مشكلة البحث العلمى فى مصر تكمن فى عدم وجود رؤية محددة لتحقيق أهداف علمية واضحة
75% من الباحثين المصريين يهربون من مصر دون عودة.. والدولة تعانى من نزيف عقول منذ 90 سنة
حكومات تذهب وأخرى تأتى، وكل منها يؤكد أهمية البحث العلمى فى تحقيق نهضة اقتصادية وعلمية لمصر، وكل منها يعلن عن خطط ومشروعات وخطوات فورية لانتشال البحث العلمى من عثرته، وينتهى الأمر عادة إما بفصل وزارة البحث العلمى عن وزارة التعليم العالى، واعتبارها وزارة دولة، أو إعادة دمجهما معًا. بين الخطوة والأخرى يبقى حال البحث العلمى فى مصر محلك سر.. لذا كان الحوار ضروريًّا مع الدكتور هانى الناظر الرئيس السابق للمركز القومى للبحوث، خصوصًا أنه من أهم المعارضين حاليا لما طرحه الدكتور عصام حجى المستشار العلمى للرئيس عن إنشاء مجلس قومى لعلماء مصر.
■ كيف ترى نظرة مصر إلى البحث العلمى فى المرحلة الانتقالية الحالية؟
- ما زالت نظرة مصر إلى البحث العلمى غامضة، ونجد وضع البحث العلمى فى مصر سيئًا للغاية فإذا نظرنا إلى وضع وزارة البحث العلمى فى مصر نرى أنها وزارة وحقيبة دولة لا وزارة بحث علمى، وهى وزارة مجاملات، كما هى طوال السنوات السابقة قبل ثورة يناير وبعدها وبعد نظام مرسى وحتى هذه اللحظة وهذه نقطة خطيرة تعكس سوء النظرة للبحث العلمى، وتتبلور مشكلة البحث العلمى الرئيسية فى مصر فى عدم وجود رؤية أو استراتيجية محددة تسعى لتحقيق أهداف علمية واضحة، وتتضح أيضا مشكلة التوزيع، التى أدت إلى مشكلتين مشكلة إدارية ومشكلة بالميزانية، فالمرتبات ضعيفة جدا، التى من المفترض زيادتها، وأن تصل إلى مستويات عالمية، لكى تخدم العلماء، إضافة إلى أن مصر تعانى من نزيف عقولها منذ تسعين سنة، وضياع خير عقول مصر، فالباحثون والعلماء المصريون يسافرون إلى الخارج دون عودة بنسبة تتراوح بين 50% و75%، حيث يتوفر لهم بالخارج الإنفاق والإمكانيات والاهتمام الكافى وحرية الإبداع والفكر والرعاية الصحية والاجتماعية، وتتضح كذلك من أهم المشكلات الرئيسية التى تواجه البحث العلمى فى مصر هى غياب عملية التسويق، فالأبحاث التى تسوق فى مصر هى كلها مجهودات فردية، لكن لا يوجد نظام للدولة أو الحكومة لتسويق الأبحاث وتحويلها إلى واقع يخدم المجتمع سواء صناعى أو زراعى، فما زالت نظرة الحكومات المتعاقبة بما فيها الحكومة الانتقالية للبحث العلمى نظرة قاصرة، والسؤال الذى أطرحه على الحكومة الحالية ماذا قدمت للبحث العلمى؟ ما الرؤية؟ وهل مهمتها قاصرة على تسيير الأعمال؟ أم المفترض أن تعمل وزارة البحث العلمى فى الفترة الانتقالية على استغلال الوقت وأن تضع رؤية واستراتيجية لمستقبل البحث العلمى بمصر وتسير عليها الحكومات المتعاقبة وهذا دورها فى المرحلة الانتقالية.
■ وماذا عن مستقبل البحث العلمى بمصر؟
- أنا ما زلت متفائلًا، شرط أن يتغير الواقع خصوصًا نظرة الدولة إلى البحث العلمى، ففى مرحلة ما بعد الانتقالية نحتاج إلى وزير بحث علمى أولا قبل الوزارة، ولا بد من فصل وزارة البحث العلمى عن وزارة التعليم العالى والبعد تمامًا عن نظام المجاملات والكوتة وتوزيع الوزارات وزارة للسيدات ووزارة للأقباط، حيث يتم تحديد معايير ووضع أناس قادرة على تولى مسؤوليات فى مجال البحث العلمى واختيار وزير له خبرات إدارية فى المجال العلمى وله رؤية لمستقبل مصر العلمى، ويستطيع أن يربط مستقبل مصر بالبحث العلمى واحتياجات المجتمع كذلك، وأن يكون صاحب قرار ويحدث نقلة كبيرة بوزارة البحث العلمى، وعلينا أن نعيد النظر إلى وزارة البحث العلمى، حيث لا تصبح وزارة الدولة للبحث العلمى، لكنها تصبح وزارة العلوم والتكنولوجيا، وأن يضم إليها جميع المراكز البحثية التى تتبع الوزارات الأخرى من وزارة الصناعة والزراعة والكهرباء وغيرها، وتتاح لها ميزانية ضخمة لتنفيذ مشروعاتها البحثية وحل مشكلات المجتمع.
