لم أتصور أن حجم الانغلاق الفكري والاستبداد بالرأي ورفض الآخر بلغ منتهاه لدي البعض إلا بعدما نشرت في هذه الزاوية الأسبوع الماضي مقالا حول رئيس الوزراء التركي أردوجان، فباستثناء عدد من أصحاب العقول المستنيرة الرافضة بأدب أو المؤيدة بوضوح الآراء المتضمنة في المقال، فوجئت بانفلات لفظي وتخلف حضاري يتجاوز وصف الابتذال في الردود المدونة علي موقع الصحيفة، وكأن أردوجان نبي ذلك الزمان الذي لا يجوز التشكيك في دوافعه أو التعرض لسيرته، لدرجة أنني اعتقدت لوهلة من الزمن أن السفارة التركية أطلقت عدداً من الزبانية المأجورين لمهاجمة كل من تسول له نفسه الخطأ في «الباب العالي» العثماني في مسعي الدولة التركية الجديدة لبسط نفوذها علي المنطقة وهو ما دفعني إلي الكتابة مجددا في الموضوع ذاته تأكيدا علي حرية التعبير وعدم الرضوخ لمحاولات الإرهاب الفكري مهما كان الثمن خصوصا أن أردوجان -الذي عقدّت مقارنة بينه وبين السلطان عبد الحميد في تقواه وصلاحه وفي منهجه ببسط نفوذه السياسي علي العالم العربي - واصل مشكورا حملته الإعلامية التمثيلية ضد إسرائيل التي قال إنها تشكل الخطر الرئيسي علي السلام في الشرق الأوسط دون أن يقرن ذلك بأفعال ذات أثر تتجاوز الملاسنات اللفظية، وهو أمر ليس بالجديد علي السياسة الخارجية التركية منذ اعتلاء حزب العدالة والتنمية سدة الحكم في أنقرة قبل ثماني سنوات. فمنذ عام 2002 شهدت السياسة التركية تحولات في ترتيب أولوياتها انطلاقا من البعد الداخلي المرتكز علي منهج أيديولوجي إسلامي يمتزج بروح قومية عثمانية تبحث عن مصالح اقتصادية تحقق نفوذاً إقليميا مؤسساً علي علاقات تاريخية. لكن هذه السياسة حرصت علي لعبة التوازنات بإبقاء علاقات تركيا وطيدة مع إسرائيل والغرب بصفة عامة، وفي الوقت ذاته حسنت أنقرة من علاقاتها مع دول الجوار الحدودية في سوريا وإيران من جانب ودول النفوذ الإقليمي الأخري كمصر والسعودية ودول الخليج، وذلك كله بحثاً عن الدور والمكانة والمصالح لا أكثر. فبحكم وضع تركيا الجيوسياسي الفريد وحزبها الإسلامي التوجه، وجدت أنقرة نفسها بعد الحرب علي العراق دولة مهيئة للعب دور يحقق لها نفوذاً أوسع في ضوء مصالحها وأمنها، وفي هذا الإطار تجد التصريحات العنترية الأردوجانية طريقها لتحقيق مكاسب عديدة علي أكثر من صعيد، منها ما هو انتخابي في الداخل التركي الذي يستهدف كسب تأييد الشارع الغاضب من السياسة الإسرائيلية بما يسحب البساط من الأحزاب المنافسة اليسارية والعلمانية التي حكمت تركيا علي مدي عقود، ومنها ما يكرس للدولة التركية الجديدة نفوذاً أوسع في الشارع السياسي العربي والإسلامي بما يساهم في توسيع مكاسبها التجارية والاقتصادية مع مليار مستهلك قبل أن تنهض إيران من مشاكلها مع الغرب وقبل أن يتحقق سلام يتيح لإسرائيل منافسة الدور التركي بالمنطقة. لكن تركيا أردوجان تدرك أن علاقتها مع إسرائيل بنيوية ووظيفية بدليل ما قاله أردوجان ذاته في مؤتمر صحفي بطهران