سيادة الرئيس د. محمد مرسي.. دعني أقص عليك قصة.. في يوم كان عمر بن عبد العزيز-قبل توليه الخلافة- يقف على جبل عرفات مع ابن عمه الخليفة -آنذاك- سليمان بن عبد الملك.. كانا ينظران الحشود الهائلة من الحجيج القادم من كل فج عميق.. فقال عمر بن عبد العزيز لسليمان: "أترى هؤلاء؟ ما منهم أحد إلا وهو خصمك يوم القيامة لأنك وليت أمورهم" فبكى سليمان خوفا وورعا.. سيادة الرئيس.. خذ من وقتك القليل وتعالَ احسب معي.. في السجون نحو 16 ألفا من المعتقلين عسكريا؛ إما بموجب أحكام نافذة، وإما رهن المحاكمة، 16 ألفا لو أن لكل منهم فردا واحدا فقط يعنيه أمره ويؤلمه سجنه؛ فهذا يعني أن نحو 32 ألف إنسان هم خصومك يوم القيامة أمام الله في كل لحظة يستمر فيها حبسهم عسكريا.. تقول إن من بينهم المجرمين والبلطجية، وإنك قد أعددت لجنة لفحص أحوالهم.. عفوا.. أليس المجرم والبلطجي مواطن مدني يستحق محاكمة مدنية عادلة؟! مع احترامي لاختصاص القضاء العسكري بشئونه الخاصة؛ إلا أنه ليس قضاءنا معشر المدنيين، فهو يخلو من ضمانات توفرها المحاكمة المدنية للمتهم من مساحة الوقت لعرض أدلة وأسانيد البراءة وتفنيد أدلة الاتهام، فضلا عن فرص الطعن، وهو ما نسميه معشر دارسي القانون ب"الحق الكامل للمتهم في استنفاد سُبُل الدفاع عن نفسه".. ربما تتفق ضوابط الدفاع في القضاء العسكري مع طبيعة الحياة العسكرية؛ لكنها لا تناسب نمط الحياة المدنية.. وحتى البلطجي والمجرم بل ولو كان سفاحا سفاكا للدماء، فهو يستحق محاكمة طبيعية باعتباره مواطنا مدنيا.. والاختبار الحق لمدنية الدولة وتحضرها هو قدرتها على ضبط نفسها عن الظلم، ولو لمن كان فاحش الإجرام وعدم الانتقاص من أي حق من حقوقه ولو كان مستحقا للإعدام آلاف المرات.. على هذا الأساس فإني أقولها صريحة إني لا أنظر إلى المعتقلين عسكريا أن بينهم المظلوم باعتباره من الثوار، ومنهم مستحق الحبس باعتباره مجرما؛ بل إني أراهم كلهم مظلومين باعتبار أن كلا منهم -بغض النظر عن تهمته- قد تعرض لانتقاص من حقوقه المدنية في الدفاع عن نفسه. وإذا كان الله تعالى يقبل دعوة المظلوم ولو كان صاحبها كافرا ومستحقها مؤمنا، فكيف بدعوة المؤمن المظلوم؟ الله لا يقبل الظلم ولو على من تستسيغ نفوسنا البشرية الضعيفة الفكرة الخاطئة لاستحقاقه الظلم؛ لأن الحقيقة أن الظُلم يُرفَض لذاته لا لشخص من وقع عليه. لهذا أكررها: لا مجال للبحث والفحص في استحقاق مدني لحكم عسكري؛ لأن المبدأ نفسه مرفوض.
