هذه الأيام هي الذكرى 521 لسقوط الأندلس.. تلك الأرض القصية التي تناوب عليها الروم والقوط في الحكم، حتى دخلها الفتح الإسلامي ليستمر بها ما يقارب الثمانية قرون من الزمان، ثم يخرج منها وقد تم اجتثاثه تماماً، وبعد ما مورث ضد الأندلسيين من قهر وظلم على يد محاكم التفتيش الإسبانية، لتسقط الأندلس منذ أكثر من 5 قرون.. وفي هذا المقال سنستقرأ الماضي في رحلة عبر التاريخ لنعرف كيف فتحت الأندلس وكيف سقطت في النهاية. الأندلس التي بدأت بوصول طريف بن مالك إلى الجزيرة الخضراء، عام 710م، والتي تغير أسمها إلى جزيرة طريف تيمناً باسم أول من دخلها، وكان وصول طريف ومن معه كطليعة استكشاف لهذه الأرض الجديدة التي تحتاج عبور البحر حتى الوصول إليها.. وقد عاد طريف مبشراً بإمكانية الفتح. الفتح هل كان بالقتل وحد السيف؟؟ وهكذا بدأ الفتح على يد طارق بن زياد، الشاب الأتي من البربر والقائد العربي موسى ابن نصير ومعه ولده عبد العزيز. لقد قام طارق بعد استعانته بيوليان حاكم مدينة سبته، بالانطلاق لفتح أرض شبة الجزيرة الأيبيرية (وهي ما أطلق عليه بعد ذلك الأندلس). كانت شبة جزيرة أيبيرية تحت حكم الملك القوطي غيطشه، إلا أن رودريجو أحد قوات جيشه قد قفز على العرش وقتل الملك، ولما كان من سوء حكم رودريجو، فقد أنقلب المقربين من الملك المقتول من إخوته وأبنائه، وكذلك القواد الأكثر قرباً له وتعاونوا مع طارق بن زياد ضد رودريجو. كان على رأس هؤلاء يوليان حاكم سبته، والذي اختلفت المراجع التاريخية في ذكر أسباب انضمامه لطارق، فالبعض أكد أن يوليان كان ولاءه للملك غيطشه، وانه رأى في رودريجوا حاكم فاشل سيغرق البلاد، فقرر الانضمام للقوى الصاعدة للإمبراطورية الإسلامية في ذلك الوقت.. بينما رجحت العديد من المصادر أن أبنة يوليان كانت ضمن بلاط الملك غيطشه وأن رودريجو قام بالاعتداء عليها عندما قتل الملك وقفز على الحكم، ولذلك أثر يوليان الانتقام بالانضمام ومساعدة جيش طارق. في الوقت نفسه كان من أهم المنضمين لطارق بن زياد هو "أوباس" أخا الملك غيطشه والذي انسحب بقواده وجنوده أثناء معركة نهر وادي لكة الشهيرة. وهكذا وتحت هذه الظروف تقدم طارق وجيشه الذي كان قوامة 7000 من البربر المسلمين وثلاثمائة من العرب، ليفتحوا مدينة تلو الأخرى بسهولة ويسر بعد أن اغتصب رودريجو غير المحبوب الحكم من الملك الشرعي للبلاد. واستمر الفتح حتى نهر وادي لكة، وهناك علم طارق بأن رودريجو قادم إليه على رأس جيش قوامة 100 ألف مقاتل، فبعث إلى موسى يطلب منه المدد، فأمده موسى بن نصير بخمسة ألآلاف مقاتل.. وهكذا بدأت معركة "نهر وادي لكة" بين 12 ألف وثلاثمائة مقاتل مسلم ومائة ألف مقاتل من القوط.. لينهزم القوط شهر هزيمة بعد انسحاب عدد من قواته الذي بقى ولائهم لملكهم الشرعي، ورءوا أن حكم طارق ومن خلفه الدولة الإسلامية أكثر عدلاً من حكم رودريجو قاتل الملك. اختفى أثر رودريجو من التاريخ ويرجح اغلب المؤرخين انه قد قتل. عندما دب الخلاف بين القادة المسلمين رغم روعة وصف أمجاد الإمبراطورية الوليدة إلا أنه لم يكن دائماً الثوب ناصع البياض فالحكم هو الحكم والملوك هم الملوك.. ففي البداية شب الخلا بين موسى بن نصير وطارق بن زياد. فلم يرد موسى لطارق أن يكمل الفتح بعد معركة وادي لكة، إلا بعد وصول موسى