أخرجني اتصال سعاد من استغراقي في تأملهم من أعلى، وهم في ذات البقعة، يتابعون في حيرة كلام زينهم المتدفق وأصابعه التي تشير: تذاكر هنا.. سكر وأسنان وعضم ومعمل كده.. نسا وأطفال وجراحة فوق. يتخلصون رويدا من القلق، وتستحيل الحيرة على ملامحهم المريضة إلى ألفة عندما يسلّمون التذاكر للممرضات، ويمضون الوقت -إلى أن تنادى أسماؤهم- في التطلع من الطرقة إلى الفناء والمبنى ذي الطابقين والسلالم، ويعيدون قراءة اللافتة الرئيسية وملصقات التوعية الصحية. كان بالإمكان تمييزهم بسهولة من بين أولئك الذين ينحرفون بعد البوابة رأسا إلى التذاكر ثم يتوجهون بآلية إلى أهدافهم. لا بد أن سعاد كانت تتصل من الشارع؛ لأنها قالت إنها الآن ذاهبة إلى عملها، وإنها أخذت هيما إلى المدرسة، وظلت معه حتى دخل إلى الفصل. كانت تُلمّح إليّ أن أمرّ عليه وأصطحبه في عودتي إلى البيت. نبرتها المتعجّلة وضغطها على مخارج الحروف كانت تشي بأن عملي الذي قد يمتد إلى ما بعد المواعيد الرسمية، مهما كان عدد الحالات، لا بد أن ينتهي اليوم مبكرا، فالقيامة لن تقوم إذا لم أستمع باستفاضة لشكوى كل مريضة، أو تدخلت بالمقاطعة لتغيير مجرى الكلام، أو كففت عن الاستفسار عن أشياء أرى دائما أنها هامة، ودخلت من ثم إلى وصف العلاج. تصاعد الصهد من خدي الأيسر، وانتفخ كرغيف، حتى أن هويدا سألتني بشكل مباشر، فقلت باقتضاب: - أصل أنا قلقان على الواد. ولا بد أنني كنت قلقا بالفعل؛ لأنني كلما قمت إلى سرير الفحص مع حالة، كنت ألبس نظارة الخروج أو أجمع بشكل وهمي مفاتيحي وهاتفي المحمول، أو أضع القلم في جيب السترة الداخلي. تتعجب هويدا، فأعيد كل شيء إلى مكانه متنهدا: إن الولد طيب جدا يا هويدا، وهذا أول يوم يخرج فيه وحده، ولم تقل أمه أين أجلسته. قالت هويدا وهي تضع التذاكر أمامي، إنه على كل حال في الفصل الآن وأمه أوصلته، ولن ينصرف الأطفال قبل الواحدة من المدرسة. تنهدت مرة أخرى وأمسكت التذكرة: - خير يا ستي.. ما لك؟ كان فناء "الوحدة العربية" واسعا جدا، والنخلتان اللتان حدثني عنهما فهمي واقفتان، متجاورتان ترتكز عليهما سبورة خشبية، وبالقرب منهما سارية للعلم، وأشجار الجازورين داخل السور، والعيال يتناقصون كلما نادى المعلم أسماءهم من الكشف الذي في يده، والفناء يصير أكثر اتساعا، بينما أتأمل النخلتين وأشجار الجازورين وصخب العصافير على العلم والجرس، وزجاج الفصول المدهون بالأزرق تقطعه علامة إكس.
