الآنسة لورنس فرنسية، أخصائية علاج طبيعى، سنحت لها فرصة عمل في مصر ففرحت جدا لأنها مثل معظم الفرنسيين تعشق الحضارة المصرية وتحلم برؤية النيل والأهرامات والمعابد الفرعونية. التقيت بالآنسة لورنس في القاهرة في مناسبات متفرقة.. منذ أيام قابلتها ففوجئت بها تقول: - لقد قررت أن أغادر مصر إلى الأبد.. - لماذا..؟ - لأننى لم أعد أحتمل أن أكون امرأة معروضة.. - ماذا تعنين..؟ - في كل مرة أخرج فيها إلى الشارع. أعاني بمعنى الكلمة. لا أشعر أنني إنسان لديه عقل وأحاسيس.. أشعر بأنني جسد لا أكثر.. بأنني امرأة معروضة للجميع. كل رجل أقابله يتطلع إلى جسدي بوقاحة ويعريني بنظراته.. أصبحت أتفادى الأماكن المزدحمة لأنني أعرف أن الزحام معناه التحرش.. معناه أن تمتد يد رجل ما إلى صدري أو ساقي أو أى مكان في جسدي.. - هل يحدث ذلك دائما..؟ - بدون استثناء واحد.. الذي لا يستطيع أن يلمسني في الزحام، يتكلم معي بإنجليزية ركيكة ليعرف إن كان لي صاحب أو زوج حتى يسعى للنوم معي.. حتى الرجال الذين يمشون على الرصيف المقابل.. يصيحون بألفاظ جنسية أو يصفرون ويلوحون.. أول مرة ركبت فيها المترو كانت تجربة مريعة.. عشرة رجال أخذوا يتطلعون بشهوة إلى جسدي في نفس الوقت.. بعد ذلك أصبحت أركب عربة النساء.. - هل ترتدين ثيابا عارية..؟ - إطلاقا.. أنت رأيتني أكثر من مرة فماذا كنت أرتدي..؟ أنا أحترم ثقافة الآخرين وأعلم أن مصر بلد محافظ. حتى أثناء الصيف عندما أرتدي فانلة بدون أكمام أضع على كتفي دائما شالا حريريا ليغطي ذراعاي.. - ألا يحدث لك مثل هذا التحرش في فرنسا..؟ - نادر جدا.. بعد عام ونصف العام في القاهرة ما زلت لا أصدق ما يحدث.. يخيل إلى أحيانا أن كل الرجال المصريين قد أصيبوا بلوثة جنسية.. أصبحت أخاف من الخروج في الشارع.. إذا لم يكن لدي عمل أظل في البيت أياما بأكملها.. - وماذا ستفعلين الآن..؟ - أنا سعيدة لأننى حصلت على فرصة عمل في اليونان.. أنتظر موعد سفري بفارغ الصبر.. على الأقل في اليونان لن يسعى أحد إلى تحسس جسدي أو يرمقني بنظرة شهوة أو يدعوني إلى الفراش بمجرد أن يراني.. سأحس هناك بأنني انسانة ولست امرأة معروضة للجنس. انتهى حواري مع الآنسة لورنس وأحسست بحزن.. كيف يحدث ذلك في مصر التي اشتهر أهلها دائما بالتهذيب وحسن التعامل واحترام الأجانب؟! عدت إلى الدراسات التي أجريت حول التحرش الجنسي في مصر فوجدت نتائج مفزعة.. في العام الماضي، كشفت دراسة للمركز المصري لحقوق الإنسان عن أن 98% من الأجنبيات و83% من المصريات يتعرضن للتحرش الجنسي في مصر.. الغريب أن ينتشر كل هذا التحرش مع موجة كاسحة من التدين الشكلي.. كل هذه اللحى والجلابيب والميكروفونات الزاعقة والقنوات السلفية الوهابية والدروس ومظاهر التدين.. لم تمنع التحرش الجنسي.. لماذا يتحرش المصريون بالنساء..؟ الإجابة التقليدية أن المرأة هى المسئولة عن التحرش بها.. لأنها ترتدي ثيابا تكشف جسدها فتدفع الرجال للتحرش بها.. وهذا منطق شاذ ومتهافت.. أولا لأنه يلوم الضحية بدلا من الجاني.. ثانيا لأنه يقدم الرجال وكأنهم مجموعة من البهائم السائبة لا يمكنهم أبدا التحكم في غرائزهم.. ما إن يلمحوا جزءا عاريا من جسد المرأة حتى ينقضوا عليها. ثالثا لأن معظم النساء في مصر الآن محجبات لكن ذلك لم يحمهن من التحرش كما أكدت الدراسة التي أشرت إليها.. رابعا: لأن المرأة المصرية حتى نهاية السبعينيات كانت ترتدي ثيابا عصرية كثيرا ما تكشف عن ذراعيها أو ساقيها، وبالرغم من ذلك فإن نسبة التحرش الجنسي آنذاك كانت أقل بكثير منها الآن.. خامسا: لأنه في