كانت كلمة عابرة قلتها على هامش الندوة التى أُقيمت فى مهرجان سينما الخليج بالكويت، حيث أشرت إلى أن الفنان يسعى لكى يتحقق أولًا فى بلده، وكانت بطلة الفيلم التسجيلى «أمل» للمخرجة الإماراتية نجوم الغانم، قد هجرت بلدها سوريا وتوجهت للعمل فى دولة الإمارات وحققت نجاحًا ملموسًا إلا أن هذا لم يمنع أن يطل الحزن بين لقطات الفيلم لأن هذا الحضور لم يشارك فيه أهلها. قالت زميلة صحفية من الكويت إن النجاح من الممكن أن يتحقق خارج الحدود وضربت مثلًا بفريد وأسمهان ونور الهدى وصباح ووردة وغيرهم من الفنانين العرب الذين انطلقوا من مصر، قلت إن مصر دون أى «شيفونية» حالة استثنائية بالتاريخ والجغرافيا، وهى فى العادة تضفى ملمحًا عربيا على فنانيها، وتعارَف الجميع على أن يمنحوا الصفة العربية لا المصرية لمن تقدمه مصر، وهكذا جاءت ألقاب عميد الأدب العربى طه حسين، وسيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، وسيدة الغناء العربى أم كلثوم وغيرها، لم يكن أبدًا الدافع هو إعلان التفوق المصرى بقدر ما هو تأكيد على عروبة الإبداع، والدليل أن الفيلم المصرى حتى فى مصر يوصف بأنه فيلم عربى، التليفزيون عندما وُلد فى 21 يوليو عام 60 كان اسمه التليفزيون العربى لا المصرى.
بعد أن انتهت الجلسة كانت لا يزال بعض الاعتراضات، ربما لأننى لم أكن واضحًا أو لفرط الحساسية فى تناول تلك القضية، وتقابلت مع إحدى السيدات الغاضبات وقالت لى إنها حاملة لدرجة الدكتوراه فى الآداب، وأضافت: هل تعلم مَن الفائز بجائزة «البوكر» هذا العام؟ قلت لها: بالطبع الكويتى الشاب سعود السنعوسى عن روايته «سيقان البامبو»، قالت: هل تعلم مَن منافسه المصرى على الجائزة؟ قلت لها: كان الصديق إبراهيم عيسى بروايته «مولانا» وكان واحدًا من خمسة منافسين، ورغم ذلك بعد إعلان الجائزة بدقائق كان إبراهيم أول المهنئين لسعود بل وقال فى مؤتمر صحفى بثّته كل الفضائيات أن السنعوسى يستحقها وعن جدارة.
مصر دائمًا لا ترى سوى أن الساحة العربية ينبغى أن تتسع للجميع وإذا كان التاريخ يشهد لمصر بهذا الدور فى الدفع للإبداع من فوق أرضها، فأغلب رواد المسرح والصحافة جاؤوا من الشام إلى مصر والمناخ المصرى الثقافى والفنى هو الذى أسهم فى تحقيق هذا الزخم الإبداعى، مع مرور الزمن وثورة الاتصالات أصبح من الممكن أن ينطلق الفنان من بلده إلى العالم العربى، بل إن الفضائيات فى ظل هذا الانتشار الضخم أسقطت تلك الحواجز وصار قانون الفضاء هو الذى يرسم معالم الخريطة الفنية والثقافية على الأرض. تغيرت القواعد ورغم ذلك حاول البعض فى مصر أن يعيد عقارب الزمن. قبل نحو خمس سنوات أصدرت نقابة الممثلين المصريين قرارًا بأن لا يُسمح للفنان العربى إلا ببطولة عمل فنى واحد بحجة واهية وهى أن «جحا أولى بلحم طوره» وتصدت الأغلبية من المثقفين لهذا القرار وكنا ندرك أن وراءه عددا من أصحاب النظرة الضيقة والمصالح الصغيرة أرادوا أن يضربوا بعضا من النجوم السوريين خصوصا جمال سليمان الذى بات يشكل رقمًا على الخريطة الدرامية بعد أن قدم مسلسل «حدائق الشيطان»، لم تسمح القوة الناعمة فى مصر بتمرير هذا القرار لأنه أيضا ضد مصر، وأتذكر أننى بعد إصداره بساعات قليلة كنت على الهواء فى برنامج «البيت بيتك» أهم برامج التليفزيون المصرى فى ذلك الحين، وقلت إن القرار يحمل فى داخله عوامل فنائه، فلا يستطيع أحد أن يفرض أو يحجب فنانًا عن الجمهور بحجة الجنسية، هذا مصرى وتلك لبنانية وذاك خليجى، ثم إن الناس صارت تتابع عبر الفضائيات العمل الفنى الذى تسعى إليه وتفضله ولا تسأل عن الجنسية، وفى مسلسل مثل «عمر» الذى عُرض فى قناة «إم بى سى» رمضان الماضى تعددت الجنسيات بين سوريا وفلسطين ومصر ولبنان والمغرب والسعودية وقطر وغيرها.
نعم محطة مصر كانت هى الطريق السحرى الوحيد للعبور الفنى إلى كل العرب باستثناءات قليلة جدا مثل فيروز والرحبانية الذين نجحوا عربيا دون الانطلاق من مصر وهذه قصة أخرى بحاجة إلى مقال آخر، الآن تعددت منصات الانطلاق، ورغم ذلك فلا يزال لمصر موقعها بالتاريخ والجغرافيا، مصر رغم كل الضباب الذى يثيره الإخوان «فيها حاجة حلوة»!