لم تكن دماء ضحايا التفجيرات الإرهابية التي واكبت الاحتفالات العراقية بذكرى وفاة الإمام "موسى الكاظم" تبرد حتى سقط 43 ضحية في غرب البلاد، وذلك على أثر هجوم انتحاري استهدف واحدة من مقرات مجالس الصحوة في محافظة الأنبار. التفجير الذي وقع صباح الأحد الموافق ال18 من يوليو الجاري خلّف ما لا يقل عن 40 مصاباً، ومزيداً من علامات الاستفهام حول التفجيرات التي تنال مجالس الصحوة العراقية. ومجالس الصحوة هي تكتلات عشائرية نشأت في المناطق التي يهيمن عليها نفوذ تنظيم القاعدة العراقي، وقامت تلك التكتلات العشائرية بتشكيل ميليشيات محلية هدفها محاربة مقاتلي القاعدة، وقام كل مجلس على حدة بتمشيط منطقته من نفوذ القاعدة. وكأن مجلس الصحوة الأول هو مجلس صحوة الأنبار الذي أعلن عن تشكيله في 14 سبتمبر 2006 على يد الشيخ "عبد الستار أبو ريشة"، وهو زعيم عشائري قُتِل أبوه الشيخ "بزيغ أبو ريشة" على يد مقاتلي القاعدة، ثم لحق به ابنه "محمد"، قبل أن تقوم ميليشيات القاعدة باختطاف أبنائه "عبد الله" و"علي"، وحتى يومنا هذا لا يعرف مكانهما، مما يفرض فكرة قتلهم سراً كما هو متّبع من قبل تنظيم القاعدة. واعترفت الحكومة العراقية والاحتلال الأمريكي بسطوة الشيخ "عبد الستار أبو ريشة"، خاصة حينما نجح في تخليص الأنبار من قبضة القاعدة، وسارعت الولاياتالمتحدةالأمريكية بتأسيس مجالس الصحوات في طول وعرض العراق، خاصة أن الفكرة تقضي بقيام العشائر بمحاربة القاعدة، مما يُصعّب المهمة على تنظيم القاعدة الذي يجد نفسه في مواجهة أبناء البلد، فإما أن يُقاتل فتسقط حماية القبائل عن مقاتليه، أو يستسلم فينتهي أمره. وقدّم الجيش الأمريكي المال والسلاح لزعماء القبائل والعشائر من أجل إعلان الحرب على القاعدة، وبارك رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي تلك الخُطوة رغم اعتراض بعض القوى السياسية الشيعية؛ لأن الصحوة التي تتكوّن من العشائر السنية سوف تقوي شوكة السنة سياسياً وحتى على المستوى العسكري بعد تأليف الميليشيات. وسارع تنظيم القاعدة بالرد سريعاً، وذلك عبر اغتيال زعماء مجالس الصحوات، وكانت البداية بالشيخ "عبد الستار أبو ريشة" في سبتمبر 2007 بعد أقل من عام من إعلانه تأسيس مجلس صحوة الأنبار، وذلك عقب بضعة أيام من قيام الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن بمقابلته أثناء زيارته للعراق، وسارع مجلس الصحوة بالأنبار في انتخاب شقيقه "أحمد أبو ريشة"، وهو ذاته الزعيم العشائري الذي اقترح البعض أن يكون الرئيس المقبل للعراق بعد نجاحه في قيادة الصحوة في الأنبار للقضاء على بقايا نفوذ القاعدة. ولكن النفوذ استمر في شكل آخر.. عبوة ناسفة هنا، عملية انتحارية هناك، وهكذا، مما استلزم استمرار الميليشيات العشائرية في القتال، واستلزم استمرار قيام الولاياتالمتحدةالأمريكية بضخ المال والسلاح، وربما غير ذلك أيضاً لزعماء القبائل، بل إن الحكومة العراقية -التي طالما حاربت ولو بشكل صوري ظاهرة الميليشيات العراقية- سارعت في خريف عام 2008 بنقل مسئولية 100 ألف مقاتل من مجالس الصحوة إلى مسئوليتها المباشرة، وأصبحت تلك المجالس جزءاً من المؤسسة العسكرية العراقية الوليدة. ورغم ما يجري من عمليات، فإن تجربة مجالس الصحوة العراقية كانت تجربة ناجحة بامتياز، ونجحت بالفعل في تقليم نفوذ القاعدة في وسط وغرب وشمال العراق، بل ولها الفضل الأول في إسقاط ما يُسمّى بدولة العراق الإسلامي، وهو الكيان الوهمي الذي أعلنت القاعدة عن قيامه في العراق يوماً ما. وقد حاولت الولاياتالمتحدةالأمريكية نقل التجربة إلى أفغانستان وباكستان، على أن تتشكل مجالس صحوة هناك ضد تنظيم القاعدة، ولكن التجربة لم تُثمِر عن نتائج ملموسة حتى يومنا هذا، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن القاعدة بأفكارها وأهدافها تعتبر فكراً دخيلاً على الداخل العراقي، بينما القاعدة وطالبان والحزب الإسلامي والمجاهدون العرب وغيرهم من التنظيمات الأفغانية تعتبر تطوّراً طبيعياً لثمار التطرّف في أفغانستان، والذي بدأ إبان الاحتلال السوفيتي.