جنازة عسكرية مهيبة، ومجموعة من الكتب والمؤلفات والمقالات التي ظلت شاهدة على فكره، هذا هو التكريم الحقيقي الذي حظي به رئيس جهاز المخابرات المصرية ووزير الحربية الأسبق "أمين هويدي"، والذي وافته المنية البارحة 31 أكتوبر عن عمر يُناهز 88 عاماً، بعد معاناة طويلة مع المرض. الرحلة بدأت في قرية بجيرم التابعة لمركز قويسنا في محافظة المنوفية 1921، وانتهت بتشييع الجنازة في جامع القوات المسلحة "آل رشدان" بحضور وزير الدفاع والإنتاج الحربي المشير "حسين طنطاوي" وعدد من تلاميذ الفقيد وأصدقائه وأسرته. السجل الأكاديمي والعسكري للسيد "هويدي" مشرف بحق، فقد تخرّج في الكلية الحربية وانضم إلى تنظيم الضباط الأحرار؛ ليشارك في ثورة 23 يوليو 1952، كما حصل على عدة مؤهلات ودراسات عسكرية، منها ماجستير العلوم العسكرية من كلية أركان حرب المصرية، وماجستير العلوم العسكرية من كلية القيادة والأركان الأمريكية، وهي أرقى كلية قيادة يدخلها أجنبي من أبوين غير أمريكيين، ولا تنسى له مصر أنه قد وضع خطة الدفاع عن القاهرة إبان حرب السويس عام 1956. إضافة إلى هذا، فالمناصب التي تولاها من ناحية الثقل والتنوّع يندر أن نجد رجلاً قادر على القيام بمسئولياتها وتحمل أعبائها بجدارة، فهو تارة مدرّس في الكلية العسكرية، وأستاذ في كلية الأركان، وتارة أخرى رئيس قسم الخطط في العمليات العسكرية بقيادة القوات المسلحة، ونجده بعد ذلك في المناصب السياسية الحساسة: مستشاراً للرئيس عبد الناصر للشئون السياسية، ثم سفيراً في المغرب وبغداد، ثم وزيرا للإرشاد القومي وبعدها وزيراً للدولة لشئون مجلس الوزراء. تولّى "هويدي" إدارة جهاز المخابرات العامة المصرية في أسوأ فترات مصر في النصف الثاني من القرن العشرين، أي بعد نكسة 1967، وكان على عاتقه إعادة بناء الجهاز من الصفر تقريباً، لا سيما أن المخابرات قد اكتسبت سمعة سيئة بين أوساط الشعب تتعلق بالفساد والتعذيب، وهكذا وجدنا في عهد إدارته للجهاز -والذي لم يكمل الثلاث سنوات- انتصارات حافلة سجلتها الدراما المصرية في عيون وقلب كل مصري: تدمير المدمرة الإسرائيلية إيلات بتاريخ 21 أكتوبر 1967، وكذلك الإشراف على عملية تفجير الحفار الذي اشترته إسرائيل للتنقيب عن النفط في سيناء وذلك بتاريخ 28 مارس 1968، وبفضل هذه العمليات وغيرها استعاد جهاز المخابرات سمعته الطيبة والتي لا تزال موجودة إلى الآن.. أضف إلى كل هذه الإنجازات الضخمة على الصعيد الاستخباراتي، فقد كان "هويدي" يشغل منصب وزير الحربية المصري في نفس الوقت الذي عُيّن فيه رئيساً للمخابرات، وهي سابقة لم تحدث قط في أيام "عبد الناصر"، وكان الهدف هو إعادة بناء القوات المسلحة باستراتيجية موحدة مع جهاز المخابرات.. من أهم ما يميز "أمين هويدي" هو إخلاصه للرئيس "عبد الناصر" والمبادئ التي كان يمثلها تمثل هذا الإخلاص للقومية والعروبة في طبيعة الإسهامات التي قام بها من خلال مناصبه في حياة "عبد الناصر": فقد لعب دوراً مهماً في دعم الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي وإمدادها بالسلاح والمعلومات، وكلفت إليه مهمة الإعداد للوحدة بين مصر وسوريا، وشارك في دعم الثورة اليمنية ضد حكم إمامة آل حميد الدين، وأسهم في تقوية العلاقات المصرية المغربية. أما بعد وفاة الرئيس عبد الناصر عام 1970 فقد استقال "هويدي" من جميع مناصبه، فهو لم يكن رئيس جهاز المخابرات إبان أزمة مراكز القوى عام 1971، أو ما يُعرف بثورة التصحيح والتي اعتقل فيها الرئيس الراحل "أنور السادات" معظم القيادات السياسية والأمنية والعسكرية في مصر، بل كان من يشغل رئاسة المخابرات وقتها هو السيد "أحمد كامل". وإن كان هذا لم يمنع اعتقال "هويدي" بدعوى انتمائه إلى مراكز القوى، وسُجن في المعتقل لمدة ثمانية أشهر، قبل أن يقضي نحو عشرة أعوام رهن الإقامة الجبرية. تفرغ الفقيد بعد ذلك للمؤلفات العسكرية، فله 25 كتاباً باللغتين العربية والإنجليزية أشهرهم: "كيف يُفكّر زعماء الصهيونية"، "الفرص الضائعة"، "حرب 1967: أسرار وخبايا"، و"خمسون عاماً من العواصف: ما رأيته قلته"؛ وهو الأهم بين مؤلفاته؛ لأنه تضمّن مذكراته حول تجربته السياسية والعسكرية وفترة حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، كما أن مقالاته الأسبوعية كانت تنزل بصورة دورية في الأهرام والأهالي والحياة اللندنية. وظل "هويدي" حتى آخر حياته مدافعاً شرساً عن الرئيس "عبد الناصر" ضد اتهامه بالديكتاتورية. ومن أبرز ما قاله "هويدي" إن الناس في مصر يعيشون حالياً بحال أسوأ بكثير مما كانوا عليه في عام 1967، وبرر ضعف المشاركة السياسية للناس بانشغالهم وراء لقمة العيش في ظل الغلاء المتزايد والأسعار الملتهبة. ويعلق أيضاً أن "عبد الناصر" اعترف بمسئوليته عما حدث 1967، لكن لا يمكن نسيان ما قدمه للفلاح المصري وإعادة صياغة الأحوال الداخلية لصالح الفقراء. وأشار "هويدي" في مقابلة معه إلى: "أن الديمقراطية الحقة هي تلبية الاحتياجات الأساسية للجماهير، هذا هو فهمي للعدالة الاجتماعية، وهكذا كانت رؤية عبد الناصر لها". يذكر أن وفاة "هويدي" كانت في نفس يوم وفاة العالم الكبير "د.مصطفى محمود"، ولعل الحياة التي لم تجمع مجالاتهما قد جمعهما الموت بترتيب قدري؛ فكلاً منهما ولد في محافظة المنوفية، وكلاً منهما مات عن عمر يناهز الثمانية والثمانين عاماً.