استقر في وعي الملايين أن الفن - برمته -حرام .. ومع انتشار السطحية وتوطن الجهل وانقراض قراء الأدب ورغبة الكثيرين في الظهور بمظهر المتدين الغيور استراح السواد الأعظم من الناس لهذا الحكم ..فمن لديه الوقت الآن أو الاستعداد لأن يقراء رواية أو يتأمل لوحة أو يسمع أغنية راقية؟ ..والأهم.. من يفهم أهمية هذه الفنون في الارتقاء بالحياة وتشكيل الوعي والأفكار والنهوض بالأمم ؟..إدراك كل هذا أو جزء منه مجهود تنوء به العقول المشغولة بالبحث عن لقمة العيش أو الحفاظ علي ما يشبه الحياة البشرية أو تبرير الفشل وانعدام الإنجاز أو السيطرة علي النساء أو دخول الجنة دون الاضطرار إلي بذل أي تضحيات حقيقية أو التخلي عن أي شيء يجلب المنفعة، وبالتالي فالأسهل والأريح أن يكون الفن حراماً . وبما أن الفن في العقل الجماعي الآن هو شيء تافه شكلي الغرض الوحيد منه هو التسلية أو الحض علي الرذيلة فإن انتقاده والانتقاص منه والانقضاض عليه بالسب والتسفيه هو من ناحية تنفيس جيد للحقد والغل والاحباطات الاقتصادية والاجتماعية.. ومن ناحية أخري أمر حميد ووسيلة سهلة من وسائل كسب الحسنات «في اعتقاد الكثيرين».. لهذا وبمجرد الإعلان عن فيلم جديد مثلا تنهال علي النت رسائل الحسبنة والحوقلة والأدعية التضرعية لله بألا يؤاخذنا بما فعله السفهاء «الفنانون»..ولا يتوقف الأمر عند ذلك بل يمتد إلي محاولات ذكية للانتقاص من قيمة العمل، بالتالي صرف الناس عن مشاهدته، دون أن يتبادر للذهن أن ذلك يتم لأسباب دينية - كأن تقرأ نقدا لاذعا لفيلم لم يره أحد بعد أو اتهام غير حقيقي بأنه مسروق من فيلم كذا أو توقعات بأنه سيكون رديئاً مثل كذا..واهه كله بثوابه.. وبالرغم مما تنطوي عليه هذه التعليقات الباطلة من كذب وإفتراء فإن صاحبها يظن أنه بذلك يدافع عن الدين ويبعد الناس عن الموبقات، وربما يشعر بعد ذلك بأنه أراح ضميره ومحي سيئاته التي اكتسبها عندما اهتم بقراءة الخبر والنظر إلي الممثلات في الصورة المرفقة. لكن الذنوب لا تمحيها ذنوب أكبر والانتصار للدين لا يكون بانتقاء المعارك السهلة فقط وتجنب كل ما يمكن أن يؤدي إلي خسائر أو تضحيات حقيقية.. بل إن الهجوم علي الفن بهذه الطريقة الوضيعة يضعفه ويصيب العاملين فيه بالإحباط الناتج عن الشعور بالظلم ويؤدي بالكثيرين منهم إلي الإمعان في الاستسهال والمزيد من الابتذال لأنه مهما فعل فسوف يتهم بالفسق والفساد والتفاهة..وهكذا ويوما بعد يوم نهدم بأيدينا وسيلة من أهم وسائل التقدم والرقي ونترك الساحة الفنية لاعدائنا ليتفوقوا فيها مزيدا من التفوق فتزداد الهوة الحضارية بيننا اتساعا وعمقا.. ناسين أن كل الأمم العظيمة في التاريخ وعلي رأسها الأمة الإسلامية أنتجت فنا عظيما وفي كل المجالات وكان من أهم ما بقي من آثارها ودل علي تفوقها وعظمتها.