الابن: ماذا سنفعل يا أبي؟ إطلاق النار في كل مكان! الأب: سنذهب إلى شارع آخر. الابن: أبي، لا يوجد شارع آخر.. إنهم يُلاحقوننا. الأب: هناك جدار سنختبئ وراءه كيلا يرونا. الابن: هيّا لنذهب سريعا. الأب: تعالَ واختبئ في ظهري حتى لا يقتلوك؛ وأنا سوف أحميك. الابن: أبي، سيقتلوننا.. إنهم لا يكترثون! الأب: سألوح يدي لهم لعلهم يسمعوننا. الابن: لا تخَف يا أبي فإن الله معنا. وصرخ الأب ملوحا بيده لاااااااا لا تقتلونا؛ فنحن عزّل من السلاح.. لاااااااا لا تقتلونا فنحن مسالمون.. لاااااااا لا تقتلونا فمعي طفل صغير.. اقتلوني واتركوه هو يعيش....! وبلا رحمة انهال الرصاص عليهما من كل جانب، واستشهد الطفل، وأُصيب الأب في مشهد هزّ العالم أجمع. هكذا تخيّلت الحوار الذي دار بين الأب والابن. فالأب هو جمال الدرة.. أما الابن فهو رمز الانتفاضة الفلسطينية الثانية الطفل محمد جمال الدرة البالغ من العمر 12 عاما. أما من اغتال براءته فهو جيش الاحتلال الإسرائيلي الغادر.. و30 سبتمبر عام 2000 هو يوم استشهاده في ثالث أيام انطلاق الانتفاضه الفلسطينية الثانية. أكثر من 10 سنوات مرّت على استشهاد الطفل محمد الدرة، وما زلت أتذكّره من وقت لآخر. أكثر من 10 سنوات مرّت على الانتفاضة، ولم يسترد الفلسطينون أرضهم، ولم يتحرّك الوطن العربي لاستردادها. أكثر من 10 سنوات مرّت والقضية الفلسطينية تزداد تعقيدا. ما زلت أتذكّر هذا اليوم جيّدا.. فمنذ 11 عاما.. وعندما رجعت من المدرسة رأيت مشهد استشهاد الطفل محمد الدرة يملأ القنوات التليفزيونية.. كلما كان يُعرض هذا المشهد كنت أغمض عيني من شدّة ما أرى؛ فأنا أرى أبا يُحاول أن يحمي فلذة كبده من الرصاص، ولكن دون جدوى.. وطفل يقتل في مشهد لم يتعدَّ الدقيقة، ولكنه في الواقع ظلّ لمدة 45 دقيقة.. نعم 45 دقيقة من إطلاق الرصاص على محمد الدرة ووالده.. وسألت نفسي: ما الذنب الذي اقترفاه ليكون هذا هو الجزاء؟ هل ذنبهما أنهما من الفلسطينيين الذين يُطالبون بحقهم.. أم إنهما أخطآ حين تخيّلا أنه من الممكن أن تكون لهما في يوم من الأيام دولة مستقلّة وذات سيادة؟
إضغط لمشاهدة الفيديو: هزّت صورة استشهاد الطفل محمد الدرة مشاعر العالم بأكمله؛ فقد استهدف الجيش الإسرائيلي طفولته البريئة في حضن والده، وذلك بالقرب من مفترق الشهداء "نتساريم" حينما كانت تدور اشتباكات بين الشباب الفلسطيني وقوات الاحتلال الإسرائيلي؛ احتجاجا على قيام آرئيل شارون -زعيم حزب الليكود المعارض وقتها- بزيارة للقدس. فالصورة معبّرة جدا، وتكشف أن الإسرائيليين لا يصوبون رشاشاتهم لمن يرميهم ببعض الأحجار من أطفال فلسطين وشبابها فقط، وإنما وبدون اكتراث، يُطلقون النار حتى على مَن لا يملك حجرا في يديه يلقيه عليهم. منذ عدة أشهر رأيت والد الطفل الشهيد في برنامج "الحياة اليوم"، وهو يحكي ما حدث لهما في هذا المشهد المروع، وأدهشني عندما قال: "بالرغم من مرور 11 عاما على استشهاد محمد جمال الدرة، ابني وابن الأمة العربية والإسلامية؛ فإن الإعلام الإسرائيلي ما زال يصرّ على أن محمد حيّ يرزق ويتجوّل في الأسواق". أي هراء هذا.. وقد رأى العالم بأجمعه هذا المشهد البشع. أي هراء هذا.. ونرى كل يوم مشهد مماثل بل وأكثر بشاعة.
إضغط لمشاهدة الفيديو: فالإسرائيليون دائما يحرصون على أن تكون صورة احتلالهم مُشرقة لدى الرأي العام، أو على الأقل ألا تكون بشعة، وأن يكونوا هم دائما في عيون الناس ضحايا، وليس من المهم كثيرا أن يرضى الفلسطينيون بواقع الاحتلال، وإنما المهم أن يضمن الجيش الإسرائيلي قدرة متجددة على إخضاع الفلسطينيين والعرب وترهيبهم، ولكن بشرط أن يتم ذلك في العتمة وبعيدا عن أعين الناس والرأي العام، حتى يبقى وجه الاحتلال مُشرقا غير ملوّث بالدم. ولكن السؤال: هل توقّفت إسرائيل عن ممارسة العنف بعد هذا المشهد؟!! طبعا لا.. فنحن اعتدنا أن نرى هذه المشاهد والأفعال الدنيئة من إسرائيل تجاه الفلسطينيين. ولكن -ومع الأسف الشديد- ما يُحزنني حقا هو عندما أرى الحُكّام العرب (أمثال الأسد وصالح والقذافي)، ومَن قبلهم (بن علي والمخلوع مبارك) يُمارسون مثل هذه الأفعال الدنيئة، بل والأكثر دناءة منها تجاه شعوبهم. وذلك بدلا مِن أن يضمنوا لهم الرخاء والكرامة في بلدهم الذي من المفترض أن يعيشوا فيه آمنين مطمئنين. لكني.. ما زلت أحلم بأن تكون هذه الثورات العربية بداية لربيع عربي جديد يقضي على الظلم والطغيان، وأتمنّى أن تصل وقريبا جدا نسائم هذا الربيع إلى الدول العربية بأكملها، وتعود جميع الأراضي المحتلة لأصحابها. وفي النهاية.. سيظلّ مشهد استشهاد الطفل محمد الدرة ومشهد كل مَن ضحّى بنفسه من أجل استرداد كرامة أرضه في ذاكرتنا مشهدا لا يُنسى.