كتب: محمود منياوي فجأة وجدنا فلول الحزب الوطني المنحل يترشحون للانتخابات الرئاسية؛ بل ويحظون بتأييد شعبي حقيقي.. وفجأة وجدنا تأسيسية الدستور على شفا حفرة من الهلاك، والبرلمان بانتظار حكم المحكمة الدستورية العليا.. ومتحير ما بين الاستمرار وما بين عدم الدستورية.. وكأن كل الترتيبات من أجل الانتقال إلى الديمقراطية والتي حدثت منذ انهيار نظام مبارك مُعرّضة هي الأخرى للانهيار في مشهد عبثي؛ وكأنه خرج من ميدان الثورة ثورة عليها. ويرجع اضطراب هذا المشهد السياسي بمصر لأسباب عدة؛ وأهم هذه الأسباب -بنظري- هي حالة الشك وفقدان بل انعدام الثقة التي تبلورت وازدادت يوما بعد يوم بين كل التيارات السياسية بعد الثورة؛ فلم يعُد هناك أحد يثق في نوايا الآخر.. هذه الحالة خرجت من رَحِم الثورة التي مع الأسف لم تستطع تكريس حالة الوحدة التي بدأتها بين هذه القوى جميعا بميدان التحرير طوال 18 يوما ويزيدون، كان خلالها يقف الأقباط دروعا بشرية لحماية المسلمين أثناء صلاتهم بالميدان، ووقف السلفي يدافع عن الفتاة القبطية المسيحية في جمعة "الغضب"، ووقف الإخواني يدافع عن أخته المسلمة "المتبرجة" في موقعة الجمل، ووقف الجميع متحدين متراصين.. فلم يستطع النظام الصمود أمام هذه الوحدة وهذه الصلابة، ولم يكن أي نظام ليستطيع أن يقف في وجه هذا المارد المتوحد من أجل العدل والخير والحرية والكرامة الإنسانية. وبعد أقل من شهر من هذا التوحد الذي أسقط النظام العتيد كانت بدايات التفرق التي أعادت وعلى مدار أكثر من عام إنتاج هذا النظام من جديد، ورأينا وجوها تعود مرة أخرى إلى الحياة بعد أن ماتت بفعل الثورة؛ لكن لم يسأل أحد عن السبب منذ لحظة الخروج من الميدان، وبدأ الجميع يفكر في جمع الغنائم لم يتدبر السلفيين والإخوان دروس غزوة حنين، ولم يتفكر الأقباط والليبراليين والثوريين أقوال هانتجتون؛ حين قال قبل 15 عاما من اندلاع الثورة المصرية: "إن نجاح أي ثورة يعتمد على قوى المعارضة المفجّرة لها، وأن هذه بمجرد تغيير النظام القديم تبدأ في الانقسام، ويبدأ كل طرف في الصراع مع الطرف الآخر من أجل توزيع السُلطة من يعرّض الثورة للانتكاس وعودة النظام الديكتاتوري بشكل جديد". وأحد الأسباب الأخرى للحالة العبثية التي تسيطر على المشهد السياسي في مصر؛ هي عدم وضوح الرؤية لهذه القوى والتيارات بعد إسقاط النظام، ولم تكن لدى أي منها رؤية للنظام الجديد. لكن الغريب في الأمر أن الجميع -من الإخوان والسلفيين والليبراليين واليساريين والقوى والحركات ثورية- بعد كل ما ارتكبوه من خطايا بحق الثورة وانقسامهم وضبابية وقصر نظر قراراتهم طوال عام ونصف من الثورة؛ إلا أنهم عادوا جميعا ليلقوا باللائمة على المجلس العسكري الحاكم تارة وعلى الفلول تارة؛ وكأنهما من فرقهم أو من أعمى أعينهم.. بينما هم من تركوا لهم الفرصة، لا أعتقد أن المجلس العسكري كان سيمسك بخيوط اللعبة السياسية في البلاد لولا أنه وجد أنه ليس هناك قوى حقيقية تستطيع على الأقل أن تشاركه القرار، وتركوا بكل بساطة المجلس يتحكم في كل شيء، ثم عادوا ليندبوا حظهم، ويهددوا بالنزول إلى التحرير وتفجير ثورة أخرى؛ بينما هم من فعلوا بأنفسهم ذلك، ولا أحد يستطيع أن يلوم العسكر حينما وجدوا أن الكل يتصارع تاركين الغنيمة مُلقاة على الأقل فما كان منه إلا أن يقبل الهدية ويتركم يتصارعون. فالسلفيون فرحوا بنتيجة الاستفتاء وقلة وعي المصريين التي مكّنت أحزابا -لم تستكمل حتى هذه اللحظة هيكلها التنظيمي- أن تحصد ربع مقاعد المجلس التشريعي المصري.. أما الإخوان ففرحوا بالأغلبية، وظنوا أن الله أنعم عليهم بعد طول انتظار ومعاناة، ورفضوا أن يتعاونوا مع أحد؛ بل أرادوا حصد كل شيء مقتنعين أنه حق لهم.. أما القوى الليبرالية واليسارية والحركات الثورية فاكتشفت أنها كالسمك لا تستطيع أن تغادر ميدان التحرير، وبمجرد خروجها منه لم يعُد لها تأثير لفقدانها التواصل مع الجماهير العريضة القادرة على ترجيح كفّة فصيل سياسي على فصيل آخر أمام اختبار الصندوق، وظلّ الانقسام سيد الموقف.. والأقباط والليبراليون متخوفين من بُعبُع الإسلاميين، وظلّ الكل يخون بعضه البعض ناسين أو متناسين أن مصلحة الوطن ليست حكرا على أحد فيهم. في النهاية ما يجب أن تعيه قوى الثورة مُجمّعة أنهم من تركوا ثورتهم تسرق؛ بل ألقوها من أعلى نقطة إلى الخارج ليتقلفها من يريد انقسامهم، وعدم وضوح رؤيتهم للمستقبل هو من أخرج لنا سليمان وشفيق وغيرهما حيث إن لهم حق الترشح كمصريين؛ ولكن المُحزِن أنهم عندما ترشحوا لأعلى منصب في البلاد وجودوا مؤيدين من البسطاء ممن أرهقهم عاما كاملا من الشدّ والجذب والتناحر السياسي الذي أضرّ بمواطن بسيط لا يكترث من هذه المعركة إلا بإيجار المنزل وتوافر الغاز وسير المواصلات، وهو ما لم يجده بسبب تصارع هذه القوى رافضة الوقوف في صفه؛ فوقف هو في جانب الفلول أملا في أن يعود إلى القديم؛ ما دام لا يجد جديدا أمامه، تاركا هذه القوى تبحث عن ثورتها ولسان حالها يقول: "سلفني ثورة" بديلا عن تلك التي أفشلتها.