المسؤولية.. وسوف يعلنها لكم صراحةً: لا أملك عصا موسى.. لكننى أملك إرادة شعب منحه الله كل سبل التقدم والرخاء.. فيدى فى يديكم نبنى وننهض.. ولا مكان عندى للمتقاعسين.
وبمناسبة ذكر عبد الناصر وتشبيه الكثيرين للسيسى بهذا الرجل الزعيم.. أقول هناك فرق جوهرى يصب فى صالح السيسى على حساب عبد الناصر.. فالأول قام بثورة، وأطاح بملك.. لكن بعد الثورة أصبح فى مصر بدلا من الملك مئة ملك.. امتلك الضباط الأحرار كل مفاصل الدولة المصرية وقتها، وهم غير مؤهلين لذلك.. لكن كانوا فى انتظار الهدية مقابل ما قاموا به.. أما السيسى فلم يقم بثورة.. قولًا واحدًا.. دعك من مهاترات الساذجين الذين يرون 30 يونيو انقلابًا.. السيسى، وأكررها، لم يقم بثورة، لكنه منع ثورة إخوانية خسيسة المقصد، كان بحكم موقعه يعلم بصفقاتها واتصالاتها.. واتفاقها بالتفريط فى أرض مصر دون أن تكسو وجوههم حمرة الخجل.. لذلك وقف بجانب شعبه فى مطلب مشروع وثورى..
■ فى ظنك كيف ستكون استجابة الشعب المصرى إذا ما أصبح السيسى رئيسًا.. والرجل يريد منه أن يستيقظ فى الخامسة فجرًا ليكد ويعمل؟
- ربما فى البداية نتيجة تراخى سنوات عدة يستصعبون هذا الأمر، ويتململون منه.. لكن عندكم مثل شديد الروعة والوجاهة أيضًا «حبيبك يبلع لك الزلط».. لذلك إن أردتم النهوض الحقيقى وتعويض ما فات.. فاستجيبوا لنداءات هذا الرجل.. مثلما استجاب شعب الهند لغاندى المجاهد الثورى الأشهر فى تاريخ الأمم، الذى كان يمشى حافيًّا، وعاش وشعبه على الملح حتى أكلوا بعد ذلك الشهد.. انظر إلى الهند الآن لترى كيف كان غاندى يتمناها بعد 100 عام.. الرفاهية لا تخلق شعبًا مناضلًا.. المعاناة وحدها تنتزع الطموح من صاحبها إن كان جادًا فى إحداث التغيير.. وشعب مصر شعب عظيم بحق.. وثورتان فى ثلاث سنوات ورئيسان فى السجن.. إنجاز غير مسبوق فى تاريخ أعظم دول العالم.
■ ما رأيك فى من يعارضون ترشح السيسى، مع احترامهم لقدره وشخصه ووقفته الشجاعة، بحجة رفضهم للحكم العسكرى؟ - كلام لا محل له من الإعراب.. وطنطنة لا معنى لها.. أيزنهاور يا أخى أنقذ أمريكا، ورسم مستقبلها، وهو رجل عسكرى.. ديجول فى فرنسا كان رجلًا عسكريًّا.. فرانكو أوقف حربًا أهلية فى إسبانيا، وصعد بها لمصاف الدول الكبرى، وجعلها قبلة السياحة الأولى ربما فى العالم، حيث يزورها 70 مليون سائح سنويًّا.. المعيار هنا ليس فى هوية من يحكم.. لكن المعيار الحقيقى ماذا يمكنه أن يفعل، وهل هو قادر ويملك مقومات هذا الفعل.. دعك من هذا الهراء.. أنتم فى مرحلة تحتاجون فيها إلى رجل وزعيم يستطيع التحدى، بل دعنى أقولها لك يعشق التحدى.. ويدخل فى مواجهة معه بثبات يُحسد عليه.. يبدو مطيعًا، لكنه عنيد.. يبدو طيبًا، لكنه شرس.. كان يبدو أنه لن يفعل شيئًا، لكنه فعل كل شىء.
