ينبغي ألا يقتصر نظرنا لمجتمع العدوّ على سلبياته، بل إن الأولى أن نتأمّل إيجابيات هذا المجتمع ومنظوماته؛ لنقف على أسرار استمرارية وجود عدوّنا في جسدنا العربي كل تلك الفترة، وأن نقيِّم تلك العناصر والمكوّنات لمجتمعه بشكل عادل متّزن ليس من منطلق "حُبّ العدوّ والتخلّي عن كراهيته"، وإنما من منطلق الاعتراف بنقاط قوته؛ لمعرفة كيفية التعامل معه بالشكل المناسب خلال الصراع.. وهذا يتطلّب أحيانا عرض صور إيجابية من داخله؛ لمعرفته بشكل أكثر عملية وإفادة للقضية. ومنظّمة "زاكا" (ZAKA) التي نتحدَّث عنها اليوم نموذج لذلك... الزمان: 6 يوليو 1989 المكان: إسرائيل - الطريق بين تلّ أبيب والقدس. الحدث: انفجار عبوة ناسفة في أوتوبيس نقل عام، مصرع 13 إسرائيليا وإصابة حوالي 30 آخرين. بين زحام رجال الشرطة والمسعفين، وصلت إلى موقع الحادث مجموعة من المتطوّعين بقيادة الحاخام "إليعازر جلبشتاين"، للقيام بمهمة جمع الجثث والأشلاء، والمساعدة في التعرّف على أصحابها بغرض توفير دفن لائق لهم.. من هنا كانت لحظة ميلاد منظّمة "زاكا"، ومن مهمتهم الأولى اشتهروا بقيامهم بتحديد هويات ضحايا الحوادث بكل أنواعها.
الهجمات "الانتحارية" (وفق الوصف الإسرائيلي للعمليات الاستشهادية) - الهجمات بقنابل موقوتة أو صواريخ - حوادث إطلاق النار - حوادث السيارات بأنواعها - الكوارث الطبيعية - الانتحار.. هذه هي نوعية الحوادث التي تحرص منظّمة "زاكا" على أن يتواجد بعض متطوعيها -البالغ عددهم1500 فرد- في أماكن وقوعها. والمنظّمة التي يشكّل اسمها اختصارا بالحروف الأولى لعبارة "زيهوي كوربانوت أسون"، أي "تحديد هويات ضحايا الكوارث" أُسست شبكتها في بداية التسعينيات على يد كل من "موشي آيزنباخ" و"يهودا مشي زهاف" و"زفيكا روزنتال"؛ استكمالا لجهود مؤسسها الحاخام "جلبشتاين"، وسنة 1995 تمّ الاعتراف بها من قِبَل الحكومة الإسرائيلية، وأصبحت المنظمة تعمل بالتنسيق مع الشرطة الإسرائيلية في مجالات الإغاثة وتحديد هويات الضحايا، تحت شعار "إنقاذ من يمكن إنقاذه، وتشريف من لا يمكننا إنقاذه"، حيث ينصبّ جزء كبير من عملها على التأكد من حصول الضحية على جنازة ودفن لائقين. الجدير بالذكر أن المنظمة المذكورة لا تقتصر عضويتها على اليهود؛ فهي تضمّ وحدتين من الدروز والمسلمين بغرض تقديم الخدمة للإسرائيليين غير اليهود، في الحالات التي تقف موانع اختلاف الديانة في وجه قيام يهودي بأعمال؛ مثل التعامل الديني مع الجثث وطقوس الدفن، كذلك لا تقتصر خدماتها على اليهود، بل ولا على الضحايا فحسب، بل أحيانا تشمل القيام بالتعامل مع منفّذي الهجمات الاستشهادية والفدائية في حال إصابتهم أثناء تنفيذهم، أو القيام بجمع جثثهم لتسليمها لذويهم في حال مقتلهم، وهم يبرّرون ذلك بأنهم يقومون بعمل الخير للجميع من منطلق "الطيبة النابعة من الداخل" بغضّ النظر عن أية اعتبارات أخرى.
