بدأ الإسلام ديناً يدعو إلى تحرير الإنسان من العبودية والخضوع لغير الله عز وجل وأصبح اليوم في نظر الكثير دينا يوجب على أتباعه الخضوع للرؤساء والعلماء مهما انحرفوا وبدلوا. وأصبح الناس اليوم يدعون إلى دين ممسوخ مشوه لا تنصلح عليه امة ولا تستقيم عليه ملة جر على العالم الإسلامي التخلف والانحطاط وشيوع الظلم والفساد وتسلط عصابات إجرامية لها سدنة من علماء السوء يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب.. وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله.. وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون.
لم يكن هذا الانحراف بسبب الدين بل بسبب انحراف أوصياء الدين عن مبادئه وغاياته ومقاصده بالتأويل الفاسد والتحريف الكاسد، حتى لم يعد دين الناس اليوم هو الدين الذي كان عليه الصحابة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، مع كون القرآن ما زال غضا طريا كما أنزل.
إلا انه حيل بين الناس وبينه بمفهوم مئات من العلماء وتأويلهم، حتى لا يكاد المسلم اليوم يقرأ آية من كتاب الله مهما كانت صريحة وقطعية في دلالتها حتى ينظر ماذا فهم منها الآخرون، وهذا هو الفرق بيننا وبين الصحابة الذين كانوا يتعاملون مع القرآن كما أنزل دون أن يحدد لهم احد معالم الطريق.. كيف وهو الكتاب الذي أنزل بلسانٍ عربيٍ مبين، والميسر للذكر لكل مدكر، والمفصل تفصيلا، والأحسن تفسيرا ؟!.
لقد تم تفريغ الإسلام من مضمونه، فصار أكثر الدعاة إليه اليوم يدعون الناس إلى دين لا قيمة فيه للإنسان ولا لحريته و لا لكرامته ولا لحقوقه.. يدعون إلى دينٍ لا يدعو إلى العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية.. بل يرفض تغيير الواقع ويدعو إلى ترسيخه بدعوى طاعة ولي الأمر وسدنته من الملأ الذين يحرفون الكلم عن مواضعه .
ماذا سنقول للعالم الآخر حين ندعوه إلى دين الله؟ كيف ندعوا شعوب العالم التي تساوى فيها الحاكم والمحكوم حيث الشعب يحاسب رؤسائه وينتقدهم علانية ويعزلهم بسحب الثقة منهم، ولا يستطيع الحاكم سجن أحد أو مصادرة حريته أو تعذيبه.. إذ الحاكم وكيل عن المحكوم الذي يحق له عزله ؟!
كيف ندعوا إلى دين يدعو أتباعه اليوم إلى الخضوع للحاكم وعدم نقده علانية، وعدم التصدي لجوره، والصبر على ذلك مهما بلغ فساده وظلمه، إذ طاعته من طاعة الله ورسوله ؟!
إن شعوب العالم حين تنظر لديننا بهذا المنظار لن تفكر الدخول فيه حتى تقوم الساعة وهذا ما تظنه شعوب العالم في المسلمين.. لقد أصبحنا فتنة نصد الناس عن سبيل الله، وعندما وصل الحال بعلماء بني إسرائيل إلى هذا الحد قال الله للمؤمنين "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ".
إن دينا يدعو إلى تحرير الشعوب من الذين يأكلون أموالهم بالباطل ويجعلون أنفسهم أربابا من دون الله فالحلال ما أحلوه والحرام ما حرموه حتى اتخذهم الناس أربابا، والإسلام نهى عن ذلك وألغى هذه الوصايا وجعلها عنوان الإسلام "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" وإن كان ذلك في حق الأنبياء فضلا عن العلماء !؟
ووصف المجتمع الجديد بأنه مجتمع إذا سامه الظلم لا يسكت فقال "وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ".. فبدل علماء السوء قولا غير الذي قيل لهم في الآيات البينات وقالوا اصبر على الظالم وان جلد ظهرك واخذ مالك.
وأكد لهم في أن المظلوم إذا انتصر لظلمه فلا لوم عليه، بل أجاز له أن يقول ما في نفسه ويهتف بأعلى صوته ولو جهرا، يجوب الشوارع ما دام مظلوما حتى لو جهر بالسوء الذي يرعب الظالمين "لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً".. لكنهم يقولون أن المطالبة بالحق خروج على الحاكم وإخلال بالأمن ودعوة إلى الفتنة.. والله قال لهم إن الفتنة هي ظلم الناس فلوموا الظالم وقفوا مع المظلوم "إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ".. فبرروا ظلمه وأمروا المظلوم بالسكوت وقالوا هو منهج الرسول وطريق الصواب وهو مخالف للكتاب، ولكننا اجبرنا الناس على قبول الظلم والرضا بالظالم ولو جلد ظهورنا واخذ أموالنا وقلنا هذا دين الله.
من إعجاز القرآن صراحته ودقة توصيفه وتفصيله لما يحدث وكأنه يتنزل اليوم حين نرى هذه الآيات البينات.. فعندما تقول لهم اتبعوا كتاب الله.. يقولون: قال فلان من السلف وقال العالم الفلاني وأنت تخالف الأجداد والآباء وقل لنا من هم علماؤك وليس لك مشايخ ومن هو سلفك في قولك، وهذا اكبر ما يعيبونك به "وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ".
كي يستبين الطريق ويزول الالتباس فإن سلفنا الصالح لم يخالفوا القرآن والسنة، وما ينقله سدنة الحكام الظلمة قول محرف عن العلماء أو كان في ظروف خاصة وتم بتر أقوالهم بترا، والذين لا يخشون من تحريف القرآن على وضوح آياته كيف يخشون من تحريف أقوال السلف واليك ما يدهشك من أقوال علماء الإسلام رحمة الله عليهم في الثورة على الحكام الظالمين:
الإمام مالك يقول: من يكره الناس على اختياره خليفة تحت أي ضغط فلا بيعة له. وقد سجن وعذب بسبب رأيه هذا.
ابن حزم ينكر على من يقول بإجماع الأمة على حرمة الخروج على الظالم ويؤكد أن أفاضل الصحابة وأكابر التابعين وخيار المسلمين خرجوا على الظالم فقال في مراتب الإجماع "قد علم أن أفاضل الصحابة وبقية الناس يوم الحرة خرجوا على يزيد بن معاوية.. وابن الزبير ومن تبعه من خيار المسلمين خرجوا عليه أيضا، وان الحسن البصري وأكابر التابعين خرجوا على الحجاج بسيوفهم.. أترى هل هؤلاء كفروا ؟"
وقال ابن تيمية " إن الله يقيم الدولة العادلة وان كانت مشركة ويهلك الظالمة وان كانت مؤمنة".
آهل السنة يحرمون القتال تحت راية الحاكم الظالم ضد من يخرج عليه يطالب بحقه ويرون أن من خرج على الحاكم الظالم الذي يريد أن يسلب حقه معذور:
قال بن حجر: "إلا أن الجميع يحرمون القتال مع أئمة الجور ضد من خرج عليهم من آهل الحق