لن يكون بمقدور أردوجان أن يشطب سطور وأطروحات الشيخ محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي والسوري رشيد رضا من أن بعث النهضة في هذه المنطقة ينبغي أن يتم بأيدي العرب لا بأيدي الأتراك. ففي «سرت» امتطي رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوجان صهوة جواده وامتشق سيفه وراح يطرب أسماع الجماهير العربية بما يحبون ويعشقون، فقال: «إن مصير أسطنبول كمصير القدس ومصير تركيا هو مصير العالم العربي» مما زاد من شعبية وجماهيرية الرجل في الشارع العربي. لكن تلك لم تكن المرة الأولي التي يحظي فيها أردوجان بهكذا شعبية، فقد افتعل حركة مسرحية قبل نحو عام حينما انسحب من ندوة بمؤتمر دافوس شارك فيها الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز ليحرج بذلك عمرو موسي الذي كان جالسا إلي جواره ولم ينسحب. وقبل أشهر أنتجت تركيا مسلسلاً تليفزيونياً مؤثراً - سوقته في العالم العربي - عن معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي، ثم طالب أردوجان وغيره من المسئولين الأتراك، الإسرائيليين بالاعتذار بعدما أهانوا السفير التركي في تل أبيب خلال احتجاجهم علي المسلسل. غير أن هذا الشو الإعلامي الهائل للأتراك لم يتحول أبدا إلي أفعال ذات تأثير أو قيمة، فالعلاقات التركية- الإسرائيلية متينة وقوية، والمناورات العسكرية تسير بين الجيشين دون اهتمام بما يجري في الأراضي التي يحكي عنها المسلسل التركي، والتبادل التجاري والتعاون الاقتصادي والصناعي ينمو ويزدهر دون أي منغصات. ورغم كل ذلك، لا يتوقف المثقفون العرب عن كيل المديح والتصفيق الحار للحركات المسرحية التركية وتصريحات مسئوليهم الثورية العنترية خلال مقارناتهم بتصريحات المسئولين العرب والمصريين منهم علي وجه الخصوص. غالط أردوجان نفسه حين قال أمام القادة العرب: «لقد دوَّنا التاريخ الغني لهذه المنطقة، ويجب ألا نشك في أننا سنكتب المستقبل معا»، وذلك أن تاريخ المنطقة يشهد بأن حكم العثمانيين الأتراك هو السبب الرئيسي وراء التدهور الذي لحق بالعالمين العربي والإسلامي خلال القرون الأخيرة نتيجة سياسة عزل العالم العربي عن النهضة الأوروبية الحديثة واستغلال الأتراك الأراضي والثروات العربية لتكون مصدر قوة لهم في صراعهم مع القوي الأوروبية للسيطرة علي شرق أوروبا وتوسيع حدود إمبراطوريتهم الشاسعة. الآن يعيد التاريخ نفسه فيسعي أردوجان إلي استخدام ذات الأساليب التي استعملها السلطان عبد الحميد في نهايات عصر الدولة العثمانية حين فقد السلطان حكمه في شرق أوروبا وشمال أفرييا فسعي إلي تحقيق طموح زعامته في الشام والحجاز والعراق مستفيداً من تميزه بالتقوي والصلاح والوقار والاتزان وهي الصفات والملامح نفسها التي يتسم بها أردوجان الآن. فرئيس الوزراء التركي الذي يتسم فوق هذا بالصلابة والعناد، وجد نفسه خاسراً في معركة انضمام بلاده إلي الاتحاد الأوروبي بعدما أوصدت ألمانيا وفرنسا الباب بالضبة والمفتاح، كما أن علاقات تركيا المتميزة مع الولاياتالمتحدة في الماضي حين كانت أنقرة أحد أهم الحلفاء الاستراتيجيين بحكم موقعها الملاصق للاتحاد السوفيتي وبحكم عضويتها النشطة في حلف شمال الأطلنطي، فقدت كثيرا من بريقها بل وصلت إلي حد سحب السفير التركي من واشنطن احتجاجا علي قانون إدانة تركيا في مذابح الأرمن خلال الحرب العالمية الأولي المطروح أمام الكونجرس الأمريكي، وهكذا سار أردوجان علي نهج السلطان عبد الحميد بنشر نظريات التعاون بين جميع الدول الإسلامية، فتكثفت الزيارات المتبادلة وتزايدت الخطب السياسية المنمقة في ساحات الجامعة العربية والقمم العربية والإسلامية وأسقطت تركيا تأشيرات الدخول مع عدد من الدول العربية، وشرعت في تعضيد التعاون مع المثقفين العرب لخطب ودهم فضلا عن محاولة إغراق السوق الإعلامية العربية بالأفلام والمسلسلات التركية الرخيصة الثمن، ناهيك عن إطلاق فضائية تركية باللغة العربية لإكمال الهدف المنشود. من حق تركيا توطيد علاقاتها مع العرب إعلاميا وثقافيا شأنها شأن أي قوة إقليمية أو دولية أخري في عالم سمته الأولي هي العولمة في كل المجالات، لكن المتاجرة بمعاناة الفلسطينيين كمدخل رئيسي لا تنطلي علي عقولنا، كما أن تزييف التاريخ لصالح تحقيق أغراض سياسية واقتصادية لا يليق بدولة إقليمية في مكانة تركيا، يعرف الجميع أطماعها التوسعية منذ أيام الدولة الرومانية الشرقية مرورا بالدولة البيزنطية وانتهاء بالإمبراطورية العثمانية. ولن يكون بمقدور أردوجان أن يشطب سطور وأطروحات الشيخ محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي والسوري رشيد رضا من أن بعث النهضة في هذه المنطقة ينبغي أن يتم بأيدي العرب لا بأيدي الأتراك. بوسع أردوجان والأتراك جميعاً توسيع نشاطهم الاقتصادي والتجاري، لكن محاولاتهم تحقيق نفوذ سياسي علي حساب دول أخري كمصر والسعودية وحتي العراق وسوريا لن يكتب لها النجاح في ظل السياسات المزدوجة الأوجه للحكومة التركية ومعارضة كل القوي الأخري تقريبا لهذه التوجهات. الأفضل لتركيا أن تمارس نفوذها السياسي علي الشعوب المتحدثة باللغة التركية في جمهوريات أواسط آسيا التي نبع منها الأتراك أصلا اقتداء بأفكار الكاتب والأديب ضياء جوكالب مفجر الحركة الطورانية الشاملة، مع إضفاء الطابع الإسلامي عليها إذا أراد الأتراك ذلك، أما العرب فاتركوهم وشأنهم.