خلال أسبوع واحد، طالعت ثلاثة أخبار، تتشابه في مجملها، ولا تختلف في تفاصيلها.. الخبر الأول: في محاولة لإيجاد موقع مشابه بموقع يوتيوب المشهور، أطلقت مجموعة من الإسلاميين السعوديين موقعاً مشابهاً ويحتوي على مضامين "خالية من المحاذير الشرعية"، على حد وصفهم، وعرّف الشباب السعوديون موقعهم بأنه موقع يهدف لنشر مقاطع اليوتيوب الخالية من المحاذير الشرعية على منهج أهل السنة والجماعة، عن طريق نقل روابط المقاطع بطريقة النسخ واللصق من موقع يوتيوب إلى موقع اليويتوب النقي؛ مما يمنح المتابع: بيئة نظيفة، ومشاهدة مفيدة". الخبر الثاني: أحدث محرك بحث أطلق مؤخرا على شبكة الإنترنت، والذي يعتبر أكبر محرك بحث إسلامي على الشبكة، ويعتبر القائمون على محرك البحث الجديد، أنه "أول محرك بحث للأمة الإسلامية"، وأن نتائج البحث التي يظهرها مصدرها من أفضل محركات البحث على الشبكة مثل ياهو، وجوجل. ويجمع محرك البحث الجديد بين البحث "الحلال" على شبكة الإنترنت، وجمع الأموال للأعمال الخيرية، ويذهب 50 في المائة من تكاليف البحث عن كل كلمة إلى مؤسسات إسلامية متعددة. الخبر الثالث: في إطار المحاولات التي تقوم بها بعض الدول والحكومات وأيضا بعض الأشخاص، للحد من خطورة المواقع الإباحية، طالعتنا وسائل الإعلام العالمية منذ أيام قلائل بأخبار حول محرك البحث الجديد الذي يقوم بغربلة محتوى شبكة الإنترنت وفلترة ذلك من المواد والصور الفاضحة، وقد بدأ محرك البحث الجديد يحظى بإقبال كبير من قبل المسلمين وعدد من غير المسلمين الذين يخشون على أبنائهم زيارة مواقع وتصفح صفحات إباحية تتعارض مع القيم والأخلاق. على الفور تداعت في ذاكرتي صورة د. (أحمد خالد توفيق) في مقاله الأخير عنه، هو الذي يمارس الكتابة في المنزل، وليس مكاناً آخر.. وكيف يحاول السيطرة على طفلين شرهين لاستخدام الكمبيوتر، والإنترنت بالتبعية، وكيف أن طفلته الصغيرة كانت على وشك الوصول لأحد مواقع المنحرفين جنسياً، دونما قصد طبعاً.. اسمحوا لي أن أترك الرجل قليلاً، لأبحث في مكتبتي.. إمممم.. ليس هنا.. ربما في دولاب التلفاز.. ليس هنا أيضاً.. إذن بالتأكيد هو في الرف العلوي من الدولاب الآخر.. تماماً! ها هو ذا.. طبعة دار الهلال من الملحمة الإغريقية الخالدة: الإلياذة.. كانت هدية من صديقة عزيزة لشخص ما؛ لكنها وصلت مكتبتي بطريقة أو بأخرى.. المخضرمون منكم يعرفون أن طبعة دار الهلال تختلف عن طبعة أخبار اليوم (نسختي الشخصية) في أنها تحوي رسوماً ملونة لأشخاص الملحمة، والذين يتحلون بصفة سيئة نوعاً، وهي أنهم ليسوا مرسومين دائماً بملابسهم الكاملة! لا أعرف صاحب الرسوم حقيقة، لكن صديقتي العزيزة لجأت إلى حل بسيط ذي مغزى، فألصقت شرائح ورق أبيض بالسلوتيب فوق الرسوم العارية وشبه العارية، ولا أعرف إن كانت لجأت إلى هذا بناء على قناعتها الشخصية بعدم جواز مثل هذه الرسوم، أو حتى لا تتحمل ذنب رؤية صاحب الهدية لها، وال (احتمالات) المترتبة على ذلك! (ذكروني أن أرد الكتاب إليها في