محمد فوزي فنان تشكيلي درس علم الإنثروبولوجي بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، كان يمضي في حياته مثله مثل أي شاب عادي يسعى ويأمل أن يتميز، ولكنه كغالبية أبناء هذا الجيل لا يعي جيدا ماذا يريد أو لم يكن يعي إلى أن سافر إلى سيوه منذ أكثر عشرة أعوام في رحلة استكشافية غيّرت هذه الرحلة مجرى حياته، وتحوّل من مجرد شاب هاوي للفن إلى مقيم في سيوه وصاحب مركز تنموي تدريبي للأطفال يحمل اسم موتوبيا وأيضا باحث وكاتب في التراث السيوي. ما بين الزيارة الأولى والآن سنوات وسنوات سيحكيها لنا محمد فوزي في الحوار التالي....
في البداية من هو محمد فوزي بشكل أكثر تفصيلا؟ شاب لديه أحلام تتجاوز سنوات عمره الثلاثين، دخلت كلية الزراعة مثولا لرغبة والدي في البداية لكن بعد عام من الدراسة لم أستطِع الاستمرار لم أجد نفسي هناك فنقلت أوراقي إلى كلية الآداب جامعة الإسكندرية ودرست علم الأنثروبولوجي وهو يطلق على علم (الإنسانيات). وبعد أن أنهيت دراستي كان يعتريني شعور أن الهدف من التعليم الذي حصلت عليه ليس مجرد شهادة فقط، ولكنه بداية طريق من الممكن أن تغيري الكون من خلاله. وكانت نقطة التحول لي عندما سافرت إلى سيوه لعمل مشروع بحثي، فلفت نظري طبيعة المكان الساحرة وأكاد أزعم أنني وقعت في غرامها من أول نظرة، الأمر الذي دفعني إلى الاستقرار بها منذ عام 98 وإنشاء مركز موتوبيا للفنون والثقافة.
لماذا اسم موتوبيا بالذات هل كنت تغازل مدينة أفلاطون الفاضلة؟ من المحتمل... فكلمة يوتوبيا -كما يعلم الكثيرون- تعني المدينة الفاضلة التي أقرها فلاطون والتي كان يطمح إليها. وأنا أيضا عند ذهابي إلى سيوه لم أكن أمتلك أي إمكانيات مادية تمكنني من إشهار مركز يحمل اسمي فقررت العمل باسمي وهو محمد، ولكن هذا الاسم منتشر جدا فقررت أن أضفي عليه بعض التميز فاخترت مدينة أفلاطون الفاضلة وأضفت إليها حرف الميم الخاص باسمي وخرج الاسم الذي أستخدمه الآن وهو موتوبيا.
تتحدث بسهولة الآن عن رحلتك ولكن من المؤكد أن مشوارها لم يكن بهذا القدر من السلاسة؟ فعلا لقد تعرضت للعديد من المواقف السلبية والإحباطات في بداية إنشائي للمركز؛ فأنا غريب عن المكان والحماسة الزائدة التي دخلت بها في المشروع جعلتني أنسى طبيعة أهلها وتقاليدهم البدائية، وعدم قبولهم للآخر بسهولة خاصة لو كان هذا الآخر يحمل معه الألوان والكتب ويريد الاحتكاك بأطفالهم.
ماذا حدث؟ قمت بعمل المركز الذي يحمل اسم موتوبيا بعد فترة من وصولي ووضعت فيه أكثر من ألف كتاب للأطفال ونظمت ورش فنية تعريفية للأطفال وعلمتهم بعض الأعمال اليدوية مثل النحت على الملح وفن طي الورق والرسم بالصلصال، وكانت الأمور جيدة إلى حد ما إلى أن أدخلت جهاز كمبيوتر في المركز لتعليم الأطفال معنى التكنولوجيا وكان هذا أول جهاز يدخل سيوه في ذلك الوقت. فكان شيئا طبيعيا أن لم يدرك أهل سيوه ما يعنيه هذا الجهاز وتصوروا أني أضر أولادهم بوجود هذا الشيء الغريب فهددني بعضهم بهدم المركز بشكل كامل فاضطررت أمام هذه التهديدات إلى نقل المركز الذي مكثت أكثر من سنة في إعداده إلى جبل الدكور في سيوه، ولكني استفدت مما حدث لي وقررت تحويل المركز من مجرد مركز تنموي للأطفال إلى مزار سياحي لأهل سيوه وللأجانب الوافدين إليها.