إليه، إلا أن أوضاع جيش طارق كانت في خطر وأماكن تمركزهم لا تسمح بالثبات والانتظار وغلا تعرضوا لفلول جيش رودريجو، فاستمر طارق في الفتح حتى وصل إلى عاصمة القوط طليطلة وقام بفتحها بسهولة. وعندما وصل أبن نصير، أشتد غضبه على طارق، وهنا أيضاً أختلف المؤرخون فمنهم من أكد أن خلاف طارق وبن نصير لم يتجاوز العتاب بينهما وأنهما واصلا الفتح سوياً على ثلاثة محاور حتى تمام فتح الأندلس، ومنهم من أكد أن موسى نكل بطارق بشدة انتقاماً من ما اعتبره عدم انصياع لأوامره. إلا أن المؤكد أن الفتح استمر حتى حاز أغلب مدن شبه جزيرة إيبيريا وأن طارق قد شارك في الفتح وكذلك موسى بن نصير وعبد العزيز بن موسى. إلا أن رسالة من الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك قد وصلت لموسى وطارق تأمرهما بالقدوم إلى دمشق، وهكذا ترك القائدان عبد العزيز بن موسى بن نصير ليواصل الفتح وعادا هم إلى دمشق. إلا أن الفرقة مرة أخرى تعبث بالأقدار فلقد أصاب الوليد مرض الموت، مما جعل ولي عهده سليمان بن عبد الملك، يرسل لموسى وطارق ويطالبهما بتلكأ في العودة حتى يموت الخليفة الوليد ليدخلوا فاتحين في عهده هو، وينسب إليه الفتح، إلا أن طارق وموسى قد وصلا قبل موت الوليد. البطل قائد الفتح يموت فقيرا منبوذاً وهكذا بمجرد تولى سليمان خلافة المسلمين، قام بالتنكيل بالقائدين فقتل عبد العزيز بن موسى بن نصير تنكيلاً بوالده، واختفى أثر طارق بن زياد من التاريخ، إلا أن اغلب المؤرخين يرجحوا انه لم يقتل بل عزل، فاعتزل السياسية وعاش فقيراً منبوذاً حتى مات.
وهكذا رغم فتح الأندلس إلا أنها ظلت تتقلب بين الولاة في عصر كانت الدولة الأموية تحتضر به.. ويستعد التاريخ لظهور قوى جديدة وهي الدولة العباسية.. سقطت الدولة الأموية في الشرق وقامت خلافتها بالأندلس وهكذا يكون انهيار دولة في الشرق هو إبان بدأ دولة قوية في الأندلس، فبسيطرة العباسيين على دمشق وبدأ دولتهم من العاصمة بغداد، رحل عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) الأمير الأموي الهارب، من الشام بعد سقوط ملك أبائه بدمشق، ليدخل الأندلس والتي مازالت تحت الحكم الأموي، بعد رحلة طويلة ويؤسس الخلافة الأموية بها من جديد. حُكم ظل لقرون.. ووصل لمرحلة من الحضارة والازدهار تدير الرؤوس.. حكم موحد ومتماسك وغير عنصري.. وصل أوجه في عصر عبد الرحمن الناصر، والذي دانت له كامل أرض الأندلس، وذل لدية الملوك ليتقربوا منه ويستظلوا بمملكته القوية. إلا أن طمع الحَكم بن عبد الرحمن الناصر بأن تكون الخلافة من بيته هو أدى لبداية النهاية للأندلس وبوضع اللبنة الأولى في السقوط الذي استمر لقرون.. فولى الحكم ولده صبياً وعزل أخوته الكبار عن الحكم، وهكذا بدأ حكم المنصور بن أبي عامر الوصي على الصبي الصغير ثم منحيه عن الحكم ليقضي على الخلافة الأموية فعلاً ويتركها أسماً.. المنصور.. عندما تكون حاكماً عظيما وديكتاتوراً لم تنكسر الدولة في عصر المنصور ولم ينهزم له جيش.. ولم تنكس له راية.. وقد خاض المنصور ما يقارب 52 غزوة انتصر بهم جميعاً وفتح بهم أرضاً جديدة تضاف إلى الأندلس، إلا أن المؤرخ المعاصر د.