أقرب وقت ممكن) الأذكياء منكم توصلوا لموضوع هذه الحلقة.. الرقابة! يقول د. (أحمد خالد توفيق): ضع ثلاثة أشخاص على جزيرة، وستجد أنه تكون لديك مجتمع وقانون ورقابة! ولا زلت أتذكر رده على إحدى قارئاته، حين حكت له عن البائع الذي رفض أن يبيعها ديوان شعر ل (طاغور)، ليس لأنه يحوي مواداً إباحية؛ وإنما لأنه لا يعتقد أنها –القارئة– قادرة على فهم (طاغور) بعد! قال لها د. (أحمد): إن هذا البائع يمارس نوعاً مبتكراً من الرقابة: رقابة الفهم! ولا أعرف لمَ تداعت إلى ذهني كل الأفكار السابقة بمجرد قراءتي لكل خبر من الثلاثة؟.. وتذكرت أيضاً لقاءً تلفزيونياً كنت -مع مجموعة من أصدقائي– ضيفاً فيه، وكان يناقش القضية ذاتها –الرقابة على الإنترنت– وخرجت وقتها مقتنعاً بوجهة النظر القائلة: ما لا يُدرك كله لا يُترك كله.. أي أن الأشياء التي لا يمكننا إحكام السيطرة عليها بشكل كامل، لا يمكننا أيضاً أن نترك بابها مفتوحاً بشكل كامل..
لكنني في مراجعة لقناعاتي السابقة، أجدني أمام تساؤلين على درجة من الأهمية: أولاً: ما هي هذه الأشياء؟ ثانياً: كيف نقف منها ذلك الموقف الوسط المفترض؟ المشكلة الواضحة جداً، أن القائمين على تلك المواقع، قد حصروا مفاهيمهم الرقابية في مفردة واحدة هي "الجنس"، وهذا يعطي دلالات على قصور الفهم.. قارن بين هذا المفهوم، وبين قائمة المحتويات التي قد ترغب في حجبها، وهو الاختيار الموجود ضمن مجموعة خيارات متصفح الإنترنت Internet Explorer لتجد التالي: المحتويات المخيفة والمرعبة. محتويات القدوة السيئة للصغار. محتويات وصف استخدام الكحوليات والمخدرات والتدخين. محتويات عن القمار واستخدام الأسلحة. محتويات التعصب والتحريض. ثم ”أخيراً" تأتي محتويات العري والجنس. ولا أعتقد أنني بحاجة لمزيد من الشرح للفارق بين فهمنا المحدود للمواد التي تشكل خطراً على متصفحي الإنترنت، وبين المفهوم الأوسع الذي يعتنقه الآخرون.. النقطة الثانية التي أريد الإشارة إليها: أنه في عالم الإنترنت والتجارة الإلكترونية، لا أستبعد أن تعطي هذه المواقع دلالات تجارية أيضاً، من منطق "الزبون عايز كده".. الزبون في بلداننا العربية والإسلامية يرغب –جدياً أو شكلياً– في أن يكون ملتزماً، والمثال الأقرب للذاكرة هو الإصدار الإسلامي من محمول نوكيا N73 ، وقس على ذلك انتشار موضة أسلمة الأشياء.. الهاتف الإسلامي.. المايوه الشرعي.. الكولا الإسلامية.. الويندوز الإسلامي (نسخة ويندوز معدلة إسلامياً!)، وحتى القنوات الإسلامية التي تأخذك للجنة وأنت على مقعدك؛ بينما يستمر الإعلان الواحد فيها ربما مدة برنامج كامل.. الغريب أن كل هذه المنتجات (الإسلامية) -إما أنها هي نفسها أو أن التقنية المستخدمة فيها- مستوردة من الدول ال (كافرة)! حتى المواقع الثلاثة التي نحن بصددها في قراءة الأخبار السابقة أعلاه، فأحدها موقع يعتمد في نتائجه على محركي بحث (جوجل) و(ياهو) والآخر يعتمد على نسخ ولصق الوصلات من موقع (يوتيوب) الأصلي، والأخير قامت بتنفيذه شركة