كورسات طي الورق ما الذي يقدمه المركز بشكل تفصيلي وما معنى مفهوم التنمية المرتبط بالفن في تصورك؟ هدف المركز الأساسي تنمية وتطوير أطفال سيوه عن طريق تقديم كورسات تنموية لهم مقترنة بالفن مثل كورسات للرسم وتهدف إلى تعريفهم الألوان وطبيعتها وكورسات طي الورق أهدف منها إلى تعليمهم الأشكال وأسماء الحيوانات وكورسات فنية آخرها غرضها الارتقاء بهم وبتفكيرهما مثل كورسات النحت على الملح والتصوير الفني هذا الشق الأول من المركز. الشق الثاني استهدفت به الحفاظ على التراث السيوي من الاندثار عن طريق إدخاله في قصص وكتب مصورة لهم، وأيضا عمل مجلدات أتناول فيها التاريخ والثقافة السيوية بشكل تفصيلي.
وهل قمت من الانتهاء من شيء في مجال الثقافة السيوية؟ إلى حد كبير.. نعم أنا أكتب منذ أكثر من 11 عاما في مجالات مختلفة تتميز بها سيوه؛ مثل الحرف اليدوية واللغة والعادات والتقاليد وأشكال الثقافة المادية، وكذلك أشكال الثقافة الشفهية المتنوعة ومنها حكايات وأغانٍ وحكم وأمثال وفوازير وطرائف وكذلك قوانين عرفية سيوية واحتفالات كانت تمتاز بها سيوه، ثم انقرضت واعتمدت بشكل أساسي على المناهج الأنثروبولوجية في البحث والمعايشة المباشرة والاستقراء لكل المعلومات. وأكاد أزعم أنها كانت مغامرة شبيه بالحلم؛ لكِ أن تتخيلي كيف لشخص كان مهددا بالقتل بسب إدخاله جهاز كمبيوتر أن يتحول بعد فترة من الصبر إلى فرد مرحب به في غالبية البيوت السيوية.
ما هو أصعب جزء مر عليك خلال بحثك في سيوه؟ الجزء الخاص باللغة فأهل سيوه يتحدثون اللغة الأمازيغية والتيفيناغ وهي في الأصل لغة البربر أو الأمازيغ والذين كانوا يسكنون الجزائر وتونس والمغرب والبعض منهم كان يمكث في ليبيا في وجه الجغبوب، وغرابة اللغة جعلتني في البداية غير قادر على التواصل وجمع المعلومات عن الثقافة السيوية؛ حيث إن غالبية المعلومات الثقافية الخاصة بسيوه شفهية حيث لم يسعَ أهل سيوه إلى تدوين هذا الثقافة من منطلق أنها مادة يتم تناقلها من جيل إلى جيل فالجد يقصّ للابن والابن يقصّ للأبناء، لكن هذه الدائرة التي كانت متصلة ومتشابكة إلى حد كبير تحولت بشكل فجائي إلى خط مستقيم نتيجة تخلي أطفال سيوه عن شغفهم بجمع هذه المادة الغنية واستبدلوها بالقنوات الفضائية والكتب المصورة في محاولة منهم إلى السعي لبريق المدينة الذي كانوا يفتقدونه... الأمر الذي أدى إلى اندثار قصص وأشكال ثقافية وفنية كانت تعتبر تراثية بشكل كبير فقدت وجودها في الفترة الأخيرة.... ومن أهم القصص التراثية في هذا المجال والذي أعتبرها أقرب قصة إلى قلبي قصة البقرة الخضراء والتي مكثت أجمع فيها من أكثر من 40 فردا غالبيتهم فوق المائة عام كل هذا حتى أستطيع أن أصل إلى أصلح وأكمل شكل للقصة. وأيضا أنا بصدد الانتهاء من قاموس للغة السيوية للأطفال وسيكون سيوي عربي إنجليزي، وسأحاول أن أخرج به خارج نطاق القواميس التقليدية للأطفال، حيث إن صفحاته تحتوي على عرائس ورقية مجسمة ورسومات ترفيهية متنوعة حيت إنني مؤمن أن الكتاب التقليدي الجامد الذي لا يحتوي على أي شيء مختلف لا يناسب الأطفال وطبيعتهم.
وما السبب الذي جعلك تفكر في قاموس سيوي اللأطفال؟ المشكلة التي يعاني منها أطفال سيوه هي التي دفعتني إلى ذلك؛ فالطفل السيوي يواجه مشكلة كبيرة جدا عند دخوله المدرسة لأول مرة حيث إنه لا يتكلم ولا يفهم سوى اللغة السيوية والتي تعتبر سمعية في الأساس.. وفجأة يجد نفسه مطالبا أن يقرأ ويدرس باللغة العربية الأمر الذي دفع بالتبعية اللغة السيوية إلى الاندثار حيث إن غالبية خريجي المدارس في سيوه يتحدثون اللغة الأمازيغية ولا يكتبونها ويكتبون اللغة العربية ولا يتحدثون بها ولذلك سعيت إلى إعداد قاموس يجمع لهم اللغتين بشكل مجمع.