■ هذا يقودنى إلى سؤال مهم.. المرشحون الآخرون للرئاسة.. كيف تراهم؟
- مبتسمًا قال: وأين هم هؤلاء الذين ينوون الترشح.. كل يوم ننتظر قرار أحدهم ولا نرى واحدًا قرر بشكل نهائى خوض المعركة.. بماذا نُسمّى مثل هؤلاء؟.. من يخاف مواجهة رجل يرى أنه سيكسحه.. إذن بأى حق تتجرأ وتحلم بحكم مصر.. أنا أتمنى فعلًا أن أرى منافسًا شرسًا للسيسى.. لكن كل من حوله لا يرون فى أنفسهم بعضًا من الشراسة.. فكيف أراها أنا، وهى والعدم سواء.
■ هناك إذن مشكلة.. ماذا لو لم يرشح أحد نفسه أمام السيسى.. وكيف ستجرى الانتخابات وقتها؟
- ستجرى حتى لو كان السيسى هو المرشح الوحيد.. تكون بالتزكية أو مبايعة.. سمّها ما شئت.. غير أننى على المستوى الشخصى حزين لهذا الرعب الذى يملأ قلوب من يرغبون فى الترشح.. ومثل هؤلاء البعد عنهم غنيمة.. اللى يخاف يقعد فى بيته وينقطنا بسكاته ويشد البطانية وينام ويشخر كمان!
■ لا أخفيك سرًا أننى قلق وبشدة من بطانة السوء التى تحيط دائمًا بالرؤساء.. وأخشى ما أخشاه أن يُفسدوا الرجل ويخيب ظننا به وفيه.
- خذها منى وبثقة.. لقد جلست مع السيسى وتعرفت عن قرب على رجاله والمحيطين به.. وأقسم لك ما من واحد منهم إلا ورأيت فيه عشقًا لتراب هذا البلد وتفانيًّا لا تراه إلا فى مقاتل محب مؤمن إيمانًا شديدًا بأن المناصب إلى زوال، ولا تبقى من ذكرى للرجل بعد ذلك إلا مواقفه التى تشهد عليه، ويسجلها التاريخ.. فلا تقلق أبدًا من هذا الأمر.. أقولها عن ثقة.. إما عن جوقة الطبالين فى الإعلام وخلافه، التى أراها بوضوح شديد، فمصيرهم إلى زوال.. وقليلون جدًّا منهم من سيبقى محتفظًا باحترام الرجل الذى لا يحترم إلا من يعمل ويفنى عمره فداءً للأرض.. لا رياءً ونفاقًا ومحاولة كسب رضى شخص يكره هذه النوعية من البنى آدمين.. اصبروا على السيسى وامنحوه وقتًا، وسوف ترون بأعينكم ما يزيدكم محبةً له ويزيده احترامًا فى أعينكم.
■ ركزت فى حوارك مع المشير السيسى على البعد العربى فى المنطقة.. وقيمة السيسى بالنسبة للحكومات العربية فى هذا الوقت.. وكأنه « المخلّص» الذى كانوا ينتظرونه.. فحدثنى عن هذه النقطة؟
- قلت لك إن السيسى ليس رئيسًا مصريًّا، لكنه زعيم عربى ومحاربته الإرهاب الإخوانى مطلب عربى أصيل.. انظر إلى الحكومة السعودية كيف قويت عزيمتها الآن بعد أن بدأها الشعب المصرى ومعه السيسى فى التصدى وبشدة لهؤلاء الخونة المخربين.. وكذلك الكويت والإمارات.. وها هو السيسى يعلنها لى صراحةً الدعوة لاتحاد عربى مشترك لمكافحة الإرهاب والقضاء عليه قضاءً نهائيًّا.. وأظن أن هذا حلم ليس بعيد المنال فى وجود زعيم بحجم السيسى.
■ هل تعتقد إذا ما أصبح السيسى رئيسًا أن ردود الفعل ستكون أقوى مما عليه الآن من جانب الإخوان والضغوط الأمريكية؟
- الإخوان يا صديقى ماتوا خلاص.. وإكرام الميت دفنه.. أما عن أمريكا فلا أقول إنها سترضخ للأمر الواقع، بل دعنى أقولها وبثقة إنها فعلًا رضخت رغمًا عنها لهذا الأمر الواقع.