سيادة الرئيس.. عودة إلى قصص السلف الصالح المنتمي إلى نموذج الحضارة الإسلامية الذي ينادي به الفصيل السياسي الذي أتيتنا منه.. كان عمر بن عبد العزيز قد اعتاد قضاء نهاره في الحكم بين الناس والنظر في مظالمهم، فأراد يوما أن ينام بضع ساعات من النهار، فأتاه ولدٌ له وأنّبه، قائلا:"وهل تضمن أن تعود لك نفسك في النوم وألا تُقبَض روحك وقد عطّلت مظالم كان الأحرى أن تنظرها؟!". وأنت يا د. مرسي.. هل ترى الإنسان يضمن أن يمتد عمره ولو ثانية تالية؟ فبالله عليك ماذا تقول لربك لو نفذ أمره فيك -وهو علينا جميعا حق- ولم تُطلِق سراح المسجونين؟ فلنفرض أن كلهم يستحقون السجن؛ بل ولنفرض أنهم لا يستحقون محكمة مدنية.. إلا واحد منهم، ما أدراك بعسر موقفك أمام الله في مظلوم واحد يخاصمك إليه؟! فما بالك ب16 ألفا بأسرهم وأحبائهم؟! من يعصمك من غضب الله لهم؟! هل تضمن لنفسك أنك في أي لحظة تمر عليك منذ توليك الرئاسة لست عرضة لدعوة مظلوم يرفع رأسه للسماء ويقول "يا رب.. استطاع أن يرفع الظلم عني فلم يفعل"؟! سيادة الرئيس.. هل تراني أقسو عليك؟ لا أقصد القسوة ولكني أذكّرك بما نحن جميعا عرضة للغفلة عنه في صحونا ونومنا وزحام يومنا. هل تعلم أني أرى بعين خيالي طيلة الوقت مشهدا واحدا: أرى أخوات المعتقلين وأمهاتهم وبناتهم وزوجاتهم ونساءهم جميعا وهن يقفن أمام مقر رئاستك ويصحن بهتاف واحد فقط: "وامرساه!".. فماذا أنت فاعل لهن؟ ألم يقل صاحب دعايتك د. صفوت حجازي إن لو صاحت امرأة "وامرساه!" فستهب لنجدتها؟ هل تحب أن ترى يوما نساء المعتقلين وهن ينادين بها؟ فماذا أنت فاعل يومها؟ هل ستهب لإغاثة الملهوفات بإطلاق ذويهن -وهو أمر رهن قرار أو "جرة قلم" منك- أم ستشير إلى د. صفوت حجازي لنتفاهم معه بخصوص هذا الأمر وأمور أخرى؟! تخيل معي هذا المشهد سالف الذكر، وقل لي: هل تحب أن يقال استغاث المصريون برئيسهم فلم يغثهم؟! تخيله معي ثانية ولكن ليس أمام قصر الرئاسة، بل أمام الله عز وجل يوم الحساب وكل هؤلاء يحاجونك إليه.. هل تطيق موقفا كهذا؟! د. مرسي.. الأمر ليس صعبا ولا يحتاج إلى حسابات سياسية أو تمهيدات.. أنت صاحب القرار فخذه، وإن كان ثمة صدام فيه فمن المؤكد أنه لن يكون أقوى خطرا من المترتب على قرارك إلغاء القرار التنفيذي بحلّ مجلس الشعب، وإن كان هذا القرار الأخير قد انقسم الناس عليه فثق أن قرار العفو عن كل المعتقلين وإطلاقهم لن يختلف عليه اثنان، وصدقني فإن إطلاق آلاف المعتقلين بمن قد يكونون بينهم بالفعل من مجرمين وبلطجية هو أهون على الناس وعلى الله من استمرار حبس آلاف الأبرياء، فثمة قاعدة عدلية تعلمناها في كلية الحقوق تقول: "إن إطلاق ألف مجرم أهون على الله من حبس بريء واحد"، وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان يقول لولاته: "لأن تخطئوا في العفو خير من أن تخطئوا في العقوبة".. وبحق الله لا يقولن لي أحد أن خروج المعتقلين وبينهم مجرمون يهدد بانفلات أمني آخر.. فالانتخابات البرلمانية والرئاسية ومستوى تأمين الشارع خلالها يثبت لنا أن الأمن رهن قرار سياسي. د. محمد مرسي.. فلتكن نظرتك إلى هذه الآلاف من المعتقلين عسكريا كنظرة العسكر إليك وإلى رفاقك حين أطلقوكم من سجون مبارك بعد خلعه.. أعتقد أننا كمواطنين نستحق هذا من أول رئيس منتخب، وأعتقد أن محنتك في الحبس خلال أيام الثورة عليها وتجارب الاعتقال قبلها من شأنها أن تجعل منك إنسانا أكثر حساسية ضد الحبس ظلما.. فإن لم تجعلك كذلك فهذه كارثة علينا.. وعليك.. أكرر.. لا أقصد القسوة في الحديث لذاتها، وإن كان ثمة قسوة في كلامي فقسوة السجن والعزل عن الدنيا والحياة والأهل والأحبة أكبر وأشدّ ألما. والسلام..