"حزب الله" هذا التنظيم المثير للحيرة لدى الكثيرين، فالبعض يكرهه ويعتبره شوكة في ظهر العروبة والإسلام، والبعض يقدّره ويعتبره تنظيماً مقاوماً يحرص على رفعة كل من العروبة والإسلام.. دعونا اليوم نتكلم عنه بكل صراحة ممكنة وبلا مواربة.. مناصرو "حزب الله" يناصرونه بكل ما يملكون من قوة سواء أتت هذه المناصرة نتيجة اتفاق مع المذهب الشيعي المنتمي إليه الحزب، أو حتى رغم الاختلاف المذهبي، ولكنهم مؤمنون بالمذهب السياسي الذي يتبناه الحزب وهو فكرة الجهاد المسلح ضد العدو الإسرائيلي، حيث يعتبر هؤلاء المناصرون "حزب الله" الفصيل العربي المسلم الوحيد الذي يقوم بما هو واجب عليه في الدفاع عن أرض العرب وكرامة المسلمين.. أما خصوم الحزب فهم على النقيض، ويرونه كمحاولة لدسّ السم في العسل، ولغزو الفكر الشيعي في الدين وغزو التدخل الإيراني في السياسة.. وبين الفكرين هناك من هو حائر، فهو يرى لكل من الرأيين وجاهته ومنطقيته.. فمن ناحية يعتبرون "حزب الله" هو الفصيل المسلم العربي الفعال الآن في ساحة الجهاد وله انتصارات فعلية، ذات تأثير على أرض الواقع ضد العدو الصهيوني.. ومن ناحية أخرى فانتماء الحزب للمذهب الشيعي، وما يتبعه من اتهام دائم بتبعية الشيعة لإيران، جعل خوفهم منطقياً سواء من تسلل الفكر الشيعي أو وضع إيران لقدمٍ في العالم العربي.. رد الكثير من "حزب الله" على نقطة التبعية لإيران بتوضيح كون الحزب حزباً "لبنانياً عربياً وطنياً في الأساس" إلا أن هذا الرد لم ينجح في وضع حد للغط الدائم حول الشيعة -ومنهم "حزب الله"- والذي سيظل قائماً في سؤال حائر.. لمن انتماؤهم؟!! هل هو للمرجعية الدينية القائمة في "قم" بإيران.. أم للقومية الوطنية المتمثلة في سياسات وحكومات دولهم؟ "حزب الله" وولاية الفقيه تعالَ لنتتبع "حزب الله" منذ البداية، ففي فترة الثمانينيات وقبل أن يصبح "حزب الله" حزباً تنظيمياً كما هو بشكله الحالي، كان هناك تنظيم أولي يحمل ذات الفكر السياسي وينتمي لنفس المذهب العقائدي، تحت قيادة "محمد حسين فضل الله" العالم الشيعي الشهير، هذا التنظيم الأولي هو ما تطور ليصبح "حزب الله" الذي نعرفه حالياً.. و"محمد حسين فضل الله" هو واحد من "آيات الله العظمى" في المذهب الشيعي، وهي المكانة الدينية الأعلى في المذهب، فبعد أن تطوّر تنظيم "فضل الله" في الثمانينيات إلى "حزب الله" وأصبح "عباس الموسوي" أمين عام الحزب، في الوقت الذي بقي به "فضل الله" الزعيم الروحي له.. نشأ الخلاف بين "فضل الله" والحزب، والسبب "ولاية الفقيه". فما هي ولاية الفقيه؟؟ يقول د."محمد السعيد عبد المؤمن" أستاذ الدراسات الإيرانية بجامعة عين شمس إن نظرية ولاية الفقيه المطلقة التي صارت أساس الحكومة الدينية في إيران بعد نجاح الثورة الإسلامية فيها، تعتمد على أربعة عناصر أساسية: الولاية: ومعناها التصدي والأولوية في إنجاز شئون الآخرين، فالرجل الشيعي العادي في المجال الاجتماعي فاقد الأهلية وعاجز عن الفعل، ومحتاج بشكل دائم لراعٍ شرعي هو الفقيه.
النصابة: ومعناها أن تعيين الشخص الصالح للحكم محدد من قبل الإمام الغائب، أي معهودة للفقهاء، وهكذا لا يمكن أن يتم اختيار "الولي الفقيه" بناء على رغبة الشعب.