هوى الكف على صدغي، فدارَ الفناءُ بالأشجار، وارتطم النخيل بالشبابيك، وانبثقت النار من وجهي. كان الكف مباغتا، والفناء خاليا إلا مني ومنه، والكشف الذي بيده: - يا حمار، مش اسمك محمد زفت؟ تصاعدت أسراب النمل إلى صدغي وأنا أطلّ على الفناء، تلك البقعة التي خلف البوابة، والتي تشهد حيرتهم بين الدخول يمينا أو يسارا أو إلى الأمام، والتي تشهد أكثر ما تشهد إشارات زينهم لهم في كل الاتجاهات، ولهجته التي صارت كنداءات الباعة غامضة وسريعة. يدهشني ذلك الحاجز الذي لا ينمحي تماما إلا بخروجهم من هذه البوابة؛ إذ يتحدثون بوضوح وانطلاق على طول الطريق الزراعي، وكلما تخطيتهم أجدهم في المرآة يشيرون بحيوية وهم يخبّئون رؤوسهم تحت مظلاتهم المفرودة من الشمس، وحين أسمع لغطهم الحيوي أتأكد مرة أخرى كم نحن مُقبضون رغم معاطفنا البيضاء، تماما كما أن هذا المكان جهم ومقبض. قالت هويدا: - التهاب اللي ف وش حضرتك ده ولّا حساسية؟ لم يكن ثمة سوى دكة أخيرة، أوصلتني إليها الدَّفعة التي أعقبت الصفعة، والتي كانت قوية بما يكفي؛ لأن أتعثر، وأكاد أنكفئ في اندفاعي من باب الفصل الذي عرفت فيما بعد أنه فصلي، مارا بين الدكك المشغولة متخبطا في عيون كثيرة تحدق في دهشة: خدوه جنبكم رابع. اتسعت الدكة على مضض بما يسمح لوضع فخذي الأيسر. التصقت بالولد، لكنني كنت منتبها إلى زفراته، ولكماته من تحت الدكة في جنبي، وهمسه المتكرر بضيق: "اتّاخِرْ كده". مرَّ من أمام الحجرة الدكتور عبد العال، وألقى التحية على عجل، ودخل بجسمه من الباب: - شفت يا سيدي العيال البايظين.. شدوا لنا أعصابنا، والآخر.... قاطعته مبتسما: - يتغلبوا واحد/ صفر! لم أتفرج على المباراة، لكنني كنت أعرف هذه النتيجة مسبقا، ليس تكهنا، لكنني منذ اللحظات الأولى كنت متيقنا أننا سنُهزم، ليس تكهنا ولا حدسا، إنما يقين خالص، فلقد كنت أعرف من نزول اللاعبين إلى الملعب، وأول ثلاث دقائق كيف ستنتهي المباراة، فأغلقت التليفزيون. لم يعد لديّ شك في أن سعاد كانت تلمّح إلى انتهاء دورها عند هذا الحد، لأتحمل مسئوليتي في إعادة إبراهيم إلى البيت، فقد كانت مكالمتها متعجلة ومختصرة. لم تكن مستعدة فيما يبدو للخوض فيما إذا كانت قد دخلت بالولد إلى الفصل واطمأنّت على جلوسه، فحملت أشيائي مرة أخرى، وسرت باتجاه الباب منتويا الاعتذار لمريضاتي؛ لأنني قلق جدا على الولد، والذي لا أعرف في أي دكة جلس، لكن هويدا أكدت لي أنه جلس في المنتصف في الدكة الثالثة، وقالت إنه في أولى تاني، ألم تقل لك المدام ذلك؟
فتحسست خدي الملتهب، وتراجعت عن الخروج، ونظرت في التذكرة التالية، وقلت لها: - أصل إنتي ما تعرفيش غلاوة إبراهيم عندي. جاء بعد خمسة عشر عاما من موت يارا. سبقته فترة من العقم غير معروف السبب، ثم جاء هكذا وحده، دون علاج، وبعد أن توقفت عن إعطاء سعاد العلاج، ومنذ ذلك التاريخ وأنا أغير سياستي في علاج العقم. مسكت التذكرة وقلت: خير يا ست الكل؟ - متجوزة من خمستاشر سنة وما عنديش أطفال. سقطت عن حافة المقعد مرة واحدة، بينما كان المعلم يدير ظهره ليكتب الحروف، فالتفت عيال الفصل كله. أغمضت عيني. لم تستطع قدماي تحمل ذلك الوضع فسقطت، وتناثرت أدواتي. لفترة ظللت راقدا على الأرض متوقعا نزول العصا على جسدي من المعلم الذي جاء، لكنني حين فتحت عيني وجدتها تهوي على جنب الولد الذي بجواري: - يقعد إزاي كده؟ اتّاخِر له! تزحزح الولد لكن كوعه لم يكف عن الزغد، وبدا أن الأستاذ لمحه، فأعاد في نهاية الحصة ضرب الثلاثة وبص لي: - لو زنقوك قل لي! لا أعرف كيف مر اليوم والثلاثة يهددونني بعد الانصراف، ويجبرونني على الوقوف في الفترات التي بين الحصص، وكنت كلما أنظر إليهم تعتريني الهيبة والخوف، متمنيا ألا يدق الجرس، لكنه دق دقته الطويلة، وهاج العيال، وعكس ما كنت أرتّب للخروج متأخرا، كان الثلاثة يدفعونني للخروج قبلهم، وكنت قد رأيت في عيونهم ذلك التصميم الغريب على إيذائي، فتسارعت دقات قلبي وجف ريقي. خارج الفصل، وفي الفناء بدأ الضرب، متفرقا، وأنا أتّقي ضرباتهم بالإسراع، لكنهم كانوا يتتبعوني أينما ذهبت. كان الأمر مثيرا للرعب، وصدغي ما زال يهب صهدا من صفعة الصباح الحادة، والدفعة العنيفة في ظهري ولم يكن أمامي سوى ما فعلت، لا إراديا انطلقت ساقاي إلى الأمام وبأقصى سرعة، يحدوني أمل في الإفلات من ذلك العدوان، غير أن وقع أقدامهم تسارع خلفي. جذبوا الشنطة فتعثرت، وجاءت لكماتهم من أكثر من اتجاه. من الذي لَمّ كتبي المبعثرة؟ ومن الذي أخذني إلى الدار، ومن الذي جعلني أمرض في اليوم التالي وأتباطأ في النوم كي لا أذهب إلى المدرسة، فتصرّ أمي على الذهاب، فأذهب وحدي متأخرا، وما إن أدخل من البوابة حتى أتوه، ويتسع الفناء، وأتقافز أمام لسعات العصي التي تستحثني على الإسراع، دون أن أدري، وبعد آخر عصا من معلم الفصل أجد طريقي مفتوحا إلى الدكة الأخيرة، الجالس عليها ثلاثة الأمس دون أن يحاول أحدهم أن يتيح لي مساحة، ووسط صرخة الأستاذ: "اجلس يا حمار" أتخيل أنني أجلس يلاصق جنب مقعدتي حرف المقعد لا أكثر. - دول عيال ولاد كلب ما يستاهلوش، حرقوا دمنا وخلاص. كان عبد العال يطل بجسمه من النافذة وهو ذاهب ليصلي الظهر، فابتسمت. كنت قد ركزت على نظراتهم وهم يدخلون أرض الملعب، وبطؤهم في قراءة الفاتحة وهم في وسط الملعب قبل البدء، وجريهم بالكرة وهم ينظرون في الأرض، وشعورهم بالخيبة لحظة التسديد البعيد، فأغلقت التليفزيون. التفت عبد العال وقال معلقا على ابتسامتي اللامبالية: يا رايق أنت! ولم يكن ما قاله صحيحا؛ فأنا منذ فترة طويلة فقدت رغبتي في التفرج على المباريات، فقط الدقائق الأولى، حيث ينصرف اهتمامي كليا إلى المشاعر التي تلي المباراة، لحظات الخروج من الملعب، النظرات المتحسرة وهم يتقون بآذانهم صيحات الجماهير، والهروب كأسرى من تتبع الكاميرات والفلاشات، حيث لا معنى حقيقيا لكلمة مثل: الرياضة غالب ومغلوب. نصحت السيدة بالامتناع عن العلاج لثلاثة أشهر، وذكّرت عبد العال برأيي الذي يعرفه: - مش التعادل برضه كان أحسن؟ كان قد ملّ من عشقي لحالات التعادل، وما يليها من حالة غامضة من الرضا، بين الفرح والحزن، وكنت أعرف أنه سيشيح بيديه خلف رأسه وهو خارج من البوابة بضيق ويقول: - والنبي كفاية فلسفة! لم يكن هناك من بد -تحت وطأة الهواجس التي ظلت مسيطرة عليّ طول الوقت- أن أقرر الانصراف معتذرا للناس، الذين لاحظوا أنني قلق بالفعل، وأن أذهب إلى "الوحدة العربية" التي كنت بها قبل أربع وثلاثين سنة، قبل أن ينتهي اليوم الدراسي، لأرى بعيني إن كان إبراهيم يجلس على دكة في الفصل أم لا. في خطوات قليلة، اجتزت الفناء، ارتفع كثيرا عن الماضي أو غاصت الفصول ذات الطابق الواحد، ولم تكن النخلتان عاليتين كما كنت أتوقع، وحل محل سور الجازورين صف من نباتات الجارونيا المورقة، وتشابكت أغصان الياسمين في قوس أعلى البوابة، وبدت شرفات البيوت المطلة على الفناء قريبة جدا، وحين دخلت إلى ذات الفصل، دمعت عيناي، ففي ذات الدكة الأخيرة، كنت أراه يجاهد كي يضع ساقه النحيفة بجوار الثلاثة الذين بدوا أنهم استراحوا لهذا الوضع. كنت أكثر مَن شَعَر بآلام هيما، وأنا أوقظه في صباح اليوم التالي، حين وجدت حرارته مرتفعة، وكان صامتا، وعيناه تنظران نحوي بتوسل وضعف، ووحدي كنت الذي أعرف -لا أمه- أنه لا يودّ الذهاب إلى "الوحدة العربية" في اليوم الثاني. ___________ محمد إبراهيم طه: قاصّ، وروائي، وطبيب مصري، عضو اتحاد الكتاب ونادي القصة، حائز على جائزة الدولة التشجيعية 2001 عن مجموعته القصصية (توتة مائلة على نهر)، وجائزة الشارقة في الرواية سنة 2000 عن روايته (سقوط النوار).