وما الذي أنجزته خلال الفترة الماضية؟ انتهيت من كتابي ذكريات سيوية وهو كتاب وبحث أنثروبولوجي عن الثقافة السيوية أكتبه منذ 1998 نتيجة دراسات ميدانية متكررة طوال 11 عاما وأنشطة تراثية وبيئية وثقافية وتعليمية مع الأطفال عن طريق الفنون واللعاب وأنشطة إعادة التدوير، وقمت أيضا بتجمع أكثر من 12 قصة من الأساطير القديمة المندثرة في سيوه والفوازير والأمثال الشعبية السيوية وألعاب الأطفال وأدوات المطبخ القديمة المندثرة وقمت بطباعة أكثر من 12 قصة للأطفال مكتوبة خصيصا للأطفال في سيوه، 2 منهم تمت ترجمتهما للغة السيوية بمساعدة أصدقاء من سيوه، والقصص أقوم بطباعتها عن طريق الفوتو كوبي وتوزيعها ونشرها وتغليفها يدويا وبشكل شخصي وعمل عينات وتصميمات بالمئات لأعمال يدوية مبتكرة لها طابع سيوي قوي ومميز.
كتب وقواميس للأطفال ومعارض هل يوجد جهة راعية لكل هذه الأنشطة أم تعتمد على التمويل الذاتي؟ للأسف لا توجد أي جهة راعية، أنا أقوم بعمل كل هذا بشكل شخصي وأموّل الورش التي أقوم بها من حصيلة بيع كتبي وأعمالي الفنية التي أقوم بعملها بشكل بدائي إلى حد كبير، فأنا أرسم الصور وأكتب القصة بنفسي، ولكِ أن تتخيلي كمّ الجهد المبذول لكي أستطيع إخراج عدد من الكتب والتي أبيعها بمبلغ زهيد لا يتجاوز العشرة جنيهات.
الغربة والترحال وغير ذلك.... ألم يتولد بداخلك اليأس للحظة؟ بالتأكيد زارني اليأس كثيرا ولكن إيماني بما أفعله جعلني أتخطى هذه المرحلة.. أنا يئست واكتأبت وتمنيت العودة، لكني لم أقدر على ترك سيوه وأطفالها فلقد أصبحوا يمثلون لي حياتي كلها لقد عشت هنا سنوات وحلمت ووجدت أحلامي تتجسد لي كل يوم وتفاعل الأطفال معي ورؤيتي نتيجة ما أعلمهم من قيم وفن يجعلني أتناسى كل ما أتعرض له يوميا.. أنا أصبحت سيويا حتى كل ما يراني يظن أنني من أهل البلد وليس وافدا عليها، وأنا مؤمن أنني سأحقق شيئا كبيرا مما أفعله، ومؤمن أيضا بأن الله اختارني لتوصيل رسالة.
ما الجديد الذي ستسعى إلى تقديمه خلال الفترة القادمة؟ أنا أسعى إلى تجهيز معرض لمشغولات أطفال سيوي في القاهرة ولكني أبحث عن راعٍ لاستقدام بعض الأطفال الذين شاركوا معي في الورشة، فالمعرض لن يصبح له أي قيمة بدونهم؛ فأنا أريد أن آخذهم إلى الإسكندرية وأريهم المكتبات وشكل المنازل في مصر وشكل المتاحف ويجب أن يشاهدوا مردود الناس على أعمالهم؛ فهم لن يكملوا حتى يعلموا أن ما يفعلونه ليس مجرد تفاهة بل هو أسلوب حياة وإعداد لأجيال أخرى. وأحلم أيضا بإقامة معرض فني داخل أحد أنفاق المشاة في مدينة الإسكندرية؛ لأن فن الشارع فن غير مطروق في مصر على الرغم من أنه مهم جدا حيث إنه يضفي طابعا جماليا على المكان، الأمر الذي يساهم بالتبعية في تغيير نظرة الناس للشارع. وآمل أيضا وبشدة أن أحصل على تعاون من أي جهة أو وظيفة ثابتة في نفس مجالي تمكنني من الإنفاق على مشروعي في سيوه.. أنا أعمل بجد من أجل هدف لا أسعى من ورائه إلى الكسب أو جني أموال.. أنا سئمت من الزيف المحيط بي واستغلال البعض لحبي وحماسي لمشروعي لجني أغراض شخصية من ورائه.
للتعرف على محمد فوزي الجمال بشكل أعمق يمكن لكم زيارة موقعه أو الجروب الخاص به على الفيس بوك
موتوبيا محمد فوزي * تنمية ذاتية اضغط على الصورة لمشاهدة الجاليري: