بدأت الوجوة (الوجوه) تتلاشى، و الأضواء (والأضواء – لا توجد مسافة بين واو العطف وما بعدها) تخفت، العالم يظلم، وبقعة سوداء في المنتصف.. بقعة سوداء تختلط بلون أحمر قرمزي تبدأ في الاتساع ولكن كانت الغلبة للون الأسود في النهاية، درت بعيني في الحجرة ولم أرى (أرَ – فعل معتل الآخر مجزوم ب"لم") إلا الظلام رفعت يدي وضعتهما أمام وجهي فلم أستطع أن أرى أصابعي التي أحركها بعصبية، ثم وضعتهما على عيناي أفركهما ولكن لا شئ (شيء)، الظلام وبعض الخطوط القرمزية التي لا تريد أن تستسلم تسري هنا وهناك، رفعت رأسي قليلاً أشعر أنها تزن آلاف الأطنان وسمعت همساً يخترق أذني "إنه لا يريد أن يستسلم" لم أفهم العبارة التي تتردد في الظلام، ماذا سيفعلون بجسدي المسجي (المسجى) إذا استسلمت لهم خارت قواي.. لا أستطيع أن أرفع يدي مرة أخرى، تثاقلت جفوني.. لا.. لا أريد أن.. وبصعوبة بالغة رفعت يدي ثم زحفت على وجهي و أخذت أرفع جفوني بأصابعي، أريد أن انزعها كي أرى ما يحدث حولي ولكن تهاوت يدي في النهاية وبقيت جفوني كما هي. همسهم يتعالى.. أكاد أجن.. لقد استسلم جسدي.. ماذا سيفعلون؟ سوف أصرخ ولكن شفتاي ظلت ملتصقتان (ولكن شفتيّ ظلتا ملتصقتين) وبقيت الصرخة في أعماقي لا تستطيع الخروج. ولكن بقي شئ أنا أستطيع التنفس، إذاً سوف أتنفس وأتنفس كثيراً.. بدأ صوت أنفاسي المتلاحقة يتعالى أستطيع، أخذت ألهث والصوت يتعالى سوف يسمع أحدهم صوت لهاثي ويأتي. ولكني تعبت ولم يأت أحد.. هدأت أنفاسي التي كانت تتصارع حتى أنني لا أشعر بمرور الهواء داخل رئتاي (رئتي). لم يبق شيئاً إذن، ولكني سمعت خفقانه لا يزال يدق، سعدت بذلك كثيراً واضطرب قلبي وأخذ يخفق بشدة، سوف يسمعونه ويأتون بعد ذلك أنا متأكد من هذا.. يضرب ..يضرب.. يدق... يدق ها ها.. سوف يأتون لا شك في هذا. ولكنه بدأ يتهاوي (يتهاوى)، لم أعد أسمع دقاته التي كانت تملأني وشعرت وكأنه ينزلق في أوردة جسدي، وشعرت بشئ بارد يخترقه ولكني لم أتألم بل شعرت بلذة عندما يتحرك هذا الشئ بداخله، أريد أن أضحك ولكنها لم تخرج واكتفيت بابتسامة لا أعرف هل ظهرت على شفاتي أم لم تظهر ولكني ابتسمت رغم هذا. الشئ البارد داخل قلبي والخيوط القرمزية تتزايد كلما تحرك حتي (حتى) تشابكت مكونة نسيج قرمزي غير واضح المعالم، أخذت أمعن النظر في أحد الخيوط الواضحة فرأيت طفلاً صغيراً يلهو في حديقة خضراء ومعه كرة لونها أحمر يلقيها ثم يجري خلفها ويمسكها ثم يلقيها ثم يجري ويمسكها مرة أخرى، نظر لي فابتسمت له ورأيت وجهه البرئ الصافي يشرق في ضوء الشمس، دققت النظر في ملامحه.. ما هذا... إنه أنا..أنا ذلك الطفل ولكن متى كان هذا؟ جري نحو أمه عندما رآني، نظرت لها إنها أمي كذلك و هذا أبي يجلس بجانبهما وسط الخضرة يأكلون شيئاً ما ولكنهم لم يروني، فقط كان الطفل يرمقني بنظرات لم استطع فهمها. الطفل الذي هو أنا. انتهى ذلك الخيط فأخذت واحداً آخر.. هناك شاب يحمل كتباً و أوراقاً و يقف منتظراً شئ يركبه لكي يذهب إلى جامعته، نظر ورائه فرآني ونظر لي تلك النظرة التي لا أفهمها ثم نظر أمامه مرة أخري.. لا أريد اثباتاً أن ذلك الشاب هو أنا، ثم