بعد أن كان ممنوعاً من دخول الأراضي الأمريكية لسنوات طويلة، أخيراً واشنطن تستقبل زعيم حركة النهضة التونسية الشيخ راشد الغنوشي، بعد أن أصبح صانع الملوك في تونس، وأصبح التيار الإسلامي هو صاحب الكلمة العليا عقب الانتخابات الأخيرة. ولكن مفاجآت الغنوشي لم تتوقف عند هذا الحد، فالكلمة التي ألقاها أمام معهد واشنطن للدراسات كانت مفاجأة، خاصة أنها أتت تلخيصاً لسلسلة من المباحثات والمناقشات السياسية التي أجراها زعيم التيار الإسلامي التونسي في الولاياتالمتحدةالأمريكية. وأتت كلمة الغنوشي كأنها رسالة تحذير طويلة للدول الخليجية، خاصة المملكة العربية السعودية، عن أن التغيير أصبح حتمياً، وأن الربيع العربي في العام المقبل سوف يزور الدول الخليجية. ولكن هل يمكن أن يحدث ذلك، وما هو موقف الغرب من الربيع الخليجي إن جرى؟ في الواقع فإن الخليج العربي يشهد بالفعل حراكاً في أكثر من موقعة، البحرين تشهد ثورة شعبية منذ 14 فبراير، والكويت تشهد توتراً سياسياً منذ عام 2006 كما أن ظفار بسلطنة عمان شهدت أكثر من اعتصام خلال العام الجاري، ولكن التوتر الحقيقي والأخطر اليوم في السعودية. السعودية تشهد منذ فترة طويلة قلاقل في المنطقة الشرقية، المطلّة على سواحل الخليج العربي، والتي يقطنها نسبة كبيرة من الشيعة، مما جعل التهمة الجاهزة لنشطاء الحراك الشرقي السعودي هو اتصالهم بإيران، رغم أن أصواتا متعقلة داخل المملكة نفسها نفت هذا الأمر، ورأت ضرورة معالجة قضايا المنطقة الشرقية المنسيّة منذ تأسيس المملكة في ثلاثينيات القرن العشرين، إلا أن الاتهامات بالعمالة والخيانة تظل بكل أسف الأعلى صوتاً في كل ما يخصّ ثورات الربيع العربي. والحاصل أن لغة الرصاص لم تكن غائبة عن المنطقة الشرقية، حيث سقط قتيلان الشهر الماضي، وفي ربيع العام الجاري بثت رويترز تقريراً عن قيام الشرطة السعودية بفتح النار على تظاهرة في شرق السعودية، وأعلن متحدث باسم البيت الأبيض أن الحكومة الأمريكية تعرف أن هنالك حادثاً جرى بهذا الشكل داخل المملكة، ولكن المتحدث رفض التعليق على الواقعة. بالمثل يتصاعد الغضب الشعبي كل عام على وقع سيول جدة، التي تغرق المدينة الحجازية الساحلية بلا هوادة، ورغم أن الملك عبد الله وولي العهد الراحل سلطان وولي العهد الحالي نايف أكدوا العمل على حل هذه الأزمة، إلا أن السيول تأتي كل عام لكي تثبت أن الرياض لا تهتم بالمشاريع التنموية في المدن الحجازية. وهو ما يزكي مشاعر متوترة قديمة قدم التاريخ بين مدن نجد التي ينتمي إليها آل سعود وتقع فيها الرياض، وبين مدن الحجاز التي طالما عارضت الوقوع تحت سيطرة آل سعود على مدار الدول السعودية الثلاثة، خاصة أن مملكة الحجاز الهاشمية كانت قبل السيطرة السعودية عليها دولة ملكية دستورية، لها دستور ومجلس نواب منتخب. المشكلة في واقع الأمر ليست في الداخل السعودي فحسب، ولكن باختصار شديد في الموقف الأمريكي، فهل أمريكا سوف تؤيد أي حركات تحريرية داخل المملكة العربية السعودية؟ الحقيقة أن إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما توصلت إلى معادلة في غاية الأهمية، وأغلب الظن أنها سوف تكون مفتاح السياسة الأمريكية في المنقطة لعشرة سنوات على الأقل، فالإدارة الأمريكية قبل تأييد أو حتى الترحيب بأي قوة سياسية جديدة في الشرق الأوسط، تقوم بجلسة مفاوضات سرية، تعرف من خلالها هل ستقوم تلك القوى بتغيير السياسة النفطية والاقتصادية من عدمه، وإذا ظل الأمر ثابتاً دون تغيير، رحبت أمريكا بالتغيير السياسي. بالأحرى لو ظهرت قوة سياسية في شبه الجزيرة العربية تقود التغيير داخل المملكة، ولن تغير علاقات البترول والغاز مع أمريكا، فإن أمريكا سوف ترحّب بهذه القوى، خاصة أن تفكيك المملكة العربية السعودية إلى عدد من الدول والإمارات بند مهم في خطة الشرق الأوسط الكبير. ويجب ألا ننسى أن الولاياتالمتحدةالأمريكية لا تنسى أبداً معاقبة من عارضها يوماً، مهما طال الزمن، وأمريكا لن تنسى سرادقات العزاء السعودية المتوالية على الأنظمة العربية التي تتساقط بفعل الربيع العربي، وكم سعت الرياض إلى عرقلة التغيير في عدد من الدول، رغم أن أمريكا رحّبت بشكل صريح بهذا التغيير. كما أن سياسة أمريكا بوجه عام منذ الحرب الباردة هي السعي إلى تفكيك الدول الجغرافية الكبرى، سواء الاتحاد السوفييتي أو يوغوسلافيا أو تشيكوسلوفاكيا وحتى السودان، ومن الهراء الظن بأن المملكة العربية السعودية بعيدة عن هذا المخطط. وبالفعل أتت الأخبار من واشنطن على ضوء تصريحات الغنوشي بأن هنالك "خططاً ما" اطّلع عليها الغنوشي في المعاهد السياسية الأمريكية التي تقوم بتمويل بعض الحركات في الوطن العربي، وكلها تصبّ في تمويل الحراك السعودي الذي يفتقر إلى المال والتغطية الإعلامية. لذا فإن الأنباء القادمة من واشنطن، بالإضافة إلى مشاريع الشرق الأوسط الكبير، وحتى حتمية التغيير وقوة الربيع العربي الجاري في جميع الدول المتاخمة للسعودية بشكل أو بآخر، كلها حسابات تؤكّد أن المملكة العربية السعودية على وجه التحديد مقبلة على أخطر 24 شهراً في تاريخها الحديث.