الإطلاق: بمعنى أن نطاق سلطة الولي الفقيه تنسحب على المجال العام وقضايا الحكم، فلا يوجد ما هو خارج عن محيط ولاية الفقيه؛ لأن صلاحيات الولي الفقيه هي نفسها اختيارات النبي (صلى الله عليه وسلم) والأئمة كما يرى الشيعة. التفقّه أو الفقهية: وتعد أهم الشروط الواجب توفرها لإدارة المجتمع، فالفقه يلعب دورا أساسيا في تشكيل المجتمع وأساليب إدارته، فكل تشكيل سياسي لا بد أن يعتمد على أسس فقهية، فللفقيه القدرة على حل كل مشاكل العالم السياسية والاقتصادية والعسكرية؛ لقدرته على إرشاد المجتمعات. إذن ببساطة معنى ولاية الفقيه أن الفرد الشيعي أياً كانت جنسيته عليه الولاء والطاعة للفقيه أو المرشد، وفي هذه الحالة يخرج الأمر عن نطاق الدين ليدخل في نطاق السياسة، فهذا الفقيه في النهاية هو تابع لدولة أخرى -إيران- في حالة الشيعة غير الإيرانيين.. ولهذا فقد رفض "فضل الله" فكرة ولاية الفقيه، وأراد ل"حزب الله" أن يحظى بهوية دينية وسياسية شيعية لبنانية منفصلة عن الداخل الإيراني.. إلا أن كثيرا من أئمة الشيعة وآيات الله عبّروا عن رفضهم لإسقاط ولاية الفقيه من منهج "فضل الله"، واعتبروه خروجاً عن المذهب الشيعي الصحيح، وكذلك كان الحال في قيادات "حزب الله" حيث رفضوا فكرة إنكار "ولاية الفقيه"، وبهذا خرج "فضل الله" من "حزب الله"، وأبقى "حزب الله" على ولاية الفقيه.. "حزب الله" اللبناني بين الهوية الدينية والوطنية كما سبق فإن فكرة "ولاية الفقيه" في الفكر الشيعي تصطدم مع مبدأ الولاء للوطن، أو على الأقل تعني أن الحزب ذو ولاء مزدوج للبنان وإيران على حد سواء، وهو ما يطرح سؤالاً هاماً، ماذا إذا تعارضت المصالح؟ هل سيختار الحزب وقادته هويتهم الدينية أم الوطنية؟ ولذلك ظلّ الحزب لوقت طويل محاصرا في هذه الدوائر المتداخلة المثيرة للشكوك، سواء من جانب الحكومة البنانية والحكومات العربية أو على مستوى الأفراد العاديين، ظل هذا هو الوضع الأساسي حتى عام 2000. الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان جنوب لبنان الذي احتلّته إسرائيل عام 1978, وأنشأت به ميليشيات من المتعاونين معها، وبقيت في الجنوب حتى عام 2000. وخلال الفترة السابقة لعام 2000 كان ل"حزب الله" عمليات مؤثرة على الجيش الإسرائيلي، قامت باستنزافه واستنزاف الموارد والأرواح الإسرائيلية، وكذلك تعطيل وقطع الدعم اللوجستي عن الجنود الإسرائيليين المحتلين للجنوب اللبناني، ومع توالي العمليات وزيادتها وضغطها الشديد أعلن إيهود باراك -رئيس وزراء إسرائيل آنذاك- عام 2000 الانسحاب التام من الجنوب دون أي اتفاق مع لبنان، وتبع انسحاب الجيش الإسرائيلي انسحاب جميع القوى اللبنانية المساندة له من الجنوب اللبناني بأكمله فيما عدا مزارع شبعا والتي لا تزال محتلة حتى الآن، بل إن الجنود الإسرائيليين فروا من الجنوب ذعراً في منتصف الليل تاركين عتادهم وتحصيناتهم في الجنوب.. وتحررت 125 قرية لبنانية كانت واقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي المباشر، و35 أخرى كانت تدار بأعوان الاحتلال من اللبنانين "الخونة". وكانت النتيجة هي ارتفاع أسهم "حزب الله" لدى المواطن العربي العادي المفتقد للانتصارات، والذي لم يستمع منذ أكتوبر 1973، سوى للهزائم العربية المتتالية، مما شجع المواطن العادي