الفتوى.. هذه الكلمة الهامة في الدين، والتي قال عنها الصحابة والسلف الصالح "أجرؤكم على الفُتيا أجرؤكم على النار". والفتوى تقع من الدين موقعاً شديد الأهمية؛ فمن الفتاوى غالباً ما يأخذ عامة المسلمين دينهم، فأغلب المواطنين العاديين لا يمكنهم التدبر في الدين بشكل صحيح، ولا يمكنهم استنباط الأحكام، أو معرفة إسناد الأحاديث وصحيحها، وغير ذلك. لذا يلجأ العامة لرجال الدين طلباً للفتوى في أمور دينهم ودُنياهم.. فماذا يجدون عندما يسلكون هذا السبيل المشروع للمعرفة؟! بكل أسف، لا يجد المواطن العاديّ ما يريد، ولا يجد بَراً في المسألة الواحدة ليقف عليه مطمئناً في ظل فوضى الفتاوى التي نعيشها الآن. هدم الحرم المكي آخر تقاليع الفتوى كمّ ضخم من الفتاوى التي تتراوح بين كونها عجيبة ومتطرفة تخرج علينا في الفترة الأخيرة، يقف خلفها بعض من يُطلق عليهم علماء دين.. والكارثة أن كثيراً من الشباب يتبع هذه الفتاوى ويسعى لتطبيقها فتكون العواقب أشد من وخيمة. ولنأخذ أحدث الفتاوى التي وردت على الساحة العربية الإسلامية مؤخراً: وهي فتوى "يوسف الأحمد" -الداعية وأستاذ الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سابقاً- والتي طالب بها بهدم المسجد الحرام بمكة المكرمة وإعادة بنائه على شكل أدوار تجنّباً للاختلاط المحرم -على حسب قوله- بدلاً من الحجم الدائري الكبير للمسجد. وأضاف الأحمد، عندما تطرّق الموضوع إلى الحديث عن الاختلاط أثناء الطواف في المسجد الحرام: "كيف نفصل؟.. الله أعطانا الوسائل.. وش المانع أن يهدم المسجد كاملاً ويبنى من جديد، ويكون أضعاف أضعاف الموجود حالياً، وبدلاً من أن يكون دائرياً وضخماً وكبيراً؛ فيكون 10 أو 20 أو 30 دوراً". لنقتل رجال ونساء الأرض لنمنع الاختلاط ليس بغريب بأي حال من الأحوال أن نقول أن الفتوى قد أخذت صدى واسعاً؛ فهذا هو المتوقع، ولقد تناثر خبر الفتوى عبر المواقع الإخبارية، وصدر أكثر من رد عليها؛ سواء من علماء دين سعوديين أو علماء الأزهر الذي فنّدوا كافة ما قالة الأحمد، كما جاء بردّ "د.خالد الجندي" -الداعية الإسلامي الأزهري- حيث قال: "ما قاله الأحمد حول هدم وإعادة بناء الكعبة منعاً للاختلاط يعتبر آخر المصائب والنوادر، عندما نتجرأ بالفتوى في التصريح بهدم وإعادة بناء الكعبة منعاً للاختلاط". كما أضاف "أن الله تعهّد بيته بالحفاظ عليه والعناية به، وليس في حاجة إلى إعادة بناء أو هدم، وأن عدم تعظيم المسجد الحرام بهذه الطريقة يعتبر مخالفاً لشرع الله، وفتوى جواز هدمها والعبث بها والتطاول على قواعدها وبنيانها من أجل تلك القضية التافهة (الاختلاط)، تدل على أن المفاهيم لديه لا تراعي فقه الأولويات والموازنات والمقاصد والأحكام والنوازل والواقع؛ فكيف يتجرأ ويتحدث بهذه المسألة من دون أن يمرّ على أي نوع من هذه العلوم؟" وأضاف ساخراً: إنه -أي الأحمد- إذا أراد أن يمنع الاختلاط؛ فعليه إصدار فتوى بقتل الرجال جميعاً أو النساء. من رضاع الكبير إلى ميكي ماوس النَجِس هذه الفتوى مجرد مثال لفوضى الفتاوى التي أصبحنا نعيشها؛ ولكن الكارثة في تصاعد الأمور؛ فبعد أن كانت الفتاوى على هيئة فتوى "رضاع الكبير" التي جاءت كوسيلة لحل مشكلة الاختلاط -التي تشغل ذهن عدد لا بأس به من رجال الدين- وبعد أن كانت الفتاوى تبيح دم الشخصيات الكرتونية فقط كفتوى قتل "ميكي ماوس" لأنه من الكائنات الممقوتة والمفسدة والنجسة. وصلنا لإهدار الدم بدأت الفتاوى تصدح بالعنف وتنتقل لمرحلة أكبر خطراً؛ فها هي فتوى "عبد الرحمن البراك" -عالم الدين السعودي- والتي يفتي فيها بجواز تكفير وقتل من يبيح الاختلاط في ميادين العمل