تقول الحكاية: دخل الحاجب على معاوية بن أبى سفيان قائلا: رجل فى الخارج له حاجة يطلب مقابلتك ويقول إنه أخوك يا أمير المؤمنين، نظر إليه معاوية باندهاش وقال: ألا تعرف إخوتى؟ فقال الحاجب: هكذا يقول الرجل، فأَذِن به معاوية بالدخول، وسأله: أىُّ إخوتى أنت؟ فقال الرجل: أخوك من حواء، فقال معاوية: رحم مقطوعة، والله لأكون أول من يصلها، ثم أمر له بحاجته. نعم، هى رحم مقطوعة، وحتى وقت قريب كان الواحد يتعامل مع المسألة باستخفاف، ويختصر تجربة ستنا حواء فى مسألة التفاحة، بينما التجربة لو تأملتها لكانت أمنا حواء فى قائمة مَن يشملهم دعاؤك بالرحمة والامتنان كل يوم، تشعر المرأة بغربة ما إذا انتقلت من مدينة إلى أخرى مع زوجها، فما بال امرأة تستقبل عالما جديدا تماما عليها هى فيه من دون سابق معرفة أو دليل، هل فكرت يوما كيف استقبلت ستنا حواء كوكبا كاملا بقليل من أوراق التوت، بينما تستوحش المرأة بيتا جديدا سكنته لأن الستائر لم يتم تركيبها بعد؟ يبدو الأمر ممتعا إذا تخيلَت الواحدة نفسها مع حبيبها فى جزيرة بعيدة بمفردهما، لكن الحقيقة أنها لن تستوحش الفكرة ليقينها أن ثمة بشرا آخرين قريبين فى مكان ما سيظهرون وقت الحاجة، فما بال امرأة تسكن أرضا لا يوجد عليها من يشبهها من قريب أو بعيد؟
كيف تعاملَت مع بطنها عندما كبرت؟ هل كانت تفهم أن إنسانا جديدا سيخرج من أحشائها؟ وكيف استوعب عقلها الفكرة وقت المخاض؟ كيف استقبلت اكتشاف هذا السائل الأبيض الحلو الذى لا يحلو لإنسانها الصغير غيره؟ كيف استوعبت عدم فهمها مصير هذا الكائن وإن كان سيظل على وضعه هذا أم أنه سيصبح كبيرا مثل أبويه؟ كيف استقبلت صدمة صراخه وهى التى لم ترَ صراخا من قبل؟ كيف حَمَتْه من كائنات لم تمر بها أبدا ولا تفهم ماذا تريد؟ كم قاست عندما مات أول ابن لها لتصبح أول أم تذوق طعم الفقد؟ كم قاست حتى استطاعت أن تصنع أول خبرة مكتملة تنقلها إلى أول أم تشهدها الأرض بعدها؟ تبدو هذه الأم العظيمة وكأن الأرض هى رحمها.
تشغلنى سيرتها منذ فترة وكلما فكرت كيف يمكن للواحد أن يصل إلى أى معلومات عنها أفشل فى الوصول إلى إجابة، فلا معلومات كثيرة عن مسيرتها بعد أن هبطت الأرض مع سيدنا آدم، أبحث كثيرا منذ فُتنت بها وسكن قلبى اليقين بأنها أمى كما تعنى الكلمة، لا على طريقة تعامُل الكثيرين معها باعتبارها فلكلور البشرية، وعندما يَئست وجدتنى فجأة أراها فى كل ما يدور فى فلك الأمومة على ظهر الكوكب، كلما رأيت واحدة تعلِّم أولادها أو تنصحهم أو تعاقبهم أو تطعمهم أو تلهو معهم أو تحميهم أو مرتبكة خوفا عليهم أو مجهدة فى سبيل راحتهم أو فَرِحة بهم أضع ستنا حواء مكانها، متسائلا: كيف كانت تتصرف فى مثل هذه اللحظات؟ فصرتُ أكاد أراها حاضرة فى كل موضع من مواضع الأمومة.
وبالصدفة منذ يومين وجدت سطرين عنها على موقع «ويكيبديا» جاء فيهما «مقبرة أمنا حواء هو موقع أثرى يقع فى وسط مدينة جدة، وبالتحديد فى حى العمارية». وسبب التسمية بهذا الاسم يعود إلى اعتقاد المسلمين بأن حواء توفيت ودفنت فى ذلك الموقع من مدينة جدة، وهو أيضا أحد مصادر تسمية مدينة «جدة» نسبة إلى كلمة «جَدة» (بمعنى والدة الأب أو الأم)، وتم إغلاق الموقع عن طريق طمرة بالأسمنت على أثر قرار من هيئة الأمر بالمعروف فى عام 1975، على خلفية صلاة بعض الحجاج فيها إثر موسم الحج لذلك العام».
ولأن الحديث عن الأمهات يُنسينا دائما الآباء فلا بد للواحد أن يؤكد أن محبتى لهذه الأم العظيمة لا تقلل من شأن سيدنا آدم أبدا، فما يجب أن لا ننساه أن أول من اختبر مشاعر الأمومة كان سيدنا آدم، هو الرجل الوحيد الذى خرج منه إنسان آخر، هى ليست طبطبة أو مواساة للآباء المحاصَرين بالتجاهل فى عيد الأم لكنها الحقيقة، كل أمهات العالم أصلهن رجل.