ماذا لو كان رئيس اللجنة التأسيسية لوضع الدستور في مصر مسيحيا؟ مجرّد طرح السؤال يفتح على صاحبه أبواب جهنم، وربما يدفع البعض دفعا لإخراجه من الملّة، لكن هذا حدث بالفعل ونجح نجاحا مبهرا في دولة كبيرة يقوم دستورها على قيم ومقاصد الشريعة الإسلامية، وتحتلّ مركزا متقدّما في قائمة الدول الأكثر ديمقراطية في العالم. ومن باب التكرار: إندونيسيا أكبر دولة إسلامية في العالم من حيث عدد السكان، ولم تعرف المسيحية إلا مع دخول الاستعمار الهولندي، وبها 6 ديانات معترف بها، ورغم ذلك حين صنعت ثورتها وأسقطت طاغيتها بعد 32 عاما، اختارت مسيحيا ينتمي إلى أقلية عرقية في جزيرة سومطرة لرئاسة لجنة صياغة دستور البلاد بعد الثورة. لقد اختار الإندونيسيون بالتوافق السيد يعقوب توبنج -أستاذ القانون المنتمي إلى أقلية دينية "المسيحية"، والقادم من أقلية سكانية جزيرة سومطرة- ليرأس اللجنة المُشكّلة لوضع دستور جديد للبلاد بعد الثورة الشعبية التي أسقطت الجنرال سوهارتو عام 1998، ومع ذلك لم تقُم الدنيا وتقعد، ولم تنطلق صيحات "واهويتاه"، ولم يذهب سكان هذه الدولة الفسيفسائية الضخمة إلى احتراب صاخب حول موضوع الهوية، ذلك أن الجميع كانوا يضعون نصب أعينهم هدفا واحدا يتمثّل في إقامة دولة عصرية بهوية واضحة ومحدّدة منذ التحرّر من الاستعمار عام 1945. وقد استطاعت هذه اللجنة التوصّل إلى دستور يحترم الحريات وقيم التقدّم والتطوّر، على 4 مراحل دون أن تتعرّض هوية البلاد الراسخة والمستقرة للخدش أو الاهتزاز، والنتيجة نمو ديمقراطي مذهل وتنمية اقتصادية عظيمة ستقفز بالبلاد إلى قائمة السبعة الكبار بعد 7 سنوات من الآن. لقد جلسنا نستمع بكثير من الدهشة للبروفيسور يعقوب توبنج، وهو يستعرض قصة دستور إندونيسيا بعد الثورة "العظيمة" (العظيمة من عندي على الرغم من أن المتحدّثين الإندونيسيين يُطلقون على ما جرى في بلادهم الإصلاح وليس الثورة) التي غيّرت وجه الحياة فيها في ظرف 14 عاما فقط، وكان من بين الحضور النائب الإخواني في مجلس الشعب -المنعدم بنص حكم الدستورية- وأمين حزب الحرية والعدالة بالجيزة محمود عامر، والقيادي الإخواني السابق الدكتور كمال الهلباوي. وخلاصة التجربة أن الإندونيسيين جعلوا الشريعة الإسلامية روحا تسري في مواد الدستور، ولم يعتقلوها في نصوص جامدة ومغلقة؛ حيث تمثّلوا المقاصد والغايات العظيمة للدين الإسلامي في دستورهم، ولم يُهدروا وقتهم وطاقتهم في لغط "مبادئ أم أحكام"، والنتيجة كما ترى: دولة تعرف سبيلها إلى عالم الكبار بخطوات واثقة دون أن تفقد هويتها. وليس هذا فقط ما جرى؛ بل إنه من بين مائتين وخمسين لغة محلية يتحدّثها الشعب الإندونيسي، وقع الاختيار على لغة أقلية عرقية لتكون اللغة القومية للبلاد، ومع ذلك لا تلمس فَرقا بين إندونيسي بالعاصمة جاكرتا، وآخر في أبعد جزيرة من آلاف الجزر التي تشكّل خارطة وطن وأمة إندونيسية تتحقّق فيها قيم المواطنة المتساوية والعادلة بين الجميع. وهذا هو الفرق بين دولة متعدّدة الديانات والأعراق واللغات، لكنها موحّدة على هوية إسلامية راسخة مثل إندونيسيا، وبين دولة إسلامية تتعلّم الدنيا كلها منها الإسلام، لكنها تتمسّك بشخصية سياسية بيزنطية مثل مصر.