فرنسا مثلا حيث تكشف السيدات غالبا أجسادهن.. تصل نسبة التحرش الجنسي (طبقا لجريدة النيويورك تايمز) إلى 20%، ومعنى ذلك أن النساء يعانين من التحرش في مصر المتدينة أربعة أو خمسة أضعاف النساء في فرنسا العلمانية. بل إن المجتمعات التي تفصل تماما بين الرجال والنساء (مثل السعودية وأفغانستان) تسجل أعلى معدلات في التحرش الجنسي على مستوى العالم. الظاهرة إذن أعقد بكثير من نوع الملابس التي ترتديها المرأة. إن التحرش الجنسي، في رأيى، ينتشر بضراوة في مصر للأسباب التالية: 1- البطالة: ملايين الشباب الذين فشلوا في العثور على عمل بعد إكمال تعليمهم يتملكهم الإحباط واليأس ويكفرون بفكرة العدالة.. إذ إن الأسباب في مصر لا تؤدى إلى النتائج.. الاجتهاد لا يؤدى بالضرورة إلى النجاح، والتفوق الدراسى لا يؤدى بالضرورة إلى العثور على وظيفة محترمة، والالتزام بالأخلاق لا يؤدى بالضرورة إلى الترقي الاجتماعي.. بل على العكس فإن الانحراف الأخلاقي كثيرا ما يؤدي إلى تكوين الثروة.. كل ذلك لابد أن يدفع الشباب إلى العنف.. وهنا يؤكد علماء النفس أن الجرائم الجنسية لا ترتكب دائما بغرض إشباع الشهوة.. فالتحرش الجنسي كثيرا ما يرتكبه الرجال كوسيلة للانتقام من المجتمع أو للتنفيس عن الغضب والإحباط. 2- صعوبة الزواج في مصر: ملايين المصريين عاجزون عن تدبير تكاليف الزواج، وحيث إن التقاليد وأوامر الدين (الإسلامي والمسيحي) تحرم العلاقات خارج الزواج.. فإن معظم الشباب في مصر يعانون من كبت جنسي لابد أن يدفعهم في لحظة ما إلى التحرش بالنساء. 3- انتشار الأفلام الإباحية وسهولة الحصول عليها بسبب ثورة الاتصالات وانتشار الإنترنت.. والحق إن ضرر المواد الإباحية لا يقف فقط عند إثارة غرائز الشباب المكبوت أساسا، لكنه يتعدى ذلك إلى تسهيل فكرة الاعتداء الجنسي ونزع الطابع الإجرامي عنها ورفع الخصوصية والاحترام عن العلاقة الجنسية، وبالتالى يصبح التحرش الجنسي مجرد فعل متعة بدلا من كونه جريمة مشينة. 4- السبب الأخير أن نظرتنا إلى المرأة في مصر قد تغيرت.. فمنذ مطلع القرن الماضي خاضت المرأة المصرية نضالا طويلا حتى تحررت من وضع الحريم وتساوت مع الرجل في التعليم والعمل واكتسبت مكانة محترمة في المجتمع.. ثم وقع المجتمع المصرى تحت تأثير القراءة الوهابية المنغلقة للإسلام.. وهذه القراءة بالرغم من تشددها في تغطية جسد المرأة فإنها تختصر المرأة في كونها أداة متعة ومصدر غواية وماكينة إنتاج أطفال وخادمة بيت.. وكل ما عدا ذلك أقل أهمية.. بل إن بعض شيوخ الوهابيين أثناء دفاعهم عن الزي الإسلامي، يشبهون المرأة بقطعة حلوى يجب أن تكون ملفوفة جيدا حتى لا يقف عليها الذباب.. وبالرغم من حسن النية لدى القائلين بذلك فإن تشبيه المرأة بقطعة حلوى ينزع عنها الطابع الإنساني.. فقطعة الحلوى بلا أحاسيس ولا عقل ولا إرادة وفائدتها الوحيدة أن نأكلها لنستمتع بطعمها.. وبالتالى فإن من يتوق إلى الحلوى ولا يملك شراءها، إذا سنحت له فرصة لكي يأكل قطعة حلوى مملوكة لسواه ويفلت من العقاب لن يتردد أبدا.. وهذا بالضبط ما يفعله الرجل الذى يتحرش بالنساء في الشارع. .. لن يتوقف التحرش بالنساء إلا عندما نستعيد قراءتنا المصرية المنفتحة الصحيحة للإسلام، التي تعتبر المرأة إنسانا كامل القدرة والأهلية وليست مجرد جسد أو قطعة حلوى.. سوف يتوقف التحرش عندما يتوقف الفساد والاستبداد والظلم.. عندما يأتى نظام سياسي جديد، منتخب من الشعب، يمنح ملايين الشباب حقهم الطبيعى في الحياة والعمل والزواج.. .. الديمقراطية هى الحل.. عن "الشروق" (15/9/2009)