عندما يسترخي القارئ، وفي يده رواية ما، أو يجلس المشاهد ليتابع فيلما، فإن كلا منهما يتعامل مع الرواية أو الفيلم علي أنه وهمٌ يمكن الخروج منه بسهولة بمجرد طيّ الكتاب أو الضغط علي الريموت كنترول.. يقابل البطل كل ما لذ وطاب من العراقيل والمشاكل، ويتعاطف معه المتلقي ولكن في حدود.. يعلم أن كل هذا للاستمتاع فقط.. ولكن مابالك إذا كان ما تقرأه حدثًا واقعيًا، وقصة حقيقية تنضح بالألم والمرض؟ هذا ما سوف تقابله عندما تقرأ كتاب «الرحلة 811.. رحلتي مع السرطان» للكاتبة «هويدا حافظ».. الذي صدر حديثا عن دار «دون». و«هويدا حافظ» الصحفية المصرية والمتخصصة في أدب الأطفال لم ترد أن تطرح قصتها بتقليدية ومباشرة من خلال عرض الأحداث، بل منحها إبداعها في قصص الأطفال موهبة تحويل قصتها الضاربة في الحزن والألم إلي قصة شيقة بالفعل.. بدأتها بطريقة «الفلاش باك»، حيث تسترخي في الطائرة المتجهة إلي أمريكا، لتنظر إلي السحاب الذي تطير فوقه ماديا ومعنويا بعد شفائها من مرضها اللعين.. بل إنها تبدأ قصتها بمفارقة درامية حين تكتشف أن الطائرة التي تقلها تحمل رقم «811»، وهو نفس رقم غرفتها في المستشفي الذي قضت داخله أصعب أيامها مع المرض الخبيث. البداية مع الأم.. «السرطان»، هذا المرض الذي دائما ما يكون مصحوبا بشفقتنا وحسرتنا، إذا أصيب به غيرنا، يقترب الآن أكثر ليسكن في البيت نفسه.. تصحو الكاتبة من نومها، لتكتشف ألم والدتها الذي تسبب في إجراء عملية فورية لاستئصال الثدي بعد علمهم بإصابتها بسرطان الثدي. ولم تتحمل الأم توغل السرطان في خلايا جسدها فماتت بعد أربع سنوات من المعاناة، لتنتهي آلامها وتبدأ آلام أولادها.. آلام فراق الأم الحنون، وآلام التخوف من المستقبل بعد علمهم بأن المرض الخبيث حط رحاله في هذه العائلة.. وفي غمرة الألم من فراق الأم تعقد الكاتبة وأختها اتفاقا علي ألا يتلقيا علاجا، إذا أصيبت إحداهما بالسرطان مادامت النهاية هي الموت، كما حدث مع أمهما.. هذه المشاعر الشخصية المتدفقة والحوارات النفسية الصامتة أحيانا هي ما ترفع قصة «هويدا حافظ» من مجرد قصة واقعية ذاتية مؤلمة إلي قصة ممتعة.. تتضافر فيها عوامل الواقعية مع عوامل التشويق. ولم تكد تخرج الكاتبة من تبعات موت والدتها حتي مات والدها، مخلفا فراغا كبيرا، ويتزامن في هذا الوقت شعورها بأول ألم يغزو صدرها، لتكتشف أنها أصيبت بنفس ما أصاب والدتها، وتقرر الأختان بعد نظرات صامتة دامعة أن تنقضا اتفاقهما، وأن تجري الكاتبة عملية الاستئصال علي وجه السرعة. بعد العملية يأتي دور «الكيماوي».. هذا الاختراع المرعب، الذي يكفي ذكر اسمه، لتتوالي مصمصة الشفاه ونظرات الشفقة والحسرة.. والعجيب أن هذا الفصل من الكتاب يحتوي علي بسمات لطيفة رغم مشاعر الحزن المتدفقة.. لحظة سقوط الشعر المصاحب للكيماوي، هذه اللحظة المرعبة التي يخشاها كل مريض، وربما تحمل آلام المرض ليتجنبها تذكر والدة أحمد حلمي في فيلم ألف مبروك، هذه اللحظة تحولها «هويدا حافظ» إلي ضحكات بينها وبين أقاربها وأولادها الصغار بالخصوص.. حيث لا يجد ابنها كلاما مناسبا وسط ضحكاتها ورضاها بقضاء الله، إلا أن يقول لها :إيه ده؟ حسام حسن عندنا؟ هذا هو ما يميز الكتاب.. فالكاتبة لم ترد أن تستدرَّ عطف القارئ، ولا أن تلعب علي مشاعره الحزينة ولا دموعه المتعاطفة، بل إنها أرادت أن تحكي حكايتها كما هي، بصبرها ورضاها وقوة تحملها ولطف الله بها أولا وأخيرا. وتصاب الكاتبة مرة أخري وتتحمل عملية أخري، وعلاجا كيماويا آخر بعزيمة وصلابة.. وتختم كل هذا برحلة إلي الحج.. لتنتهي آلامها تماما.. فتصبح رحلتها إلي الحج نهاية لرحلتها مع المرض وبداية لرحلتها مع التألق والجوائز والصحة.. فقد عاد إليها كل ما فقدته وأكثر.. كتبت العديد من القصص، ونالت العديد من الجوائز وتفوقت في عملها أكثر.. حتي شعرها الذي فقدته عن طيب خاطر عاد إليها أكثر كثافة وجمالاً وتألقًا.. بل إن رحلتها إلي أمريكا هي في الأساس رحلة سباق للجري، تابعة لمؤسسة دولية لمكافحة السرطان.. لتصبح بين ليلة وضحاها من إحدي ضحايا المرض اللعين إلي واحدة ممن تربت علي كتف مرضاه! ولم تنس الكاتبة أنها كاتبة أطفال حتي في قصتها الواقعية.. فذيلت كتابها بفصل هو أقرب إلي الدرس المستفاد من «الحدوتة».. هو أن السرطان ليس شهادة المغادرة المحتومة.. بل إنه بالقرب من الله والصبر والرضا والفحص الطبي المستمر، يصبح منحة وليس محنة.