الحديث عن واجب مراعاة المسلمين لأقباط مصر -إخوانهم في الوطن- قُتِلَ حديثًا من منطلق أهمية تحقيق مطلب الوحدة الوطنية كواجب وطني وضرورة سياسية.. ولكن ماذا عن مطلب تنفيذ أمر الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- كواجب ديني على كل مسلم؟ هنا لا حديث من منطلق المنفعة السياسية والواجب الوطني، بل من منطلق صلة الرَحِم التي أمر الله تعالى من فوق سبع سماوات بإعطائها حقها.. نعم.. ففي الحديث عن مصر وأهلها جاء في صحيح مسلم: "إنكم ستفتحون أرضًا يُذكَر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرًا فإن لهم ذمة ورحمًا". الذمة معروفة وهي لكل غير مسلم يعيش في أرض الإسلام، فماذا عن الرَحِم؟ لماذا خُصّ قبط مصر بالوصية بها؟ قد وصف الله تعالى نبيه إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- بوصف "أبيكم إبراهيم" أي أنه أبٌ للمسلمين، مما يجعل زوجته السيدة هاجر المصرية -رضي الله عنها- أمّاً لنا.. فمن نسلهما انحدر العرب الذين كانوا النواة الأولى للإسلام، ومن صلبه ورحمها جاء النسل الذي تشرّف أن يخرج منه خير خلق الله الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- فالمصريون إخوة السيدة هاجر أخوال العرب، هي صلة رحم قال فيها أحد الملوك إن رجلاً يأمر بمراعاتها رغم بعد العهد بها هو بالتأكيد لنبي كريم يراعي صلة الرحم ولو كانت بعيدة ترجع لزمان سحيق. فكّر معي -عزيزي القارئ- لو كان يعيش بيننا الآن بعض أهل السيدة هاجر -رضي الله عنها- أما كنت لتراعي أنهم أهل بيت زوجة أبينا إبراهيم، فتُحسِن إليهم وتراعيهم وتحترمهم؟ لقد جاء في السيرة النبوية الكريمة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين غزا بني المصطلق وأسر بعضهم ثم تزوج ابنة سيدهم (وهي السيدة جويرية بنت الحارث) فشعر الصحابة -رضوان الله عليهم- بالحياء أن يسترّقوا قوم زوجة نبيهم، فقالوا: "هم أصهار رسول الله"، وأطلقوهم إكرامًا له ولزوجته رغم أنهم كانوا أعداء الأمس.. أفلا يستحق قبط مصر -أهل السيدة هاجر- أن نستحيي أن نظلمهم أو أن نسيء إليهم؟ نعم هم أهلها وإخوانها في الوطن رغم اختلاف الدين؛ فالله تعالى وصف سيدنا هودًا -عليه الصلاة والسلام- بأنه أخ لقوم عاد، حين قال فيه: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} كما جاء في تفسير القرطبي رحمه الله.. فقبط مصر هم إخوة الوطن والعِرْق لأمنا السيدة هاجر.. ما بالك وقد أوصانا الرسول -عليه الصلاة والسلام- بهم؟ ولا يغرّنا بُعد الفترة الزمنية؛ فصلة الرحم لا تنقطع ولا تسقط بالتقادُم. وقد جاء في الحديث القدسي أن الرَحِم حين خلقها الله تعالى قامت فقالت: "هذا مقام العائذ بك من القطيعة"، فقال لها الله عز وجل: "أما ترضين أن أقطع من قطعك وأصل من وصلك؟" فقالت: "بلى" .. ثم بعد أن ذكر الرسول -عليه الصلاة والسلام- هذا الحديث القدسي تلا قول الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}. تخيل معي -عزيزي القارئ- المقام العظيم للرحم عند الله، حتى يجعل الله صلة الإنسان لها عملاً عظيم الثواب حتى يكون ثوابه أن يصل الله من فعله، وأن يكون قطعها ذنبًا كبيرًا حتى يعاقب الله مرتكبه بأن يقطعه، نعوذ بالله من القطيعة منه! وتخيل معي كذلك عظمة دين يراعي صلة الرحم مع قوم تعود علاقة الرحم بهم إلى آلاف السنين.. فكيف -بالله عليك- نتخلى عن أحد مظاهر هذه العظمة، ونرى اليوم قومًا يحرصون على التقرب إلى الله بالصلاة والصوم ومختلف الطاعات والعبادات، ثم يقطعون -من حيث لا يدرون- صلة رحمهم بقوم أمهم العظيمة الذين أمر رسولهم العظيم بمراعاتها.. صحيح أن بعض أهل رحمنا قد تصدر عنهم أفعال تسيء لنا، ولكن ألم يقل لنا الله أنه {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}؟ ثم ألا يقتضي حسن صلة الرحم أن نتجاوز عن المسيء وندفع بالتي هي أحسن وأن نكون من الصابرين؟ أنا لا أدعو للضعف والتراخي مع من يشتطّ في العداء؛ فهذا إنسان قد قطع الرحم من جهته، ولكني أقول إن علينا أن نستنفد كل الوسائل الكريمة في مواجهته لنُعذِر أنفسنا أمام الله.. والتاريخ يقول إن المسيئين إلينا من إخواننا الأقباط لطالما كانوا -في مختلف مراحل التاريخ المصري- قلة لا تُذكَر ولا تُعبّر عن الموقف القبطي منا. قد يسأل سائل: "وفيم يختلف الأمر لو راعيناهم للرَحِم ما دمنا مأمورين بأن نراعيهم ونحسن إليهم للذمة؟" والإجابة أنك حين تُحسِن لغير المسلم لأنه في ذمة الله وذمة رسوله -عليه الصلاة والسلام- فإن من تُحسِن إليه لسبب إضافي هو صلة الرحم بينه وبين نبيك -صلى الله عليه وسلم- وبين المسلمين، وتضع هذا نصب عينيك فإنك بهذا تكون أكثر حرصًا على حسن معاملته ويكون لك "سبب مشدد" يمنعك من أن تتعصّب أو تتحيّز ضده؛ لعلمك أن له ميزة ليست لغيره من غير المسلمين في البلاد ذات الأغلبية المسلمة. فلتتذكّر هذا إذن كلما ذُكِرَ قبط مصر في موضع أو موطن.. أنهم ليسوا مجرد أهل ذمة أو إخوة وطن بل هم كذلك أهل أرحامنا.. وأصحاب وصية الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ومظهر من مظاهر عظمة هذا الدين الذي نفخر باعتناقه.. والذي كانت -وما زالت إلى الأبد- عظمته في محتواه الأخلاقي الراقي. مصادر المعلومات: 1- تفسير القرطبي. 2- تفسير ابن كثير. 3- البداية والنهاية: ابن كثير. 4- موسوعة عظماء حول الرسول: د.عبد الرحمن العك. 5- صحيح مسلم. 6- معجم ابن المقرئ. 7- موقع إسلام ويب.