"من أبرز أوجه سوء الفهم التي تتعرّض لها المنظمة تصنيفها على أنها تنتهج اتجاها شديد الأرثوذكسية (التشدد)، في حين أن عضويتها مفتوحة للجميع، لكل الأديان، وللمتدينين والعلمانيين، وللرجال والنساء". هكذا يقول موقع المكتبة اليهودية الافتراضية Jewish virtual library عن"زاكا"، والسبب في هذه النظرة الخاطئة ربما يكون حرص المنظمة على أن يكون أعضاؤها من المتزوّجين الذين يعيشون حياة زوجية مستقرة، وحياة ملتزمة بشكل عام, فضلا عن أن معظم المتطوّعين بالمنظّمة ينتمون دينيا للاتجاه اليهودي الأرثوذكسي (وهو اتجاه على شيء من التشدد والأصولية، ولكنه يتقبل بسهولة معطيات الحضارة الحديثة ويرفض أية قيم لا إنسانية ولا أخلاقية). والزواج ليس الشرط الوحيد لقبول عضو متطوّع في المنظّمة؛ فالمتقدّم عليه أن يمرّ باختبارات وتدريبات بدنية، وأخرى للوقوف على حالة ثباته العاطفي والانفعالي؛ وهذا لقسوة ظروف عمله مستقبلا؛ حيث إنه يتعامل مع الأشلاء والجثث في الغالب.
ينبغي ألا يقتصر نظرنا لمجتمع العدوّ على سلبياته، بل إن الأولى أن نتأمّل إيجابيات هذا المجتمع ومنظوماته؛ لنقف على أسرار استمرارية وجود عدوّنا في جسدنا العربي كل تلك الفترة كما أن المتطوّع في "زاكا" (zaka) يكون أحيانا معرّضا للخطر في حال عمله في موقع حادث هجومي، حيث يمكن أن يتعرّض الموقع لموجة هجوم تالية، سواء استشهادية أو بإطلاق الرصاص أو القنابل عن بُعد، بالتالي يجب أن يكون مؤهلا نفسيا وجسديا لذلك.
والحكومة الإسرائيلية تعتبر بالفعل أن منظّمة "زاكا" (zaka) جزء مهم جدا من منظومة الإنقاذ المدني والإغاثة الإسرائيلية، لهذا فهي تحرص على توفير التنسيق والتعاون الكامل بينها وبين الشرطة الإسرائيلية، كما أن تلك الأخيرة تقوم بالمشاركة في عملية تدريب المتطوّعين بشكل مناسب لمهامهم المستقبلية. ونطاق عمل "زاكا" (zaka) لم يعد يقتصر على الأراضي الإسرائيلية فحسب؛ فالمنظمة أصبحت تحرص على المشاركة في أعمال الإغاثة لضحايا الكوارث في مختلف بلدان العالم، فقد شاركت في عمليات إنقاذ وإغاثة، وتَعَرُّف على هويات جثث الضحايا في كوارث مثل التسونامي الكبير الذي ضرب جنوب شرق آسيا سنة 2004، وزلزال هاييتي بداية العام الجاري، فضلا عن المشاركة في أعمال إغاثة ضحايا تفجيرات مومباي بالهند سنة 2008، وعمليات البحث عن مسئول في وزارة الدفاع الإسرائيلية اختفى في باريس سنة 2007 (قامت وزارة الدفاع الإسرائيلية بتمويل ورعاية المهمة التي تكلفت 80000 دولار أمريكي)، وخلال حرب لبنان 2006 تم تشكيل وحدة طارئة للتعامل مع أية هجمات قد تتعرّض لها المناطق الإسرائيلية الواقعة في نطاق صواريخ المقاومة اللبنانية. نجاح منظمة "زاكا" (zaka) في إثبات وجودها -داخل وخارج إسرائيل- أدّى لارتفاع أسهمها شعبيا وحكوميا، مما ساهم في زيادة عدد المتطوعين بها، وكذلك في تدفّق أموال التبرعات عليها، وفي العيد الخامس والخمسين "لاستقلال" إسرائيل -بحسب الرؤية الإسرائيلية للأمر- تمّ تكريم "يهودا مشي زاهاف"، أحد أهم مؤسسي المنظمة. ولكن لم يمنع ذلك من اتّهام بعض الأعضاء في أغسطس 2007 بعمل محرقة جثث سرية في إسرائيل، حيث إن حرق الجثث يخالف الشريعة اليهودية التي تقول بأن التعامل مع جثث الموتى لا يكون إلا بالدفن، وقد نفت المنظمة لاحقا علاقتها بالحادث.
واليوم تتواجد مواقع للمنظّمة وأصدقائها في دول مثل فرنسا وكندا وأمريكا وبريطانيا وإيطاليا, وأصبحت "زاكا" تعمل على مدى الأربع وعشرين ساعة، طوال الأسبوع، كل أيام السنة، بقوة 1500 متطوّع، و34 سيارة إسعاف و162 دراجة نارية، وقد تمّ الاعتراف بها من قِبَل الأممالمتحدة سنة 2005، وكذلك من منظّمات الإغاثة والخدمات الإنسانية الدولية.