سالي عادل يطالعهم ظلام غير مكتمل، تتراقص فيه الخيالات.. يتناول ناجح كشافا، ويمضي يشق طريقه يتبعه الآخرون، وكأنما يتحدث إلى نفسه، يقول بصوت خفيض: - قال عتريس القاعة في آخر الممر، ليس هناك مجال للتيه. تلاعب خيال عملاق باتجاهه، فخرج منه الصوت أقرب للنساء وقال ألا نلتفت للخيالات. وفي آخر الممر، كانت القاعة الموصوفة فسيحة جدا ومقبضة، وفور دخولها توجه ناجح إلى أحد الأركان فوضع الكشاف جانبا وأشعل عود ثقاب، وباستخدامه أشعل شمعات شمعدان: - كل شيء كما وصف عتريس بالضبط. ثم اتجه إلى ركن آخر يشعل شمعات أخرى، وتولى خلف إضاءة الركنين الباقيين، وحين توهجت الشمعة الأخيرة بالنار اتضحت ملامح القاعة: إنها قاعة مستطيلة على جانبها الأيمن نافذة، وفي مقدمتها مكتب عملاق من خلفه كرسي جلدي فخم، وأمامه مقعدان. وفي المنتصف هناك تمثال لخليط من الحيوانات أو شيء ما، ومن حوله دائرة من خمسة مقاعد. وبشكل تلقائي توجه كل منهم إلى أحد مقاعد الدائرة، وبقي عماد متأخرا في الخلف. جلسوا إلى المقاعد، واضعين لفافاتهم فوق أفخاذهم، ثم أداروا رءوسهم تجاه عماد، فتحرك مرتبكا نحو مقدمة القاعة يجلب مقعدا من أمام المكتب: - لا بد أن عتريس قد أخطأ بالعدد. أفسح له ناجح إلى جواره، ثم رفع كفّيه إلى جانبيه يبحث عن كفّي جاريه، وحين اكتمل تشبّك الأصابع قال ناجح: - والآن، أغمضوا أعينكم، واستجمعوا تركيزكم، فهل أنتم مستعدون؟ ارتجفت الرءوس قليلا فيما يشبه الإيماءة، فبدأ ناجح عده التنازلي: - ثلاثة.. اثنان.. واحد. انطلقوا يرددون في صوت واحد: - أبرا كادابرا.. أبرا كادابرا.. أبرا كادابرا. تعلّم عماد كلمتهم، فردد معهم: - أبرا كادابرا.. أبرا كادابرا.. أبرا كادابرا. ومن النافذة المطلّة على الحديقة، طرقات خفيضة، وصوت طفولي: - عماد.. عماد.. هل أنت هنا؟ لقد أرجعت إخوتي للبيت وعدت لك. يفتحون أعينهم، يرسل عماد نظره إلى النافذة، ويهتف ناجح: - تبا! تمر لحظة صمت، يعاودون إغلاق الأعين، والنداء: - أبرا كادابرا.. أبرا كادابرا.. أبرا كادابرا. - عماد.. عماد.. أنا أعرف أنك هنا، فاخرج من هنا سريعا، هذا المنزل يحوي شيطانا. يهبّ الرجل الضخم غاضبا: - سأكسر رأسها. يوقفه عماد بإشارة من يده ونظرة حزم، ثم يثبت نظرة الحزم على وجهه ويتجه إلى النافذة على الجدار الأيمن فيفتحها ويطل منها، تشرق لرؤيته لكنها تُصدَم من نظرته والتقطيبة فوق جبينه كما أنه يرفع حاجبه مثل حاجب الرجل الضخم: - ارحلي من هنا حالا وإلا كسرتُ رأسك! تتراجع للوراء فورا؛ يغلق النافذة بقوة، ويعاود الدخول في الدائرة، يتهيأ الجميع لمتابعة العمل غير أن المفاجأة تلجمهم، تتوهج عينا التمثال في وسط رأسه الذي يشبه رأس الديك، تتلوى قدماه اللتان تشبهان الثعابين، أما ما دون ذلك فهو جسد بشري على ما يرام. يشهق بعضهم، ينتفض بعضهم في موضعه، والبعض يتراجع للوراء، وتهمس الألسن أسفل الأعين المتسعة: - أبراكساس! أبراكساس! يخطو التمثال الذي استحال شيطانا من بينهم.. ينساب فوق ساقي الثعابين نحو المكتب، ثم يتخذ مقعده خلفه. ينتفض الجميع واقفين في صف قبالته، ويحنون الرءوس. يرمق عماد هذا المشهد بعينين عمياء من موضعه بأقصى اليمين، يبتلع ريقه بصعوبة، ها قد انقلب الهزل جدّا، أو أن الأمر كان جادا منذ البداية، وقد غرّه نزق الشباب. إن رفاقه هنا يحملون قرابين لأبراكساس، كما أن أبراكساس هنا ينتظر قرابينه، وإنه قد تورط أكثر من اللازم، والمشكلة أنه تورط خالي الوفاض. يشير أبراكساس بعصاه نحو الأول في الصف من ناحية اليسار، فتتخبط ساقا راضي بينما يتقدم، يتوقف أمام المكتب فينزل لفافته أمامه ويحني رأسه قائلا: - لقد جئتك يا كبير الشياطين أتودد وأتقرب إليك، حاملا قرباني الذي انتقيته على عيني طمعا في أن يعجبك، وكلّي أمل في أن أكون رجلك الذي تعتمد عليه وتفتح له أبواب مجدك وسلطتك. أشار أبراكساس إلى اللفافة، وقال بصوت عميق يصدر