قناة السويس تشهد عبور السفينة السياحية العملاقة AROYA وعلى متنها 2300 سائح    البنك المركزي: القطاع الخاص يستحوذ على 43.3% من قروض البنوك بنهاية النصف الأول من 2025    منال عوض: خطة شاملة للمحافظات للتعامل مع مخاطر الأمطار    عاجل- رئيس الوزراء: مصر ثابتة على مواقفها السياسية والإصلاح الاقتصادي مستمر رغم التحديات الإقليمية    بالفيديو.. ميسرة بكور: زيارة ترامب إلى لندن محاولة بريطانية لكسب الاستثمارات وتخفيف الضغوط السياسية    رئيس جامعة بنها يشهد ختام المهرجان الرياضي الثالث لجامعات الدلتا وإقليم القاهرة الكبرى    منحة يابانية لمشروع توفير سفينة دعم الغوص بقناة السويس    معاش للمغتربين.. التأمينات تدعو المصريين فى الخارج للاشتراك    نقيب المحامين يترأس جلسة حلف اليمين القانونية للأعضاء الجدد    تعرف على وسام إيزابيل لاكاتوليكا الممنوح من ملك إسبانيا للرئيس السيسي    مفتى الجمهورية: ما يجرى فى غزة جريمة حرب ووصمة عار على جبين العالم    أسطول الصمود المغاربي: 12 سفينة انطلقت من تونس إلى غزة من أصل 23    السعودية تندد بالعملية البرية الإسرائيلية في مدينة غزة    المستشار الألماني يطالب مواطنيه بالصبر على الإصلاحات وتحملها    الملك تشارلز يصطحب ترامب فى جولة فى قصر وندسور بعربة ملكية.. صور    كين ضد بالمر.. تعرف على التشكيل المتوقع لمباراة بايرن ميونخ ضد تشيلسي    وزير الرياضة يشهد احتفالية استقبال كأس الأمم الإفريقية في مصر    أسباب استبعاد أورس فيشر من قائمة المرشحين لتدريب الأهلي    بسبب الحرب على غزة.. إسبانيا تلمح لمقاطعة كأس العالم 2026    الداخلية تضبط شخصين سرقا أكسسوار سيارة وهربا بدراجة نارية بالإسكندرية    دفاع المجني عليه في قضية طفل المرور في محاكمته يطالب بتوقيع أقصى عقوبة على المتهمين    ضبط المتهم بذبح زوجته بسبب خلافات بالعبور.. والنيابة تأمر بحبسه    تأجيل محاكمة 7 متهمين قتلوا شخصا وشرعوا فى قتل 4 آخرين بالخانكة لديسمبر المقبل    تأجيل محاكمة المتهم بقتل زوجته بالبحيرة لجلسة 15 أكتوبر    126 متقدما لورشة إدارة المسرح والإنتاج بمهرجان إيزيس الدولي لمسرح المرأة    صفحة وزارة الأوقاف تحيى ذكرى ميلاد رائد التلاوة الشيخ محمود خليل الحصرى    فيلم فيها إيه يعنى بطولة ماجد الكدوانى يشهد الظهور الأخير للفنان سليمان عيد    اليوم الذكرى السنوية الثانية للفنان أشرف مصيلحى.. وزوجته تطلب الدعاء له    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 17سبتمبر2025 في المنيا    هل يجوز لى التصدق من مال زوجى دون علمه؟.. الأزهر للفتوى يجيب    «سكك حديد مصر» تتعاقد مع «APD» الكندية لإعادة تأهيل 180 جرارًا    محافظ أسوان يحيل شكاوى المواطنين من تدنى الخدمات بمركز طب الأسرة للتحقيق    الكشف على 1604 مواطنين فى القافلة الطبية المجانية بمركز بلقاس    وزير الري: الاعتماد على نهر النيل لتوفير الاحتياجات المائية بنسبة 98%    رئيس جامعة بنها يشهد ختام فعاليات المهرجان الرياضي الثالث    شاب يلقى مصرعه حرقًا بعد مشادة مع صديقه في الشرقية    فيديو - أمين الفتوى: تزييف الصور بالذكاء الاصطناعي ولو بالمزاح حرام شرعًا    خلال تصوير برنامجها.. ندى بسيوني توثق لحظة رفع علم فلسطين في هولندا    «عودة دي يونج».. قائمة برشلونة لمباراة نيوكاسل في دوري أبطال أوروبا    أيمن الشريعي: علاقة عبد الناصر محمد مع إنبي لم تنقطع منذ توليه مدير الكرة بالزمالك    وزارة العمل: 3701 فُرصة عمل جديدة في 44 شركة خاصة ب11 محافظة    مصر تطلق قافلة "زاد العزة" ال39 محملة ب1700 طن مساعدات غذائية وإغاثية إلى غزة    بإطلالة جريئة.. هيفاء وهبي تخطف الأنظار في أحدث ظهور.. شاهد    «عبداللطيف» يبحث مع وفد مجلس الشيوخ الفرنسي تعزيز التعاون المشترك في مجالي التعليم العام والفني    "جمعية الخبراء" تقدم 6 مقترحات للحزمة الثانية من التسهيلات الضريبية    محافظ قنا يفتتح مدرسة نجع الرماش الابتدائية بعد تطويرها بقرية كرم عمران    قبل بدء الدراسة.. تعليمات هامة من التعليم