مع إغلاق حمام السباحة، وانشغال الدولة كلها في مشكلة النكسة، التي لم تشغلنا كثيراً.. في تلك المرحلة من العمر، شعرنا كلنا بحالة من الفراغ والملل، وكان علينا أن نبحث عن هواية جديدة؛ خاصة وأن صيف 1967م الملتهب، لم يكن قد انتهى بعد، والدراسة كانت تبدأ، مثل طابع البريد، في أوَّل أكتوبر، وما زال أمامنا يوليو وأغسطس وسبتمبر. في البداية، ابتاع كل منا بندقية رش، وبدأنا في ممارسة رماية الصغار، فوق سطح منزل جدي.. وأزعم أننا -على الرغم من صغر أعمارنا- بلغنا مرحلة مدهشة من الإتقان في هذا المضمار، وبالنسبة لتلك السن الصغيرة، ولكن هذا أحد أسرار الحياة العجيبة؛ فعندما وصلنا إلى مرحلة إتقان، تتيح لنا إصابة كل الأهداف؛ فقدَتْ اللعبة متعتها، وتجاوزت لذَّتها، وبات علينا أن نبحث عن هواية جديدة، ولعبة أخرى مثيرة. وكان الشطرنج.. لم نكن نفقه بالطبع؛ ولكنها كانت لعبة نزال عقلي، استهوتنا، وغرقنا فيها طويلاً وعميقاً؛ وذلك بالطبع لأننا لم نكن نملك قنوات فضائية، أو أجهزة كمبيوتر، أو (بلاي ستيشن) أو أية تكنولوجيا أخرى. حتى تليفزيون (مصر)، الذي لم يتجاوز مرحلة المراهقة بعد، كان يبث أيامها قناتين فحسب، ولم تكن تسميتهما مشابهة لما تجدونه الآن؛ بل كانت هناك القناة رقم خمسة، والقناة رقم سبعة، وفي القاهرة الكبرى وحدها، كانت تُبث قناة ثالثة، تدعى القناة رقم تسعة، ولأننا نشأنا في مدينة (طنطا)، لم نكن نتمتَّع بها، وبما تبثه من مسلسلات أجنبية مثيرة. وبدأنا نلعب الشطرنج، وتعلو أصواتنا أو تنخفض، أو نغرق لساعات في صمت وتركيز.. حتى انتهت الإجازة، وبدأ العام الدراسي.. بدأت أوَّل شهادة في حياتنا.. الشهادة الابتدائية.. ولأنني كنت أكبر أفراد العائلة سناً، كنت دوماً حقل تجارب لكل جديد، والهدف الأوَّل لكل الضغوط والتوترات. ولقد تآزرت العائلة كلها ؛ لتُشعرني أنني مُقدم على حرب ضروس، ويتحتم أن أرتدي ثوب الميدان، وأخوضها مع كتائب الصاعقة. ولأوَّل مرة في حياتي، عرفت ما يُسمى بالدروس الخصوصية.. الأستاذ "لبيب" كان أستاذنا الرسمي في المدرسة، وكان -والحق يقال- يمارس عمله بكل شرف وضمير، ويجيد الشرح في الحصص الرسمية، على نحو لا يحتاج إلى إضافة.. وعلى الرغم من هذا، كان يجعل من منزله، أو من حجرة خاصة فيه، فصلاً خاصاً، لمن يتلقون الدروس الخصوصية، بعد موعد المدرسة الرسمي. لم أكن أشعر برغبة أو بحاجة إلى درس خاص؛ ولكن والدي -رحمه الله- أصرّ على هذا، ولما لم يكن لي حق الاعتراض؛ فقد استسلمت للأمر، ودرَّبت نفسي على الاحتمال، وانتظمت في الدرس الخصوصي، طوال عام دراسي كامل، انتهى بنجاح بمجموع كبير، نقلني من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الإعدادية.. أيامها كانت أفضل مدرسة إعدادية في مدينتي (طنطا)، تعرف باسم (مدرسة الجمعية)، وكانت من شدة الإقبال عليها، تضع لنفسها تنسيقاً خاصاً؛ لذا فقد كان التحاقي بها بمثابة نجاح جديد، وإعلان بالتفوق، وبالصلاحية لدخول المدرسة الأفضل في بلدتي. والانتقال من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الإعدادية، كانت بمثابة الترقية في زمننا؛ فأيامها لم يكن هناك زِيّ موحَّد للمرحلة الإعدادية، وكان هذا يعني أننا قد تخلصنا من (المريلة) الكاكي، والحذاء البني، وتلك (الفيونكة) المزعجة، ذات اللون البني الداكن، وصرنا نرتدي ما يحلو لنا. وهنا ظهرت عقدة الحذاء البني.. فلأننا، طوال المرحلة الابتدائية، كنا مجبرين على ارتداء حذاء بني اللون، فما إن انتقلنا إلى المرحلة الإعدادية، حتى اختفت الأحذية ذات اللون البني تماماً، وصار الجميع يرتدون الأحذية السوداء.. والسوداء فقط.. كنا نشعر بالانطلاق، كما لو أننا قد ذهبنا إلى الجامعة، ثم إن هناك آخرين انضموا إلى معارفنا، ممن أتوا من مدارس أخرى؛ ولكن الأهم هو أن نوع النشاطات المدرسية قد اختلف تماماً؛ فلم تعد هناك حصص أشغال أو