هولندية.. هؤلاء الأشخاص بارعون بحق.. وقد تجاوزوا منذ زمن مرحلة إشباع الاحتياجات الفعلية لدى المستهلكين، لمرحلة خلق احتياجات لا توجد أصلاً لديهم، ومن ثم العمل على إشباعها أيضاً، ولو بطريقة غير مجدية وغير فعالة.. لذلك لا أجد مانعاً من افتراض كون تلك المواقع مجرد (سبوبة) أخرى؛ دعك من أنني أعاني حساسية من تلك المواقع التي تلعب على وتر الأعمال الخيرية، والثواب الذي تكسبه بضغطة زر؛ ولكن المشكلة الحقيقية هي وجود ثغرات واسعة بها، مكنتني من الوصول إلى الكثير من المواقع التي يفترض أنها (حرام)، باستخدام مفردات بسيطة، ومباشرة كذلك، وأنا لست خبيراً تقنياً؛ لكنني أعتقد أنهم يستخدمون ذات الطريقة التي تعمل بها كثير من برامج الحماية المماثلة، والتي تتلخص في وجود قاعدة بيانات تحتوي على مفردات معينة، ويقوم البرنامج بحجب المواقع التي تحوي هذه المفردات؛ لكن هنا فمحرك البحث يكتفي بعدم وجود هذه المفردات في الكلمات التي تبحث عنها فقط، دون محتوى المواقع التي تظهر في النتائج؛ الأمر الذي ينفي جدية تلك المواقع في أداء الوظيفة التي يفترض بها أداؤها.. إذن نحن نعود من ذات النقطة التي ابتدأنا منها.. ما دمنا نعتمد بالأساس على المواقع ذاتها التي تحوي ال (حرام)، وما دامت مواقعنا ال (حلال) لا يمكنها أن تكون حلالاً مائة بالمائة (دعنا من مفاهيم الحلال والحرام الآن) فما هو الحل؟ وأنا هنا لا أتحدث عن الأطفال ولا المراهقين.. هؤلاء أؤمن أنهم بحاجة إلى رقابة شخصية لصيقة؛ وإنما عن أشخاص ناضجين، لديهم الخيارات، ويملكون القدرة على الاختيار..
وفي البحث عن الحل، في تلك النقطة المحددة: البحث على الإنترنت، لا أملك إلا أن أضع نفسي أمام افتراضين: الأول: شخص (ليس بالضرورة منكمشاً في الظلام، تشتعل ألسنة اللهب من حوله) يفتح موقع (جوجل) ببساطة ليبحث عن الحرام؛ فيجده.. والثاني: شخص (وليس بالضرورة أيضاً أنه يرتدي الأبيض وتعلو رأسه هالة ملائكية) يفتح الموقع ذاته لينهي بحثاً دراسياً أو ليعرف نتائج تصفيات كأس العالم أو حتى أخبار الطقس ومواعيد السينمات.. الأول: سيجد هدفه ببساطة، وسيتجه إليه بكامل إرادته الحرة.. والثاني: سيجد هدفه أيضاً بذات البساطة، ولكنه ربما -وأكرر: ربما– تعثر بموقع يحيد بعيداً عن هذا الهدف، وهو في تلك الحالة أمام خيار من اثنين، إما أن يتجه إلى موقعه الأصلي، وإما أن يحيد.. وبكامل إرادته الحرة أيضاً.. والاحتمالات التي ربما تجعل الأول ينحرف إلى موقع (حلال) في بحثه، هي ذاتها التي ستجعل الأخير ينحرف إلى الموقع ال (حرام).. باختصار: الأمر في النهاية هو ما تريده وما تقرره أنت.. أرى أنكم لا زلتم تتساءلون عن الحل.. ولماذا يجب أن تنتهي كل مشكلة بحل؟! دعوني أصارحكم بأنه ما دمنا نتكلم عن كامل الإرادة الحرة، فلا أعتقد أن الحل سيبتعد عن تناول مقويات الإرادة.. وإن لم يكن؛ فأعتقد أن من حق الأول أيضاً أن يكون له محرك البحث الخاص به، والذي يؤدي به إلى ال (حرام) فقط، دون فرصة للحلال.. هكذا تكون المساواة!