في رده علي سؤال عما إذا كانت مواقف بلاده الحادة تجاه إسرائيل إشارة لتحولها نحو الشرق، فقال: إن تركيا لن تضحي بعلاقتها مع الغرب لصالح التحالف مع الشرق، مؤكدا أن بلاده ستواصل علاقتها بإسرائيل وهو ما أوضحه المتحدث باسم أردوجان لاحقا حين أوضح أن تركيا ليس لديها أي موقف سلبي تجاه دولة ما ولا تقبل أن تصبح مع مجموعة ضد أخري، نافياً أن يكون التوجه التركي نحو العالم العربي والإسلامي علي حساب العلاقة مع إسرائيل لأن الحكومة التركية تسعي لتحقيق أكبر قدر ممكن من التعاون الاقتصادي الذي يفتح الباب للتعايش والسلام بين الشعوب. هذا الكلام تعززه إجراءات وإحصاءات واقعية، فالتجارة السنوية بين إسرائيل وتركيا تقترب من الملياري دولار وهو مبلغ يزيد علي حجم التجارة بين مصر والأردن معا وبين إسرائيل، كما يبلغ عدد السياح الإسرائيليين إلي تركيا أكثر من 300 ألف سائح، وخلال السنوات الأخيرة وقّع البلدان اتفاقات في مجالات الطاقة والزراعة والري والتكنولوجيا، ناهيك عن التعاون العسكري الوطيد والعلاقات الدفاعية المتميزة التي وصفها وزير الدفاع التركي محمد وجدي جونول بأنها «علاقات تحالف» ولم يكن التوقف الأخير لمناورات «نسر الأناضول» الجوية المشتركة سوي اعتراض تركي علي صفقة الطائرات بدون طيار المصنعة في إسرائيل من طراز «أهارون» التي تعاقدت عليها تركيا من قبل. السبب في عدم انفصام العلاقة التركية - الإسرائيلية هو أن أنقرة تعلم جيدا أن علاقتها بالولايات المتحدة وبالاتحاد الأوروبي تمر في جانب منها عبر تل أبيب، كما أن استمرار علاقة تركيا بحركة الاقتصاد العالمي وبصناديق الإقراض والمصارف الدولية ترتبط في قاسم مهم منها بعلاقتها بإسرائيل، وفي المقابل تعي إسرائيل أن الدور الذي تتطلع إليه تركيا لبناء مشاريع إقليمية في مجالات المياه والنقل والتجارة يتوقف علي إقامة علاقات جيدة بين أنقرة وتل أبيب، وهو ما يفسر حرص إسرائيل علي الإعلان بين فترة وأخري من أنه لا أزمة مع تركيا وأن العلاقة بينهما ينبغي أن تُقيم من زوايا الأمن والتعاون الاقتصادي والأنشطة السياسية، ولهذا تبدو إسرائيل - رغم ما تبديه من ضيق وانزعاج واتهام - متفهمة انتقادات أردوجان لإسرائيل التي تنبع من أن صمته سيؤثر في مصداقيته ومساعيه لمد جسور التعاون مع العالم العربي والإسلامي. ومثلما فتح السلطان العثماني بيازيد الثاني أبواب دولته لاستقبال اليهود المطرودين من إسبانيا طمعاً في استثمار أموالهم والاستفادة بهم، لا يريد السلطان أردوجان أن يسير علي درب آخر. إنها لغة المصالح والمكاسب التي تحكم سياسات الدول، ولا يشين أردوجان أنه يسعي لصالح وطنه أو لتعظيم مكاسبه الاقتصادية، فهذا حقه وحق كل وطني مخلص لبلده، لكن استغلال مشاعر الناس وخداع البسطاء بانتقادات جوفاء لن تعود بنفع علي الفلسطينيين، ليس إلا حركة مكشوفة للجميع.. أما إذا كان مظلوماً كما يعتقد البعض، فعليه أن يثبت العكس فعلاً لا قولا ًإن كان يستطيع وأظن أنه لن يفعلها.