من بين منقاريه: - افتحها. تعثّر راضي في فتح اللفافة، واستغرق وقتا أكثر من اللازم، ثم أخيرا أزاح الأوراق عن جثة قطة سوداء قصيرة الفرو هزيلة يتخثر الدم أسفل عنقها وترسل بصرها الشاخص إلى بعيد، وما أن بدت من اللفافة حتى قال راضي: - أعلم يا كبير الشياطين حلول شياطينك في القطط السوداء، ومهابة العامة لها، ولكني بقلبي الميّت تخلصت من كل مشاعري وتتبعت قطا بريئا يبحث عن وجبته بين صناديق القمامة، وقبل أن يشبع جوعه قتلته متضوعا لأقدّمه على طاولتك أيها الكبير، والأمر لك. أشار إليه أبراكساس أن يبتعد، وقال بصوته العميق: - الذي يليه. تقدم خلف متخبطا نحو المكتب، فأنزل لفافته وقام بفك أوراقها بأنامل مرتعشة، ثم قال بابتسامة مهزوزة: - لا أتحدث عن القطط، أتقدم لك يا أبراكساس العظيم بقربان بشري من لحم ودم.. تبدت الساق البيضاء من بين الأوراق، فتراجع خلف خطوة للوراء مكملا حديثه: - لقد قضيت ليلتي أفكر في قربان يروق لك، وفي كل مرة أعجز عن التفكير ألجأ إلى الاستغراق في الرذيلة، هذه المرة وبينما أوقع بالبنية البيضاء الجميلة بين يدي وجدت الفكرة تتأجج بقوة في عقلي، وكما استمتعت بها فإن أبراكساس العظيم أولى بكل متعة، لم أنتظر أن أتم مواقعتها، ولم تكن لتكتمل لذتي بغير أن أرفع السكين العملاق فأهوي فوق ساقها الغضّة، لم تفق من نشوتها أو حتى تستشعر الألم، كان الذهول قد ألجمها عن أي شيء، وهذا عن أمري يا أبراكساس العظيم، والأمر لك. ثم تراجع إلى موضعه، مد أبراكساس عصاه يتفحص الساق أمامه، ثم رفع عين الديك تجاه ناجح وقال: - الذي يليه. تقدم ناجح في ثقة حاملا لفافته، أنزلها إلى المكتب ونظر باستهزاء إلى اللفافات المفتوحة إلى جوارها، ورفع عينه ينظر إلى عيني الديك في ثبات، ثم قال: - أمضيتُ عمري في انتظار لحظة كهذه، لحظة أن أقف أمامك حاملا قرباني الذي أثق بكل خلجة في جسدي أنه سيعجبك؛ إنه القربان الحق وليس الهراء الذي على طاولتك. يزيح الأوراق دفعة واحدة، فتتبدى رأس بشرية بلحية طويلة ودم متخثر أسفل العنق: - ها هو قربانك يا ملك العالم السفلي، ليس رأسا لقطة ولا غانية، لقد أتيتك برأس ألد أعدائك، كان يحاربك في كل موضع تطؤه قدمه فوق الأرض، يحذر الناس منك، ينبئهم بحيلك للإيقاع بهم، يطرد أعوانك من أجسادهم، وكان يكرهك، وبعد أن انتهى من موعظته المعتادة عرضت عليه أن أقلّه بسيارتي لأتبرّك به وآخذ بنصيحته في أمر يخصك، ولبراءة سريرته، قبِل الركوب معي، فأخذته إلى الصحراء واجتززت رأسه بينما أنظر إلى عينيه كما أنظر إلى عينيك، وها أنا أرفعها بين يديك يا ملك العالم السفلي، والأمر لك. يومئ أبراكساس برأسه، ويشير له أن يعود إلى موضعه، ويقول: - التالي. يأخذ الرجل الوسيم شهيقا عميقا، وبرغم هول الموقف، لا تتلاشى الابتسامة الساخرة عن وجهه، يحمل لفافته الهزيلة ويتقدم، وقبل أن يصل إلى المكتب يكون قد فض أوراقها وانعكس الضوء الشاحب فالتمع على نصل الخنجر، نقل الخنجر يمنة ويسرة بين يديه قائلا: - من بين مريدينك يا ملك العالم السفلي وطالبي ودّك، لن تجد، من يقبل أن يقتطع قربانك من جسده. يبسط الرجل الوسيم خنصر كفه اليسرى على المكتب، ويهوي بالخنجر فوقه فتنفجر الدماء ويتعالى صوت احتكاك النصل بالعظم يقشعر الأبدان، يتعالى معه صراخه المكتوم وتتبدى الآلام على وجهه. تتسع عيناه حتى آخر مدى ترقبان إصبعه الذي انفصل، وارتجف جسده قليلا في موضعه، حتى اطمأن الوسيم إلى صنيعه وتراجع خطوة للخلف ماسحا جبينه بذراعه، وقائلا في صوت واهن: - إصبعي ووسامتي وكل جسدي فداؤك يا ملك العالم السفلي، وأثق بأنك ستقدّر القطع القيمة، والأمر لك. وفي طريق عودته إلى موضعه، تراقصت ابتسامته الساخرة من جديد، بينما ينظر إلى رفاقه بنظرة تفوّق، ويترك على الأرض خيطا من الدم، ومن خلف ظهره يتعالى صوت أبراكساس: - الذي يليه.
يُتبع الحلقة السابقة: سلسلة قصص الرعب.. قربان مقبول (1)