كلما دخلت في مناقشة مع صديق عن أحوال البلاد هذه الأيام، تنتهي على (مفيش)، فلابد لنا لننتقد الأوضاع الحالية في مصر أن نناقش أسبابها، والمتسبب عند مؤيدي الرئيس مرسي دائما هو الثورة المضادة، والمتسبب عند رافضيه دائما هو الإخوان والرئيس نفسه..إحدى هذه المناقشات استمرت لساعات، وانتهت على (مفيش)، جرت المناقشة ودار الجدل حول الحالة الأمنية في مصر هذه الأيام، واتفقنا – صديقي وأنا – على مفيش ! أين ذهب ضباط المرور الذين كانوا ينتشرون كالذباب في الشوارع والميادين وطرق السفر، يفرضون الإتاوات، ويجبي لهم أمناءُ الشرطة الرشى من سائقي السيارات ؟ مفيش ! إنهم لا يعملون هذه الأيام، وضباط مباحث الداخلية تركوا الشوارع والطرق نهبا للفوضى لكي تعم، وللبلطجية لكي يفرضوا قوانينهم على الطريق، ،وللناس لكي ينظموا أمورهم بأنفسهم بطلوع الروح..
دلني على شارع به ضباط وأمناء وجنود ينظمون حركة المرور ! مفيش ! وتتكدس السيارات والنقل والأوتوبيس والميكروباص، مع التكاتك والكارو والباعة المتجولين و(الفارشين) والمشاة والمتسولين، ليختنق الطريق، وتشل حركة الشارع لساعات، طيب ضابط.. رابط.. أمين شرطة.. جندي.. مفيش !
وفي هذه الأجواء الغريبة، والشوارع المكتظة، والفوضى المقصودة، لا يمكن أن يأتي سائح، ولا يمكن أن ينجو مريض في سيارة إسعاف، ولا يمكن أن يأمن الإنسان على نفسه؛ سائرا أو راكبا، ونتساءل: أين الأمان ؟ مفيش !
كيف ؟ أقول لحضرتك.. أليست الشرطة في خدمة الشعب ؟ هذا شعار من الشعارات رفع على اللافتات، ولا يساوي ثمن الدهان الذي كتب به، فضباط داخلية مبارك ظلوا طوال حياتهم يرفعون شعار: (الشرطة والشعب في خدمة الرئيس)، وهم ليسوا على استعداد لتغيير شعارهم المهني بين يوم وليلة، والكثير منهم يعيشون على أمل عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الثورة، والعديد من ضباط الداخلية لم ولن يعملوا في ظل حكم يرأسه رجل من الإخوان المسلمين، فالإخوان ظلوا طوال حياة معظم هؤلاء الضباط المهنية مطاردين معتقلين مسجونين معذبين، وفجأة يصبح منهم الرئيس ! فهل من تعاون بين ضباط الشرطة مع وزير داخلية الرئيس الجديد ؟ مفيش !
وإن كان من ضباط الشرطة من يؤدي عمله، فيلقي القبض على مجرم أو بلطجي، ويرسله إلى النيابة؛ فالنيابة (مشكورة) تفرج عنه بأي حجة، كبطلان إجراءات الضبط، أو (بالعند) في النظام الجديد، ويعود المجرم لينتقم ممن أبلغ عنه أو تسبب في القبض عليه، وقد يهاجم أهله وزملاؤه قسم الشرطة، فيحطمون نوافذه ويحرقونه بالمولوتوف، فإن قتل ضباط القسم من المهاجمين أحدا؛ يحاكم الضابط، ويحصل المقتول على لقب (الشهيد).. وهكذا.. تبحث عن المنطق.. مفيش !
ذكرت بعض مواقع الإنترنت أن داخلية العادلي استخدمت ما يزيد على الأربعين ألف بلطجي ومسجل خطر، وعندما سقطت داخليته؛ بقيت العلاقات الوثيقة بين ضباط المباحث وهؤلاء المسجلين والخطرين، فاستخدموهم هذه الأيام، وأطلقوا أيديهم ليعيثوا فسادا في الشارع المصري، لكي لا يتحقق للناس الأمان، وبدون الأمان لن تتحقق لا عدالة اجتماعية، ولا عيش، ولا كرامة.. طيب والنهضة ؟ مفيش !