على تناسي الاختلاف والخلاف الطائفي على اعتبار أن هؤلاء عرب مسلمون حققوا انتصارا على العدو الإسرائيلي الصهيوني.. لم يكن هذا هو النصر الأول ل"حزب الله" ولم تكن عمليته الأولى بطبيعة الحال ولكنها كانت الأقوى على صعيد التأثير الإعلامي.. وظل "حزب الله" هو الأعلى صوتاً في الساحة حتى جاء عام 2006 وتفجّرت الحرب الإسرائيلية على لبنان. الحرب السادسة هل أفادت "حزب الله" إعلامياً أم ضرته الحقيقة أن غزو إسرائيل للبنان عام 2006 بسبب أسر "حزب الله" لجنديين إسرائيليين، كان نقطة فارقة في تاريخ الحزب، فبعد أن قدّم الحزب نفسه لعقل المواطن العربي والمسلم في عام 2000 كحزب مجاهد، تم إعادة تقديمه مرة أخرى عام 2006 بطريقتين.. فالمؤيدون للحزب أعادوا صورة المجاهد إلى الأذهان، وقدّموا الغزو الإسرائيلي بمثابة نيشان على صدر الحزب، فهم يرون أن الحرب الإسرائيلية أتت كرد قاسٍ على عمليات الحزب العسكرية ضد إسرائيل بما فيها خطف الجنديين.. أما معارضو الحزب والذين ضموا الكثيرين ومنهم دولاً كاملة فارتأوا أن "حزب الله" لم يكن يحرّكه سوى التهور السياسي، واعتبروا خطفه للجنديين الإسرائيليين مقامرة سياسية لا داعي لها، لم تحقق سوى الوبال على لبنان.. كما أعادت هذه الحرب إلى الأذهان ثنائية الانتماء ل(الدين/ الدولة) ثانية.. فلقد اتُّهم "حزب الله" بتنفيذه لأجندة سياسية إيرانية، وأنه جلب الوبال على لبنان غير مكترث بما حدث لها، تنفيذاً لهذه الأجندة التي ينتمي إليها بحكم العقيدة والمذهب.. وهكذا عادت الظلال والشكوك تتجمع حول الحزب ثانية بأكثر مما كانت عليه، فنتيجة للتغطية الإعلامية، ولتطور أساليب انتقال المعلومات عبر هذه السنوات، أصبحت هذه النظرة منتشرة على مستوى المواطن البسيط العادي، الذي يرى في الحزب كونه شيعيا إيرانيا، فحسب. رد الشيعة.. والحقيقة على أرض الواقع!! بعض القائمين في "حزب الله" ومنهم "فضل الله" نفسه رغم رفضه لها، حاولوا تفسير نقطة ولاية الفقيه في إطار ديني، فأكدوا أن "الشيعي" يتبع الفقيه في أمور الدين والفتوى، كما يتبع بعض السنة المذهب الوهابي (نسبة لمحمد بن عبد الوهاب) مثلاً، دون أن ينتموا بالضرورة للسياسة السعودية حيث مسقط رأس محمد بن عبد الوهاب نفسه.. وعلى هذا يصبح المواطن اللبناني الشيعي -و"حزب الله" كذلك- تابعاً لإمام ديني في إيران يأخذ عنه أموره الدينية، بينما هويته السياسية والوطنية لبنانية.. وهذا التفكير قد يبدو منطقيا على المستوى العقلي النظري، ولكن يثير الكثير من الشكوك على أرض الواقع الذي يقول إن ولاية الفقيه لا تعنى بالأمور الدينية فقط، بل والسياسية كذلك.. وأن فكرة السياسة لم تخرج مطلقاً من الفكر الشيعي في إيران، فها هم بعد وفاة الشيخ "الأراكي" المرجعية الدينية العليا للشيعة، يحددون سبعة أسماء من آيات الله العظمى ليحل أحدهم محله كمرجعية دينية، ليس من بينهم أي عربي، واكتفوا بسبعة من آيات الله العظمى الإيرانيين.. وها هو "محمد حسين فضل الله" الآية العظمى العربية الوحيد ذو الصوت المسموع، ظل مضطهدا من إيران معظم عمره بعد آرائه حول ولاية الفقيه، بل وقام بعض الآيات الآخرين الإيرانيين بردّ فتاواه والتحريض على عدم اتّباعه، مما أكد للبعض أن الأمور لا تقف عند حد الدين بل تتخطاها لتصل للسياسة والعِرْق كذلك..