رأيته يركب الحافلة التي انطلقت به بعد ثوان أخذت الخيوط تتشابك أكثر وتتعاقب أمامي وفي كل خيط كنت أراني في مواقف أخرى مضت. رأيتني مع والدي.. مع والدتي.. بعد موتهما... مع زوجتي و مع ولدي الوحيد. و لكني بدأت أشعر بألم رهيب، لم يعد الشئ البارد يضحكني، إنه يؤلمني بشدة الآن، أريد أن أبكي و لكن احتبست عبراتي وراء جفوني التي تحولت إلى جبال.. ما زلت أتألم ولا زال الشئ البارد يتحرك، بدأت أنفاسي تتصارع معه و لكنها تخبو شيئاً فشيئاً إلى أن تلاشت. أري (أرى) سقف الغرفة الآن.. إنه يقترب.. لا بل أنا الذي أقترب.. اشعر بانسيابيه و خفه في التحرك لم أعهدها.. أنا أحلق في الغرفة.. هاها.. أنا أطير هنا و هناك و لا أحد يستطيع منعي.. ما هذه اللامادية؟ أنا كالطير لا.. بل كالهواء.. لا بل كالعدم. نظرت إلى أسفل فرأيتهم مرتبكون (مرتبكين) هناك حركة غير عادية في الغرفة.. ما كل هذا الاضطراب؟ أرى جسداً مسجياً يتجمع حوله أناساً يرتدون زياً متماثل وهناك واحداً ينكب على الجسد لا أدري ماذا يصنع و آخر يناوله أشياء لم أستطع تمييزها وهناك من يذرع الغرفة جيئة و ذهاباً و يحمل أشياء في يده، هناك دلواً صغيراً يمتلئ بسائل أحمر قاني بجانب الجسد الذي تخرج من فمه و أنفه الكثير من الخراطيم. نزلت مقترباً منه و أنا أنظر اليه محاولاً... ثم تلاشي كل شئ.. تلاشي الجسد وتلاشيت الغرفة و عادت الظلمة من جديد و عادت بعض الخيوط الحمراء في مهاجمتها و لكنها استسلمت سريعاً و ساد الظلام، وعاد الشئ البارد يضحكني مرة أخرى. كم مضى من الوقت إلى الآن؟.. لا أعلم.. الضوء يخترق جفوني، فتحت عيني فرأيته يحدق في وراء عويناته (يحدق فيّ من وراء عويناته) فنزع الكمامة التي يضعها على فمه ثم ابتسم لي و قال "ها أنت.. لقد نجوت من الموت بمعجزة" فتحت فمي لأتكلم و لكنه وضع يده علي شفتاي و أردف "لا تتكلم.. إنها جراحة قلب مفتوح كما تعلم.. والكلام سيؤثر عليك سلباً " نظرت له وابتسمت ثم تحسست شفتاي وتأكدت من أن الابتسامه قد ارتسمت عليهما. قال لي باهتمام "عليك أن تومئ برأسك بالموافقة أو الرفض عندما أسألك.. فقط لا تتكلم" أومات برأسي ثم أكمل "إن زوجتك وولدك ينتظران بالخارج منذ البارحة لقد استغرقت الجراحة عشر ساعات يا صديقي ولم يناما إلى الآن ويريدون (يريدان) رؤيتك فهل أدخلهما؟" أومأت برأسي بالموافقة، فأشار الطبيب إلى مساعده و أمره بأن يدخلهم (يدخلهما). انفتح الباب و دخل ولدي ثم تبعته زوجتي فقال لهم الطبيب و أعينهم معلقة علي بأن لا يجعلوني أتكلم بحرف واحد لأن هذا فيه خطورة نظرا لي و رأيت الدموع تنهمر من أعينهما وهما يقتربان مني فتحررت دموعي و بدأ قلبي يدق من جديد.
أحمد مصطفى * الكلمات بالفنط العريض بين قوسين هي تصحيح لبعض الأخطاء فقط. التعليق: ها أنت تبلور عالماً خاصاً بك، عالم الواقع الفنتازي، هنا تتعمق وتصبح أكثر دقة. لكن التفصيلات مازالت كثيرة. يمكن حذف بعضها لأنها أوضح مما ينبغي، فالكثافة سمة أساسية في القصة القصيرة. كذلك لا تزال مشكلة الأخطاء اللغوية. د. سيد البحراوي أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب، جامعة القاهرة