في العامين الأخيرين، استجدت على المجتمع المصري ظواهر عديدة، يحسبها البعض غريبة عنه، والبعض الآخر يعتبرها مظاهر تأصلت في نفوس المصريين عبر ثلاثين الأعوام التي حكمنا فيها مبارك، أهم وأخطر هذه الظواهر فقد احترام المصريين على عمومهم لكل قيمة للقانون، بفقد احترامهم لمن ينفذ القانون؛ جهاز الشرطة، الذي أصبح مفيش !
لنعد إلى الحكاية من أولها، استند الرئيس مبارك في تثبيت أركان حكمه على وزارة الداخلية، وبالأخصّ على جهاز مباحث أمن الدولة، الذي كانت له السطوة الكبرى على مقدرات الشعب المصري في الداخل وبعض الخارج، فالتعيين في وظيفة حكومية كان أهم إجراء فيه هو ورود مستند من أمن الدولة، وضابط أمن الدولة هو الآمر الناهي في كل وزارة وكل مصلحة وكل إدارة وكل جامعة وكل مدرسة.. وعلى أساس سلطة أمن الدولة؛ تغولت سلطة فروع الشرطة الأخرى على المجتمع كله، واستغل كثير من ضباط الداخلية الحصانة المكتسبة، واستخدموها الاستخدام الأمثل لتحقيق مصالحهم، وإرضاء أمراض ذواتهم، صحيح أن الأمن في ذلك العهد كان في ظاهره مستتبا، ولكن إقراره بذلك الشكل الهش لفترة طويلة كلّف جهاز الشرطة كله سُمعته، إذ إنه كان يعتمد التخويف والتعذيب والإرهاب وسائل ممنهجة لفرض الأمن، في ذات الوقت الذي اعتمد على البلطجية والمسجلين في عمليات الضبط والانتقام والانتخابات.. وإلا فأين الأمن هذه الأيام ؟ مفيش !
فلما قامت الثورة في 2011، كان من أولويات إسقاط نظام مبارك إسقاط شرطته، التي يعتمد عليها في إستقرار نظام حكمه، وسقطت الشرطة يوم 28 يناير؛ رابع أيام الثورة، وقُتل المتظاهرون في التحرير والسويس والإسكندرية، وحل الجيش محل الشرطة.. ومرت الأيام، والحالة الأمنية من سيئ إلى أسوأ، وتتساءل عن الشرطة، هل أدين ضابط واحد بقتل المتظاهرين ؟ مفيش !
وتجرأ المتظاهرون على مبنى وزارة الداخلية، ومرت أحداث محمد محمود وماسبيرو ومجلس الوزراء، وقتل من قتل أيام المجلس العسكري، واحترق من المباني ما احترق، ودمر ميدان التحرير رمز الثورة، وتبحث عن الوجود الشرطي في الشارع.. مفيش !
وانتخب الشعب مجلس الشعب ثم مجلس الشورى، ثم رئيس الجمهورية، ثم استفتي على الدستور، وبدأت الحملة المنظمة للقضاء على هيبة رئيس الدولة بمهاجمة مقر الحكم في الاتحادية.. طيب والشرطة فين ؟ مفيش ! وتتابعت الأحداث والتظاهرات والاعتصامات، وأحرق المتظاهرون (السلميون) مقرات الأحزاب، ونتلفت حولنا نبحث عن الوجود الشرطي في الشارع.. مفيش !
إنني أخشى إن لم يسارع الرئيس مرسي إلى احتواء الوضع الأمني قبل 15 مايو القادم؛ أن نبحث عن مصر فيقال لنا: يعوض علينا ربنا، مصر.. مفيش !.. واسلمي يا مصر.