تدبير منزلي؛ وإنما صارت هناك جماعة صحافة، وجماعة علوم، وجماعة تصوير، وكان لدينا مدرس موسيقى من الدرجة الأولى، تتلمذ على يديه زميل الدراسة والصديق الفنان -صاحب الصوت العذب- محمد ثروت، الذي تفجَّرت مواهبه في ذلك الحين على يد أستاذ الموسيقى الأستاذ "إبراهيم الدسوقي".. أما الأستاذ "جورج" أستاذ مادة العلوم ورئيس جماعة العلوم؛ فقد استحوذ على اهتمامي كله، وفجَّر كل عشقي للعلم والمواد العلمية، ومنحني ومنح الباقين كل الفرصة، لإطلاق إبداعاتهم في هذا المضمار. كنا قد بدأنا في كشف اهتماماتنا الفعلية؛ فالزميل المرحوم "حسام عوض" -أمين شباب الحزب الوطني ورئيس لجنة الشباب في مجلس الشعب حتى وفاته- أبدى اهتماماً بالغاً وتفوقاً ملحوظاً في كرة القدم، و"محمد العفيفي" تألّق في الرياضيات، و"محمد ثروت" شدا بأجمل الألحان وأعذبها، وشخصي المتواضع غرق في العلوم حتى أذنيه. أيامها كانت الحياة تتخذ هيئة الاستعداد للحرب؛ فكل النوافذ مطليّة باللون الأزرق لحجب الإضاءة، ومحاطة بأشرطة اللزق لمنع انفجارها وتناثرها على الناس، وكل بيت إما أمامه جدار من الطوب، أو آخر من أجولة الرمال، وتدريبات الدفاع المدني في كل مكان، وأخبار حرب الاستنزاف وضربات العدو تملأ الصحف وتثير الحماسة أو الغضب في النفوس، والحديث عن المعركة القادمة ملء الأفواه. وعلى الرغم من هذا؛ فقد كانت السينما تمرّ ب"وكسة" عجيبة؛ إذ غرقت في محيط من أفلام المقاولات التافهة والساذجة، التي يخترقها كل حين وآخر فيلم عظيم أو فيلمان، والأغنيات كذلك ارتبكت بعد الحرب، حتى بدا وكأن الناس كلها قد أصيبت بصدمة مع النكسة؛ فلم تعد مستعدة لإرهاق عقولها بأية فكرة معقدَّة، أو بأي أمر مرهق. كان الشعور السائد هو شعور الهزيمة، وخاصة بعد مرحلة البيانات الكاذبة، والاضطرابات، وفقدان الثقة مع النظام، ومع التطوّرات التي أعقبت هذا، وسيطرة إسرائيل على سمائنا بعدها، والضربات التي كانت توجهها لكل مكان في العمق، دون أية اعتبارات، مثل قصفها لمدرسة "بحر البقر" ومصنع "أبي زعبل"، ورادار "البرلس"، وغيرها، ثم جاء قبول جمال عبد الناصر لمبادرة "روجرز" ليكسر ما تبقى من النفوس، ويشعر الجميع أن موقفنا متردٍّ بحق، وأننا قد صرنا عاجزين، حتى عن مواصلة حرب الاستنزاف. ولكن قبول مبادرة "روجرز" وضع حداً لضربات إسرائيل في الجبهة الداخلية، ومنحنا في الوقت ذاته فرصة بناء حائط الصواريخ الذي كان له فضل حماية سماء مصر في حرب 1973م. ومن الأحداث التي ما زلت أذكرها، عن هذه الواقعة بالذات، أن الرئيس السادات كان أيامها رئيساً لمجلس الأمة (مجلس الشعب) الحالي، وكان الرئيس عبد الناصر في رحلة علاج بالخارج، عندما أعلن "روجرز" مبادرته. وبسرعة، ومن باب الحماسة، وإثبات الولاء، سارع السادات برفض مبادرة "روجرز"، وحصل على تأييد مجلس الأمة للرفض.. ثم جاءت الصدمة، بقبول الرئيس عبد الناصر للمبادرة.. أيامها، نشرت الصحف خبر إصابة السادات بأزمة قلبية مفاجئة، واعتزاله في منزله (في ميت أو الكوم) للاستشفاء.. ومع المعتاد، تصوَّر الكل أن الرئيس جمال قد عزل السادات بأسلوب ذلك العصر؛ ولكن المفاجأت توالت، عندما عاد عبد الناصر إلى البلاد، واستقبل السادات، وعاد كل شيء إلى ما كان عليه، مع فارق واحد.. لقد تمّ قبول مبادرة "روجرز".. وفي المدرسة، ارتبكت مشاعرنا بحق، في هذه الفترة؛ إذ إنه ما إن أعلن السادات عن رفض المبادرة، حتى اتخذت دروس التاريخ هذا المسار، وبدأت فوراً عملية تحفيز المجتمع للرفض. ثم وافق عبد الناصر، وانقلب كل شيء رأساً على عقب، في يوم وليلة (يا عيني يا مصر)، واتخذت الدروس مسار القبول، وتمّ شحن الرأي العام لتقبّل المبادرة. هكذا كانت تسير الأمور أيامها.. وهكذا ما زالت تسير.. ولكن مع عام 1970م، ومع بدء صيفه، كان هناك ما يشير إلى أن انقلاباً رهيباً سيحدث في مصر.. ولكن ما حدث لم يكن متوقعاً.. أبداً..