■ ماذا قدم الإخوان خلال العام الماضى للبحث العلمى وما مشاريعهم التى حاولوا تنفيذها؟
- الحقيقة ولا شىء بل مزيد من التدهور، فحكومة هشام قنديل سارت فى مجال البحث العلمى على نهج حكومة حسام شرف وأحمد نظيف وعاطف عبيد ولم يتغير أى شىء، كما جاء الإخوان بوزيرة للبحث العلمى بنظام الكوتة، وهى الدكتورة نادية زخارى، ولم تكن مؤهلة تمامًا لهذا المنصب، وأعادت نحو 90% من ميزانية الدولة للإنفاق على البحث العلمى للدولة، حيث كان مخصصًا مليار ونصف المليار للبحث العلمى والإنفاق على الأجهزة والمعدات والكيماويات لم تستخدم منها سوى 18%، وهو يعكس أن حكومة الإخوان لم تهتم إطلاقًا بالبحث العلمى بل زادت من مشكلات البحث العلمى، وعملت على تخفيض وضعف الميزانية المخصصة للبحث العلمى وهو ما استمرت عليه الحكومة التالية الآن بخفض ميزانية البحث العلمى التى وضعت عام 2012/2013.
■ هل ترى أن الشعب المصرى لديه وعى بأهمية البحث العلمى بدءًا من الحكومات وحتى المواطن البسيط؟
- مصر تجسد معادلة غريبة جدا، وهى أن الدولة والحكومات والوزارات لا تؤمن بالبحث العلمى والشعب يؤمن بأهمية البحث العلمى، والدليل على ذلك نرى الشعب يهتم بشدة ويؤمن بكل ما هو علمى مثل اهتمامه بمشروع زويل القومى ومشاركته فى التبرع لبنائه، فالشعب المصرى يعلم جيدا ويؤمن بالحل العلمى ويعلم أنه طريق تقدمه وتطوره أما الدولة والحكومات لا تعرف الحل ولا تؤمن بهذا، لكنى آمل فى دولتنا الجديدة القادمة أن تقوم على العدل والأخلاق والعلم وطالما الشعب مؤمن بذلك فسيبنى بلده كيفما يريد.
■ وما رأيك فى القول بأن البحث العلمى لا يراعى الشارع المصرى؟
- ليس صحيحًا، هناك مثلا أدوية يستعملها المواطن المصرى وهى خرجت من المركز القومى للبحوث وهى أدوية مصرية 100%، والمواطن المصرى لا يعلم، واضرب بى مثلا إننى منذ التسعينيات أنتجت علاجًا لمرض الصدفية، وحتى اليوم يعالج منه الآلاف، وما زال يعالج منه المرضى، وهم لا يعلمون أنه منتج مصرى، وهذا يتعلق بقصور دور الإعلام الذى لا يهتم بالقضايا العلمية بما يعكس عدم اهتمام الدولة بالبحث العلمى، فلو اهتم الإعلام بالقضايا العلمية ستتجه الدولة للاهتمام بها، فقد يكون تقصير دور الإعلام بالاهتمام بالقضايا العلمية وجهود العلماء بمصر يعكس قصور الدولة فى نظرتها للبحث العلمى.
فاين أفلام الخيال العلمى التى كانت تنتج بالسابق، التى كانت من الأسباب التى أدت إلى التطور التكنولوجى الذى نحياه الآن بشكل عام وقادت إلى الابتكارات والاختراعات، أما الآن نجد الأفلام والمنتج الإعلامى المصرى لا يتناول أى من الخيال العلمى فلا بد أن يتجه الإعلام للاهتمام بالقضايا العلمية وجهود الباحثين المصريين وأن تقدم الدراما المصرية لو جزءًا يتعلق بالخيال العلمى لنرى ما يمكن أن يقدمه العلم للمجتمع المصرى بدلا من المستوى الفكرى والفنى المنحدر جدا، الذى يدعو إلى الفساد والبلطجة.