حسين مؤنس.. يشتد على المنصور فيعتبر أن فتوحاته كانت تزورها الرياح، فلم يكن يفتح الأرض ليؤسس فكر راقي أو إسلامي حقيقي، ويضع بها لبنة حضارة، بل كان يفتح الأرض تلو الأخرى عسكرياً فقط دون أي إضافة حضارية لها، وهذا ما جعل البلاد التي فتحها المنصور هي أول البلاد المرتدة في الأندلس. إلا أن كثير من المؤرخين القدامى يعتبرون أن فتوحات المنصور كانت حائط صد زاد عن الأندلس في فترة الطوائف وأبطأت من السقوط، وبين هذا الرأي وذاك يبقى المنصور المثير للجدل في التاريخ قد قام برفع راية الأندلس عالية.. ولكنه في ذات الوقت قضى على كل من ظن انه يستطيع أن يستولى على الحكم منه، فلم يترك أحداً في الأندلس يصلح من بعده.. ولم يقبل التشارك ولم يقبل التوحد مع غيره.. ولم يقبل الرأي الآخر.. كان حاكم مبدعاً وعظيما وفاتحاً وجندياً مغواراً ولكنه كان كذلك ديكتاتوراً أكثر أبداعاً. عصر الطوائف والفرقة وهكذا عندما مات المنصور دخلت الأندلس في نفق مظلم يدعى عصر الطوائف.. فلم يستطيع ولده عبد الملك أن يكون مثل أبيه. وبدأت أطراف الدولة العظيمة تتآكل.. فهذا يجترأ ليأخذ قضمة من الشمال وذاك من الجنوب.. وبدأت ممالك إسبانيا والبرتغال بعد أن كانت ترتعش من ذكر أسم الناصر والحكم ثم المنصور، تتجرأ لتقهر وتذل جباة ملوك الطوائف. عندما أصطدم المرابطين والموحدين فضاعت الدولة إلا أن الإنقاذ المؤقت كان أتياً على يد رجل أخر عظيم هو يوسف بن تاشفين.. لتبدأ دولة أخرى امتازت بالعظمة ولكنها امتازت كذلك بالديكتاتورية، دولة المرابطين الآتية من صحراء المغرب، رغم تفقه وتدين ابن تاشفين إلا أن باقي قواده لم يكونوا على نفس الدرجة من النزاهة، ورغم ارتفاع دولة المرابطين ورغم كونها بالفعل حائط صد أعطى الأندلس المزيد من السنوات إلا أنها سقطت في النهاية. ولآن الهدف هو الصراع ولأن الملك عقيم.. لم يفكر أحد في صالح الأندلس.. ففي قمة تألق دولة المرابطين.. نشأت دولة قوية هو دولة الموحدين وبدلاً من أن يتكاملا.. تصارعا.. فأفنت الموحدين المرابطين ولكن بعد أن أضعفتها الصراعات مع دولة المرابطين.. وهكذا فالدولة الإسلامية في الأندلس أخذت في الضعف وهكذا بدأت ممالك قشتالة وليون ونبار وغيرها في القوة.. ورغم نجاح دولة الموحدين في الانتصار في معركة الآرك إلا أن هذه المعركة لم يكتب لها أن تنقذ الدولة الآخذة في السقوط.. فكان في انتظار الموحدين معركة العقاب والتي أفنتهم عن بكرة أبيهم.
وسقطت الأندلس وظهر الملكين فيردناندو وإيزابلا على الساحة.. ومع محاولات بني الأحمر البائسة للحفاظ على الدولة والتي تآكلت تماماً ولم يبقى بها إلا غرناطة.. كانت محاولات الملكين الأكثر قوة، وهكذا وقع أبو عبد الله الصغير حاكم غرناطة وثيقة الهزيمة، ليعود باكياً إلى والدته عائشة الحرة، فتؤنبه بجملتها الشهيرة "أبك كالنساء ملكاً لم تحفظه كالرجال". ليضطهد المورسيكيون لسنوات وتنتهي الأندلس تماماً أما بتغير الدين تحت ضغوط محاكم التفتيش أو الرحيل من الجزيرة.. في 2 يناير 1492. تحل ذكرى سقوط الأندلس اليوم.. ورغم كوني لست من الداعين لأخذ العبر والنظر إلى الماضي إلا أن التاريخ بالفعل يحب بشراهة إعادة ذاته. لقد دامت الأندلس ما يقارب ثمانية قرون وسقطت من خمسة قرون.. ومازالت ذكراها تثير الكثير من التفكر في كيف تسقط الدولة والممالك هكذا.
إضغط لمشاهدة الفيديو: ذكرى سقوط الأندلس * خمسة جد اضغط على الصورة لمشاهدة الجاليري: إضغط لمشاهدة الفيديو: