مشهد 1 في مكان مغلق تتسلل إليه بعض خيوط الضوء.. وتفوح منه رائحة القصور.. وتنتشر بداخله عطور ملكية زكية.. العائلة المالكة تنتظرها في ترقب بعدما غابت عن مملكتها "مصر" لعقود طويلة عاشتها كأميرة "خواجاية" بعد أن أصبح لقب أميرة في مصر مساوياً للعار والخيانة والتواطؤ، انتظروها بأعين دامعة وقلوب متوجسة، وكان من بين منتظريها أخيها ولي عهد مصر السابق "أحمد فؤاد" وقف متشابك الأيدي مع بقية العائلة كي يحتمل هذه اللحظة الصعبة. وصلت الأميرة فريال محمولة على الأعناق (عدسة: عمرو عبد الله) مشهد 2 وكما كانت في مصر أميرة متوّجة محمولة على الأعناق تأمر فتُجاب، تطلب فتلبّى، عادت أيضاً محمولة على الأعناق في نعش ملكي مزين بعلم مصر ما قبل الثورة بهلاله المعانق لنجومه الثلاث، وكأنها عاشت أميرة وأبت أن تموت إلا أميرة بنفس العَلم الذي اعتادت أن يُحييها الجميع أسفله، وصلت الأميرة فريال ابنة ملك مصر والسودان فاروق الأول وأخت ولي عهدها الأمير أحمد فؤاد الأول. وداعا الأميرة فريال (عدسة: عمرو عبد الله) مشهد 3 تدخل الأميرة فريال لمكانها الأبدي، تدفن ويُدفن معها معاناة عقود من الغربة والبُعد عن بلادها، بينما الجميع ودّعها في صمت كتوم وحزن ملكي وقور، ودموع مختبئة خلف النظارات السوداء بعيون كانت تأمل في جنازة ملكية يضرب لها المدافع ويُشارك فيها الجيش وتنعاها الإذاعات المصرية والعربية.. وداعاً أميرة مصر.. وداعاً الأميرة فريال.. أولاً: مساء الخير.. ثانيا: س.. سؤال سمعت بموت الأميرة فريال؟ ج.. جواب أيوه طبعا وكمان عارف إنها بنت الملك فاروق؟ س.. سؤال.. وإيه رأيك في العائلة المالكة؟ ج.. جواب موضوع يطول شرحه.. طب ما يطول!!
* بالنسبة لسؤالك عن رأيي في العائلة المالكة فهو مفترض أنه سؤال مفروغ منه، هذه العائلة فاسدة أفسدت شعباً بأكمله، فاسد أهلها فاسدة تصرفاتها، يكفي لها أنها تعاونت مع الاحتلال الذي أدمى قلوب المصريين من السنين سبعين ويزيد. * لحظة من فضلك.. الاحتلال الإنجليزي لمصر كان لمصر وللأسرة المالكة وللحكومة الوفدية وللكل كليلة، من قال إن الأسرة المالكة تسببت في هذا الاحتلال؟؟ من قال إنهم جلبوا علينا بريطانيا بجبروتها؟ فرضوا علينا وفرضوا على الملك وعلى الجميع، والدليل على ذلك أن الملك فاروق كان شديد الكراهية لهم وللسفير الإنجليزي ولتصرفاتهم، ولكننا لا ننكر في الوقت ذاته أنها -أي العائلة المالكة- تسببت بشكل أو بآخر في جعل مصر مزرعة لهم، بالخضوع مرة والخنوع مرة والتعاون معهم مرة أخرى، فهم في النهاية رجال سياسة لهم إنجازاتهم بنفس قدر سقطاتهم. * أنا مش فاهمك بصراحة كيف يمكن لك أن تدافع عن أسرة كبيرها (الملك فاروق) مقامر وعاشق للنساء، ونساؤها فائحات الرائحة * القصة مش قصة دفاع وهجوم.. وها هي البطاقة كي تتأكد أن أصولي ليس فيها دماء ملكية زرقاء، ولكن القصة قصة حقيقة يجب أن تذكر بدون ألوان؛ فميزانية العائلة الملكة بأسرها كانت تخضع للفحص البرلماني، وبالتالي لا يمكننا أن نذكر أنه مقامر وننسى أنه ملك احترم الدستور ولم يجرؤ على العبث به، ولكن كل القصة أن الملك فاروق إنسان يخطئ ويصيب؛ فهو ليس إلهاً وليس شيطاناً.. هو إنسان، ينجح ويفشل كسائر زعمائنا، ولا نسعى سوى لذكر الحقيقة. والكلام عن نساء الأسرة فائحات الرائحة هو كلام زائف أثبتت كتابات المؤرخ يونان لبيب رزق أنه كلام فارغ، وأنهن كن نساء فضليات ملتزمات، يشهد لهن بذلك أغلب المشروعات الخيرية التي تحمل أسماءهن والمسجلة في أوقاف مصر كتبرعات منهن لمصر -بلدهن- وأرض جامعة القاهرة التي تبرّعت بها الأميرة فاطمة ابنة الخديوي إسماعيل، ومدرسة السنية الثانوية بنات -أول مدرسة لتعليم البنات- والتي كان للأميرة جشمة أمنة هانم دور بالغ الأهمية في تأسيسها والأمثلة كثيرة التي لا حصر لها دليل على زيف ما يقال.
* كفاك جدالاً وسفسطة أعرف وتعرف ومصر كلها تعرف كويس إن الأسرة المالكة كانت أسرة قمعية ساهمت في تعذيب الشعب المصري. * لا أختلف ولا أتفق، كانت تقمع أحيانا ولكن ليس على الإطلاق، ليه عندنا مشكلة في تغليب لون على التاني يا أبيض يا أسود، وإذا حاولت أن تنعش ذاكرتك ستجد أن أغلب وقائع التعذيب كلها مرتبطة بالأساس بالاحتلال الإنجليزي؛ كحادث دنشواي وحتى فيما يتعلق بالمذلة التي كان يتعرّض لها الفلاحون في الأراضي الزراعية كان أغلب أصحابها إما من الأجانب أو من الأتراك لا ينتمون للأسرة المالكة -الذين هم ليسوا أتراكا بالمناسبة أيضا.
* أظن ما هتقول لي بقى إن السخرة اللي طفح المصريين فيها الدم في قناة السويس سنين وسنين كانت هي كمان على يد الأجانب. * كالعادة عندنا مشكلة رهيبة في التصنيف، يا إما أبيض يا إما أسود، ما فيش رمادي أبدا، أولا إنت اتكلمت عن ملك واحد فقط من ملوك الأسرة المالكة وهو الخديوي إسماعيل يعني مش كل الأسرة المالكة، ورغم ذلك هذا الرجل يرجع له الفضل في بناء وسط البلد الأوروبي الموجود في قاهرة المعز الآن، ويرجع له الفضل في إنجاز قناة السويس وشقّ عدد كبير من الترع والمصارف مما كان لها الأثر في وضع مصر على قائمة الدول المزارعة في العالم، تماما كما يرجع الفضل لجمال عبد الناصر في إنجاز السد العالي وتأميم القناة ذاتها -وله الفضل أيضا في هزيمة 1967 وتعويم الجنيه- إذن ليس هناك خير مطلق ولا شر مطلق..
* بص أنا هاكلمك بالمنطق بتاعك ده، كلمني عن المسخرة السياسية قصدي الحياة السياسية، واللي حصلت في عهد الملك فاروق، والأحزاب اللي كل يوم تُؤلف حكومة شكل، والفساد اللي كان منتشر فيها، وأعضائها اللي كل يوم عند رقاصة شكل.. ولا ما قرأتش التاريخ؟!! * لا قرأت التاريخ كويس، وقرأت كلامك، إنت بتقول إن الحياة السياسية كانت "مسخرة"، ليبقى السؤال: وما هو مفهوم "المسخرة" في وجهة نظرك؟ في عهده كانت نسبة المشاركة السياسية الشعبية في قمتها، كانت السياسة هي حياة الناس وشغلهم الشاغل، محال أن تجد شابا ليس له انتماء حزبي معين سواء الوفد أو الوطني أو مصر الفتاة أو الإخوان أو الشيوعيين أو اليساريين، ولكن لا أنكر أن بعض أعضاء هذه الأحزاب وبما فيها الوفد اعتراه الفساد الأخلاقي، ولكن الشرايين السياسية كانت "سالكة" لم تنسد، تداول السلطة السلمي كان موجودا، الانتخابات البرلمانية كانت في مثل شفافية المياه، والدليل أن الوفد أكبر الأحزاب السياسية وقتها لم يسيطر ويهيمن على الحكومة؛ لأن صندوق الانتخابات كان هو من يقومهم لو أخطأوا.
* بص ما توجعش دماغي في كل دول العالم بتقوم دائما ثورة تحرر نفسها من ظلم الملكية ولا نسيت فرنسا واللي حصل فيها؟ * فرنسا أعدمت الملك؛ لأنه كان بيسلخهم قطعا بشرية في سجن الباستيل، فهل فعلت أسرة محمد علي هذا؟ فرنسا لم تستولِ على قصور ومجوهرات الأسرة المالكة ووزعتهم بالمجان على بعضهم البعض، ثم لماذا انتقيت فرنسا ونسيت بريطانيا التي ما زالت تكنّ كل الحب والاحترام للأسرة المالكة وتلهث وراء أخبارها؟
* يعني إيه؟ أنا مش فاهم حاجة، والتاريخ اللي قرأناه في الكتب، والكلام بتاع الملك المتآمر والأحزاب الفاسدة والتيارات الدينية المسيسة والشيوعيين الكفرة كل ده كان إيه؟ * الملك ما كانش متآمر ولا كان ملاك، والأحزاب لم تكن فاسدة ولا طاهرة تبيع السبح بمقراتها، الملك كان بشر قبل أن يكون حاكما، كان يلوّثه شيطان السلطان أحيانا وتردّه أخلاق الإنسان أحيانا، إنسان يصيب ويخيب، مش ضروري ندي له صك الشيطان أو صك الإله، كما أصرّ على ذلك كتبة التاريخ ما بعد الثورة؛ إما لحقد طبقي دفين أو رغبة في التشويه والتنكيل بكل ما هو قديم والتمجيد في كل جديد، مصر الحديثة بناها محمد علي ووسط البلد الأوروبي وقناة السويس أنجزه الخديوي إسماعيل، وديون مصر لأوروبا تسببت العائلة ذاتها في إغراقنا فيها، وكما للسادات نصر أكتوبر كان له الانفتاح السداح المداح، وكما كان لناصر تأميم السد وقناة السويس، كان له إلغاء الأحزاب وتمسيخ الحياة السياسية من كل طعم ولون.
انتهى الكلام، ومات الملك، وعشنا نحن مصرّين على الحفاظ على القالب بلونيه إما الأبيض الخيّر لأقصى الحدود أو الأسود الشرير الفاسد بكل ما فيه، حتى الفيلم الوحيد الذي قرر أن يخرج عن هذا القالب -فيلم أنا والمشير- أوقفوه في مخازن الرقابة ستة سنوات كاملة، والتهمة.. تجاوز الخطوط الحمراء، متى تبهت تلك الخطوط الحمراء التي داس عليها الزمان بأربعين عاما ويزيد، نرغب دائما في أن نؤله عبد الناصر والسادات أو نشوّه فاروق وإسماعيل، لماذا لا نعترف أنهم كانوا بشرا نجحوا وفشلوا هزموا وانتصروا.. لعنة الله على اللونين الأسود والأبيض ونسأله الإيمان باللون الرمادي الذي يقبل بحسنات الأبيض وسقطات الأسود ليجعل من نفسه لونا قائما بذاته.. فهل مِن مجيب؟!!
يا ترى هي المشكلة فين بالظبط؟ هل جهلنا بتفاصيل التاريخ هو السبب؟ هل تكويننا وثقافتنا كمصريين وكعرب تجعلنا نحكم على التاريخ وشخصياته بمشاعرنا وعواطفنا فقط؟ هل الحكم على الأمور بموضوعية وعقلانية محتاج لعقلية أكثر نضجا ووعيا من عقليتنا الحالية؟