■ ما نسبة النتائج الإيجابية البحثية التى قدمت وما نسبة الاستفادة منها؟
- هى نسب منخفضة، لأنها قائمة على مجهودات فردية وليست فى إطار نظام الدولة وخطتها، لكن هى مجموعة جيدة من المجهودات البحثية الفردية مثل أبحاث تناولت مرض أنفلونزا الطيور، لكن الإنجازات محدودة بنطاق فردى، وليست ناتجة عن نظام دولة مما يجعل مردودها ضعيفًا على الرغم من نجاحها وأهميتها، وإذا خرج هؤلاء العلماء والباحثون للخارج حقيقة نجد أن مردود أبحاثهم قوية وناجحة جدا، حيث تتيح النظم بالخارج للعلماء الإمكانيات والإنفاق والتسويق، ما يعكس أن العيب ليس بالعلماء المصريين إطلاقا، والمشكلة تتجسد فى عدم وجود نظام تسويق يعمل على إنتاج وتسويق الأبحاث وتحقيقها على الواقع، فوظيفة العالم البحث والدراسة وإيجاد حلول لكل المشكلات من خلال البحث العلمى وليست التفرغ للتسويق، وهى أحد أهم العقبات التى تفسد المناخ العلمى والمفترض أن توفر وزارة البحث العلمى قطاعًا كاملًا خاصًا بتسويق الأبحاث والاستفادة منها.
■ كيف أثرت الأحداث السياسية الأخيرة على سياسات ومكانة البحث العلمى بمصر؟
- الأحداث السياسية أثرت بشكل مباشر على البحث العلمى بمصر، حيث تم إهمال البحث العلمى، ولم يكن هناك أى اهتمام به فى ظل الأحداث السياسية، كما أنه وقع الاختيار على المسؤولين عن البحث العلمى بواقع الضغط والأحداث المتسارعة، فلم يتم الاختيار بشكل صحيح، بل كان الاختيار على طريقة المجاملات والكوتة والبيعة من خلال اختيار سيدة قبطية لتكتمل الصورة الجميلة، مؤكدا أنا لست ضد أن يتولى السيدات القبطيات وزارات كبيرة مثل وزارة الصناعة أو الزراعة طالما هن بقدر تلك المسؤولية، لكن ليس لمجرد اختيار سيدة قبطية بوزارة خفيفة بنظرهم مثل وزارة البحث العلمى مما قد عاد بالضرر على وزارة البحث العلمى ومكانة البحث العلمى ودوره بمصر، فعلى الدولة والحكومات أن تدرك جيدا أن تقدم وتطور مصر بيد العلماء وتطور البحث العلمى، فالدول القوية سياسيًّا هى فى الأساس قوية تكنولوجيًّا وعلميًّا مثل أمريكا واليابان وألمانيا، التى تؤمن وتقدس العلم والتكنولوجيا، فإذا أردنا لمصر أن تكون دولة قوية ذات شأن سيادى وتملك الديمقراطية وتحقق الحريات الكاملة علينا فقط بالعلم.
■ ما المكتسبات التى عادت على مكانة ودور البحث العلمى فى ظل الأحداث السياسية عقب ثورتى 25 يناير و30 يونيو؟
- ربما يكون المكسب الوحيد أن الدولة قامت العام الماضى برفع مرتبات الباحثين بالجامعات، لكنى لا أراه سوى مكسب هزلى، حيث تم رفع المرتبات دون رفع الميزانية التى تصرف على الأبحاث والأجهزة والمعدات، فكان لا بد من رفع المرتبات وميزانية الأنفاق معًا لتيسير عمل الباحثين والعلماء.
■ علمت أنك كنت ضمن من طالب بتعديل مواد دستورية خاصة بالبحث العلمى بالدستور المعطل؟
- بداية أنا سعيد جدا بالتعديلات التى تناولها الدستور المعطل وحذف المادتين «12 و214»، وكنت قد طالبت فى الوسائل الإعلامية بحذف المادة المتعلقة بتعريب العلوم وكذلك الخاصة بإنشاء المجلس الوطنى للتعليم والبحث العلمى، لكن ما زال البحث العلمى يحتاج إلى مواد خاصة به بالدستور الجديد من خلال أن يكون هناك نص واضح ينص على أن الدولة ترعى البحث العلمى وتهتم به وتعمل على زيادة ميزانيته، والعمل على إنشاء جهاز قومى لرعاية الابتكار والموهوبين، وأنا ما زلت أناشد لجنة الخمسين بما بها من علماء متخصصين أن تضع مساحة للبحث العلمى فى الدستور يتم التعامل معه فى الحكومات المتعاقبة.