يفاجئني أحيانا بعض القراء الكرام برغبتهم في ربط التحليلات السابقة التي يكتبها الإنسان وتطورات حياتنا السياسية، وكان موعدي في الأمس القريب مع صديق صغير السن نابه العقل لديه نهم للتعرف على الخلفيات وراء الكلمات، وكان موضوع الحوار مقالا لي بعنوان: "أجمل اسم لطفل مات"، قلت فيه: هل تعلم أسرة أنجبت طفلا فظلت تتجادل في اسمه وتختلف بشأن المدرسة التي سيذهب إليها، وحين يكبر سيذهب إلى أي كلية، واستمر جدلهم لبضعة أيام، لدرجة أنهم نسوا إطعامه وتطعيمه؟ في النهاية أحسنوا اختيار الاسم وخططوا له طريقا عبقريا لمستقبل مشرق، لكن الطفل مات. الطفل مات لأن "الهتيفة" يقررون مصيره، و"الهتيفة" يريدون أن يحكموا البلد.. قديما قالوا: "لو وقع بيت أبوك، الحق خد لك منه قالب". "الهتيفة" تفوقوا على هؤلاء وأصبح شعارهم "نهدم بيت أبونا بأيدينا بحثا عن القالب". ربما يكون هذا التشبيه ليس دقيقا، ولكنه يحمل تخوفي من أننا نتجادل كثيرا لإثبات الذات وتسجيل المواقف وإحراج الطرف الآخر، والثورة ستموت وستتحول في كتب التاريخ إلى هوجة ساذجة نجحت في تدمير القائم وفشلت في بناء البديل، لأن مجموعة من الساسة الهواة فشلوا في أن ينكروا الذات الحزبية والأيديولوجية لصالح المصلحة الوطنية بدليل أنهم لا يدركون، أو يتجاهلون المعاناة التي سنواجهها جميعا بعد عدة أشهر بسبب التحديات الاقتصادية، وهنا أنا أشدد مرة أخرى على المخاطر الاقتصادية التي تواجهنا، ولأني أعلم أن الكثيرين منا ليسوا متخصصين في الاقتصاد، فسأحاول تبسيط المفاهيم وأنفذ منها إلى رسائل محددة للمواطن المصري الذي عليه أن يسأل: ماذا أفعل كي أساعد مصر اقتصاديا؟ ثورتنا السياسية لا بد أن تكون مصحوبة بثورة في قيمنا ومفاهيمنا الاقتصادية، وإلا سنتحول إلى بنجلاديش المنطقة: انتخابات وحكومات تحظى بثقة البرلمان، ومجتمع يعيش عالة على المساعدات الأجنبية، والكتب الدراسية تتحدث عن ماضي مصر التليد وكيف أن أجدادنا أول من اخترع الملابس، ولكننا نقف عرايا، وأول من اهتم بقيمة الوقت، لكن نحن نتعامل مع الوقت وكأنه مورد لا قيمة له، وأن أجدادنا أول من التزم القيم الأخلاقية وسطرها في المعابد والأهرامات، ولكننا مجتمع غير مزود بهذه القيم. ولنعد إلى الاقتصاد، فهدف النشاط الاقتصادي هو زيادة ثلاثة متغيرات وخفض ثلاثة متغيرات: نحن نريد زيادة الاستثمار والنمو والتشغيل، ونريد تقليل الإعالة والتضخم والديون، إذن نحن نريد أن ننتج كل سنة أكثر مما نستهلك، وهذا سيؤدى إلى زيادة نمو اقتصادنا من سنة إلى أخرى بمعدل يفوق معدل الزيادة السكانية، والمشكلة في الزيادة السكانية ليست المواليد الجدد في حد ذاتهم، وإنما المشكلة هي "معدل الإعالة"، أي نسبة من يعملون إلى نسبة من لا يعملون، مثلا أنا متزوج وعندي طفلان فقط، ودخلي يزيد بمعدل يسمح لي أن أحيا حياة كريمة، ولكن جاري عنده خمسة أطفال وكل سنة عنده طفل جديد، بما يعني أنه أصبح مسئولا عن إطعام خمسة أشخاص أو أكثر، في حين أنني مسئول عن إطعام طفلين فقط، هذه النسبة في مصر نحو 3 مُعالين في مواجهة كل شخص يعمل، وهي من أعلى النسب في العالم، وهي في زيادة؛ السؤال: هل من الممكن للمصريين الذين لديهم ثلاثة أطفال أو أكثر ومراعاة للظروف الاقتصادية الصعبة حاليا، أن يخططوا لتأجيل إنجاب أطفال آخرين لفترة سنة واحدة فقط، بما يتيح لنا ولو جزئيا تخفيض نسبة الإعالة؟ هذا ما أتمناه، وكفى بالمرء إثما أن يُضيّع من يعول، كما جاء في الحديث الشريف. البيئة السياسية المستقرة شرط ضروري لمواجهة التحديات الاقتصادية، والجيل الحالي من السياسيين أغلبهم هتيفة وهواة، هواهم البرامج المسائية ليثبتوا فيها أنهم "بتوع نضال آخر زمن في الاستديوهات" والبلد بتغرق، وهم يسجلون المواقف على بعضهم البعض، لقد تقاربت الرءوس فتناطحت والضحية "طفل يموت أمامنا بحثا عن شربة ماء، ونحن نتجادل بشأن أفضل جامعة ليلتحق بها". ولا حول ولا قوة إلا بالله. نُشر بجريدة الوطن