موضوع بناء الكنائس في الدول الإسلامية موضوع له بُعدان؛ الأول فقهي شرعي، والثاني سياسي.. وغالباً ما يتمّ الخلط بين الاعتبارات السياسية والدينية، ويتم الاستناد في منع بناء الكنائس إلى الشرع. وبرغم وجود بعض الآراء التي تضيّق بناء الكنائس؛ إلا أن هذه الآراء ظهرت في وقت وزمن غير الزمن، فضلاً عن وجود آراء أخرى فقهية أجازت بناء الكنائس وتركت الأمر للحاكم (رئيس الدولة) للموافقة أو عدم الموافقة. هذا الموضوع الخطير تحدّث عنه العلامة الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه "فقه الجهاد"؛ حيث أشار إلى أنه من ضمن حقوق غير المسلمين في الدول الإسلامية حق في العبادة الخاصة بهم، أو ما أسماه ب"حرية التديّن"، هذه العبادة لا بد وأن تؤدّى في الكنائس. وهنا يثور السؤال عن الموقف من بناء الكنائس ويؤكد القرضاوي على وجود خلاف فقهي في مسألة السماح ببناء الكنائس نظراً للاستناد إما إلى بعض الأحاديث الضعيفة، أو الأخرى التي لا تتحدث بصراحة عن موضوع حظر بناء الكنائس، ومن بين الأحاديث الضعيفة حديث "لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة"، وكذلك حديث "لا قبلتان في بلد واحد"؛ يعني مسجداً وكنيسة.. فهذه الأحاديث ضعيفة ولا يصلح الاستدلال بها. وفي المقابل هناك بعض الأحاديث الصحيحة؛ لكن أسيء فهم معناها مثل حديث "لا يُترك بجزيرة العرب دينان"، وحديث "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب". ومع التسليم بصحة هذا الحديث؛ فإن الاستشهاد به في غير موضعه؛ لأن هناك من الفقهاء من فسّروا موضع النهي ببلاد الحجاز والتي تشمل مكة والمدينة واليمامة على اعتبار أنها موطن الإسلام، والملجأ الأخير الذي يلجأ المسلمون إليه كلما نزلت بهم الشدة والمحن عبر العصور. أما ما عدا ذلك -أي ما عدا بلاد الحجاز- فليس هناك مانع شرعي في بناء الكنائس ما دام أهل الذمة (غير المسلمين) يزيد عددهم ويحتاجون إلى كنائس يتعبدون بها، والموجود بها لا يكفي. بناء الكنائس في مصر ويؤكد القرضاوي أن هذا كان الحال بالنسبة لمصر منذ دخول الإسلام بها؛ حيث تمّ بناء العديد من الكنائس والأديِرة مثل كنيسة مار مرقس بالإسكندرية، وكذلك كنيسة حارة الروم بالدرب الأحمر، كما سمح عبد العزيز بن مروان ببناء أول كنيسة في مدينة حلوان وبناء ديرين.. وهناك المزيد من الأمثلة التي ذكرها المؤرخ المقريزي في كتابه "الخطط" والذي اختتم حديثه بالقول "جميع كنائس القاهرة المذكورة مُحدثة في الإسلام بلا خلاف". أي لم تكن موجودة قبل الفتح الإسلامي لمصر، وتم إنشاؤها في ظل الفتح الإسلامي لمصر. وهنا يؤكد القرضاوي على أن المسألة شائكة في الفقه.. لكن الرأي الذي يميل إليه، هو أنه في ضوء نصوص القرآن والسنة ومقاصد الشريعة؛ فضلاً عن المتغيرات الدولية والإقليمية والمحلية وسيادة مفهوم المواطنة لدى الأمم المختلفة؛ فإنه لا مانع من إنشاء الكنائس في بلاد الإسلام، بعد أن أوجب الدين الإسلامي حرية هؤلاء في التعبّد والتديّن والاعتقاد.. وليس من المعقول أن يُقرّ الإسلام أهل الذمة على دينهم ومعتقداتهم وشعائرهم، ثم ينهاهم عن إقامة معابدهم التي يتعبدون بها. أقباط مصر.. معاملة خاصة ويختتم القرضاوي هذا الملفّ الشائك بذكر الوصية الخاصة للرسول صلى الله عليه وسلم بأقباط مصر؛ وذلك عند وفاته؛ حيث قال "الله الله في قبط مصر؛ فإنكم ستظهرون عليهم، ويكونون لكم عُدّة وأعواناً في سبيل الله"، وفي حديث آخر "استوصوا بهم خيراً؛ فإنهم قوة لكم، وبلاغ إلى عدوكم بإذن الله"، وفي رواية ثالثة "إنكم ستفتحون أرضاً يُذكر فيها القيراط (يعني مصر لأنهم كانوا يستخدمون القيراط وهو جزء من الدرهم والدينار في معاملاتهم)؛ فاستوصوا بأهلها خيراً؛ فإن لهم ذِمّة ورحماً"، وفي رواية ذِمّة وصهراً. والعلماء يقولون الرحم التي لأقباط مصر على المسلمين كون السيدة هاجر أم إسماعيل عليه السلام منهم، والصهر كون السيدة مارية أم إبراهيم ابن الرسول صلى الله عليه وسلم منهم. وهكذا، فإن الرسول يجعل للقبط من الحقوق أكثر من غيرهم؛ فلهم الذمة: أي عهد الله وعهد رسوله وعهد جماعة المسلمين، وهو عهد جدير بأن يراعى ويُصان، ولهم رحم وقرابة ليست لغيرهم. وقد صّدق الواقع التاريخي ما أخبر به الرسول؛ فقد رحّب الأقباط بالمسلمين الفاتحين وفتحوا لهم صدورهم بالرغم من أن الروم -الذين كانوا يحكمونهم- كانوا نصارى مثلهم، وإن كانوا على غير مذهبهم، ودخل الأقباط في الإسلام أفواجاً، وصارت مصر بوابة الإسلام إلى أفريقيا كلها، وأصبح أهلها من القبط عدة وأعواناً في سبيل الله. اقرأ أيضاً: في معنى الجهاد.. جاهد نفسك قبل مجاهدة عدوك مع القرضاوي.. الجهاد ولا التربية.. ربّي نفسك أولاً (2) مع القرضاوي: رسالة للفنانات المحجبات.. الاعتزال ليس الحل(3) مع القرضاوي: الجهاد بالنفس من أجل أرض فلسطين (4) مع القرضاوي: هل يجب الجهاد مرة كل سنة؟ (5) مع القرضاوي: هل لازم نجاهد في فلسطين؟ (6) مع القرضاوي: انتشار الإسلام بالسيف.. قول مردود عليه (7) هل تجاهد المرأة مثل الرجل؟ (8) الجهاد السلميّ في ظل سلطان جائر (9) الصح والغلط في مفهوم الجهاد المسلح (10) لا تستطيع الجهاد المسلح؟.. يمكنك الجهاد عبر الإنترنت (11) تُذاكِر وتَبَرّ بوالديك وتعمل.. أنت مجاهد في سبيل الله (12) هل الإسلام دين لسفك الدماء؟ (13) هل يجاهد المسلم لمحو الكفر من العالم؟ (14) جهاد الديانات الأخرى.. ومَن الإرهابي؟ (15) الإرهاب ليس فكرة إسلامية (16)