دائمًا عندما يحل عيد الأضحى أتذكر علاء ولىّ الدين، مات فى صباح ذلك اليوم قبل أكثر من عشر سنوات، صلّى الفجر وبعدها بساعات قليلة كنا نصلى عليه فى نفس الجامع. كانوا يطلقون عليه «الفنان السمين»، ولكنى رأيته رشيقًا.. إن السمنة هى وصف مباشر لحالة الجسد، لكن الرشاقة تعنى أسلوب إدارة هذا الجسد.. وهو بهذا المقياس أستاذ فى الانسياب والمرونة، تلمح ذلك فى الحركة واللفتة والإيماءة والتعبير والإحساس!
كان يعلم أن النظرة التقليدية إلى وزنه الزائد يتم ترجمتها فى قانون الكوميديا السائدة من خلال التراث الإنسانى لا المصرى فقط إلى ضحكة مضمونة لكنها ضحكة عمرها قصير، ولأن بداخله موهبة حقيقية وافق ظاهريًّا على شروط اللعبة، ثم بعد قليل قرر أن يتمرد ليلعب بقانونه حتى لا يتحول إلى مجرد «نمرة» فى سيرك الضحك الذى ينصبه البعض، فى كل المواسم ومختلف الأزمنة!
علاء وُلد فى بيئة فنية، والده هو الفنان سمير ولى الدين، وأول من أمسك به بعد ولادته هم أصدقاء والده عادل إمام وسعيد صالح وصلاح السعدنى، لهذا قرر أن يبدأ الخطوة الأولى من رحلة الألف ميل بالدراسة الأكاديمية واتجه على الفور إلى المعهد العالى للفنون المسرحية. عندما تقدم بأوراقه فى مطلع الثمانينيات سأله أحد الأساتذة عن مسرحية «المعطف» مَن كاتبها، وربما أخفق ولم يتذكر أنه جوجول، وغالبا لم يكن قد سمع بهذا الاسم على الإطلاق.. وهكذا خرج من المعهد بعد أن تبدد حلمه فى الالتحاق بقسم التمثيل، إلا أنه لم يعتبرها نهاية العالَم، فإذا كان المجتمع يفرض عليه أن يحصل على مؤهل جامعى فهو قادر على أن يقتنى هذه الشهادة، لهذا تقدم بأوراقه إلى كلية التجارة، إلا أنه كان يقضى أغلب أوقاته فى كافيتريا معهد المسرح.
المؤكد أن المخرج المسرحى شاكر خضير عندما وقع اختياره على علاء ليقول كلمة واحدة، وعلى وجه الدقة كلمتين بينهما أداة نداء هما «تمام يا فندم» فى مسرحية «مطلوب للتجنيد»، لم يكن يدرى أنه يكتب له شهادة ميلاده، تحولت كلمة «تمام يا فندم» إلى دور، وتتوالى من بعدها الفرص التى أجاد علاء اقتناصها!
استوقفنى فى البدايات فيلم «أيام الغضب» للمخرج منير راضى حيث كانت أحداث الفيلم تجرى داخل مستشفى الأمراض العقلية، قدم دورًا يقطر إنسانية، وتلتقطه عين الخبير شريف عرفة ويتحرك فى مساحات ضئيلة لكنها مؤثرة من «يا مهلبية يا» إلى «الإرهاب والكباب»، وبعدها «المنسى» ثم «النوم فى العسل» ثم «بخيت وعديلة» الجزء الثانى إخراج نادر جلال، مما يحقق لعلاء فرصة ليتعرفه الجمهور أكثر ويقترب هو من الناس أكثر وأكثر.
أتذكّر أننى كتبت عام 96 على صفحات مجلة «روزاليوسف» بعد عرض فيلم «حلّق حوش» لمحمد عبد العزيز، مطالبًا علاء وهنيدى بأن لا يستسلما للقانون السائد وأن يرفعا راية العصيان، فلقد كنت أدرك أن التغيير قادم لا محالة، وأن الناس تتعطش لنجوم جدد ولأسلوب فى الضحك يتواءم مع شباب لديه شفرة مختلفة. اندلعت ثورة المضحكين الجدد فى عام 1997 بعد نجاح فيلم «إسماعليلة رايح جاى»، وبعد عامين من إعلان البيان الأول للثورة على يد محمد هنيدى جاء مشروع فيلم «عبود ع الحدود» لشريف عرفه، وتتوهج موهبة علاء ثم ينتقل إلى «الناظر» مع نفس الكاتب أحمد عبد الله والمخرج شريف عرفة، ويؤدى علاء ست شخصيات متباينة فى نفس الفيلم أبرزها الأم والأب، ليصبح «الناظر» هو أيقونة الأفلام الكوميدية لهذا الجيل، ولا يزال محتفظا بنفس المكانة.
كان علاء فنانًا يمتلك بوصلة العقل وبوصلة المشاعر.. استطاعت بوصلة العقل أن تحرره من قيود المخرجين الذين أرادوا أن يضعوه فى خانة الفنان السمين، فأثبت لهم أنه فنان «ثمين» فى الموهبة، ثم جاءت البوصلة الثانية فى مشاعره لتحرره فى عز الشباب حتى من قيد الجسد!
يقولون إن الله عندما يختار الأطفال ليصعدوا إلى ملكوته يريدنا أن نظل حتى نهاية العمر نتذكر وجوههم البريئة التى لم تهزمهما التجاعيد ولم تعرف الأحقاد، وهكذا علاء ولى الدين سنظل نحتفظ بملامحه فى ذاكرتنا، ونراه دائمًا هذا الطفل الذى لم يعرف وجهه تجاعيد الزمن ولا قلبه تجاعيد الحقد.. وجه طفل تعلوه البراءة، عاش طفلًا حتى وصل إلى الأربعين.. ولا يزال الطفل يسكن السماء!