والتعليم. فيقول: "من استحلّ الاختلاط؛ فهو مستحلّ للمحرمات، ومن استحلها فهو كافر، ومعنى ذلك أنه يصير مرتداً؛ فيُعرَّف وتقام الحجة عليه؛ فإن رجع وإلا وجب قتله، فالرجل الذي يسمح لأخته أو زوجته بالعمل أو الدراسة مع الرجال فهو "ديوث" -أي لا يملك غيرة على عرضه". إذن فقد وصل الاستسهال في الفتوى لحد إباحة الدم!! فتبعاً لرأي البراك، يجب قتل أغلب رجال الأمة الإسلامية لسماحهم لبناتهم وأخواتهم وزوجاتهم بالدراسة والعمل. لم يفكّر الشيخ بأول فتى صغير السن متحمّس سيسمع فتواه، ويذهب ليقتل جاره أو قريبه أو حتى أباه، الذي وقع في الكفر والردة لأنه أخرج إحدى نسائه للتعليم؟!! مستلهماً خُطى الشيخ الجليل!! ولو نظرنا بدقة؛ لوجدنا أن هذه هي الكارثة الحقيقة، أن هذه الفتاوى تلقى قبولاً وصدى لدى البعض مِمَن يظنون أن هذا هو الدين، وأن المنع والتحريم والتجريم وإباحة الدم هي أصل الدين ولا مكان إلا لها. قررنا أن نجري تجربة بسيطة، بمعرفة آراء الشباب حول الفتوى الأخيرة بهدم الحرم المكي لمنع الاختلاط، ورصد الآراء ومعرفة: هل تلقى الفتوى حقًا قبولاً لدى البعض؟ هل هناك شباب متعلم وذكي يقبل هذه الأقاويل؟ أم أن الخطر ما زال بعيداً وما زال هؤلاء المشايخ يفتون من أبراجهم العالية؟ لم يقل بها الرسول أو الخلفاء من بعده وجاءت الإجابة تدعو إلى الأسف؛ فرغم وجود عشرات الردود التي تم سؤالها، والتي جاءت ردودها منكرة للفتوى، ولا ترى لها داعياً أو مبرراً؛ بل إن كثيرين رددوا تساؤلاً واحداً تقريباً: هل يعرف "الأحمد" الإسلام أكثر من النبي صلى الله عليه وسلم أو أفضل من الخلفاء الراشدين أو الأئمة الأربعة؟ لماذا لم يفكّر أحد منهم على مرّ العصور بمثل هذا التفكير، لو كان لذلك ضرورة دينية؟ طواف صباحي وآخر مسائي إلا أن آخرين تبنّوْا وجهة نظر الشيخ، وعندما تساءلنا عن المبرر لهذا أتت عدة ردود مختلفة؛ فمحمد جمال -طالب بكلية الطب- قال: "إنه يوافق الشيخ لأن الاختلاط كارثة وهو آفة المجتمع ويجب الحد منه، ثم إن الشيخ لم يدعُ إلى هدم الكعبة؛ فقط دعا إلى هدم الحرم وإعادة بناءه للسيطرة على كارثة الاختلاط". في ذات الوقت قال حامد الخُمس -مهندس شبكات- "أوافق على الفتوى لأن العصر لم يعد مثل العصور السابقة؛ فلقد انتشرت المعاصي، ولم تعد القلوب بذات النقاء، لا الرجال ولا النساء؛ لذا وجب سنّ تشريعات، وأخذ مواقف جديدة، ولهذا لا بأس من فكرة الهدم من أجل الفصل وعدم الاختلاط ودرء الشبهات". والعجيب كان رأي هبة أحمد -الطالبة بكلية الألسن- والتي وافقت على رأي الشيخ قائلة "نعم هذا أفضل؛ فأنا أريد زيارة المسجد الحرام، ولكن تشغلني مسألة الاختلاط هذه، وأشعر بالقلق من الزحام والتلاصق؛ لذا لو طُبق هذا سيحل مشاكل كثيرة". أما عبد الحميد سعيد -طالب بالثانوية العامة- فيقترح اقتراحاً طريف، ويقول "ألا يمكن تقسيم الطواف إلى طواف صباحيّ للنساء، وآخر ليلاً للرجال؛ بدلاً من هدم الكعبة؛ فلو يجوز هذا لكان حلاً للمشكلة دون اللجوء للهدم". أما أغرب الردود التي حصلنا عليها؛ فكان رد معاذ عبد الرحمن -بائع بأحد المتاجر- حيث قال "الشيخ لم يفتِ؛ فقط قال رأيه وهو حرّ في ذلك، ثم إنني معه؛ بل أتمنى أن تُمنع المرأة من الطواف تماماً، كي لا يحدث أي اختلاط الذي هو أساس الوقوع في الحرام". والحقيقة أن هناك تساؤلاً هاماً لكل من أيّد فتوى الشيخ، قد يستطيعون منع الاختلاط في الطواف بهدم الحرم؛ ولكن ماذا سيفعلون في المسعى؟ في رمي الجمرات؟ ولو وجدوا حلولاً لذلك؛ ماذا سيفعلون في الوقوف بعرفه؟ هل سيفتون أن المرأة ليس عليها فرض الوقوف بعرفات؟!! ربما نجد اليوم الذي يخرج علينا فيه قائل بذلك.