لاستقبال تلاميذ رياض الأطفال بالمدارس 2025 /2026    24 سبتمبر.. محاكمة متهم في التشاجر مع جاره وإحداث عاهة مستديمة بالأميرية    "البديل الذهبي" فلاهوفيتش يسرق الأضواء وينقذ يوفنتوس    «ليه لازم يبقى جزء من اللانش بوكس؟».. تعرفي على فوائد البروكلي للأطفال    صحة المرأة والطفل: الفحص قبل الزواج خطوة لبناء أسرة صحية وسليمة (فيديو)    حركة القطارات | 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الأربعاء 17 سبتمبر    منال الصيفي تحيي الذكرى الثانية لوفاة زوجها أشرف مصيلحي بكلمات مؤثرة (صور)    بتر يد شاب صدمه قطار في أسوان    مسلسل سلمى الحلقة 25 .. خيانة تكشف الأسرار وعودة جلال تقلب الموازين    بهدف ذاتي.. توتنام يفتتح مشواره في دوري الأبطال بالفوز على فياريال    توقعات الأبراج حظك اليوم الأربعاء 17 سبتمبر 2025.. الأسد: كلمة منك قد تغير كل شيء    أوقاف الفيوم تنظّم ندوات حول منهج النبي صلى الله عليه وسلم في إعانة الضعفاء.. صور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هادي زكاك والسؤال .. لماذا يجب أن نوثّق لأهالينا ؟
نشر في صوت البلد يوم 05 - 06 - 2018

بدأ هادي زكاك مخرج ومُنتج فيلم «يا عمري» التسجيلي اللبناني الذي عرُض أخيراً بسينما «زاوية» (وسط القاهرة)، تصوير جدته– بشجاعة حقيقية– في التسعينات من القرن الماضي، أيام لم يكن هناك آي فون، مستخدماً كاميرا الفيديو وكاميرا الفوتوغرافيا العادية. منذ كان مراهقاً كان هادي يُصوِّر قبل أن يعرف حتى ماذا سيفعل بهذه السلسلة الطويلة من اللحظات المُحنَّطة.
ساعتها كان بإمكان هنرييت– الجدة- أن تحكي حياتها في شكل مُرتب. كيف نشأت في عائلة فقدت الابن مبكراً في باريس (ألبير مسعد) شقيقها الذي كان يعمل على اختراع مادة لمنع احتراق الأفلام. وهي لم تكبر أصلاً في بيروت بل في البرازيل، على رمال ريو دي جنيرو الساحرة. كانت هناك أجمل أيام حياة هنرييت، التي تتحدث الفرنسية والإنكليزية والبرتغالية بطلاقة. تعلمت الجدة اللغة العربية متأخراً جداً في حياتها، عندما أعادها الأب إلى بيروت، وأجبرها الطريق على اعتبار ريو دي جنيرو مرحلة وفاتت. كانت هنرييت تحكي عن هذه الأيام للحفيد، قبل حتى أن تتلبسه جنيّة التصوير، فقد ورث هادي هوس الحفظ نفسه من الجد ألبير، قبل أن يتعلم الإمساك بالكاميرا ومُلاحقة هنرييت كان يكتب ما تقول، اِنكَبَّ على تدوينه بإخلاص في يومياته المبكرة وهو طفل.
لكن «يا عمري» لا يبدأ بهذه اللحظة، لا التدوين ولا الحكي، إنه يبدأ بهنرييت تتكلم إلى الحاسب المحمول (في الواقع إلى الكاميرا) وتحاول أن تتعرف على مُحدِّثها. لم أكن قد شاهدت إعلان الفيلم قبل أن أبتاع التذكرة، وكل ما كنت قد رأيته منه هو ملصق الفيلم وهو- كما يمكنكم الإطلاع عليه هنا مع المقال- صورة رائعة لهنرييت في شبابها لوحة تشبه فيها أسمهان. وبالتالي فقد تلقيت حيرة هنرييت مع مُحدِّثها وهي تُعيد وتزيد في سؤالها عن هويته كما سيتلقاها الجميع في البداية بالضحك. هنرييت خفيفة الظل، وهي لا تراوغ كما سنعرف فيما بعد حين ترّد على سؤال الكاميرا عن سنها بأنها لا تعرف كم هو بالضبط، ونحن حتى هذه اللحظة مثلها لم نكن نعرف.
يمضي زكاك في توليف اللحظات التي سجلها لهنرييت من قبل، ويُعلمنا من خلال التعليقات المكتوبة أن الجدّة تبلغ من العمر 102 عاماً، هي أيضاً ستتعجب من هذا الرقم وتسأل محدّثها المجهول بالنسبة إليها، والذي يخبرها أنه حفيدها: 102 سنة وبعدني ما مت؟ وبعدني بحكي.
فكرة الجَدّة
تعتبر النظرية الروحية أن الأسلاف يمدون الأجيال الأحدث بالطاقة والعون والإرشاد، هذا أيضاً ما يؤمن به هادي زكاك، أستاذ المسرح والسينما المشغول بفكرة الأجداد، هو الذي له أعمال أخرى أيضاً توثق لحالات في تاريخ لبنان كعمله «كمال جنبلاط الشاهد والشهادة»، وهنا بالضبط أهم أسباب رغبته في تصوير جدته هنرييت.
طوال الفيلم يمارس هادي حالة من حالات التنحي العاطفي، أن امرأة طاعنة في السن فقدت ثلاثة أرباع ذاكرتها وتحتفظ فقط بمشاعر المرحلة الأجمل من حياتها (أيام كانت تعيش في البرازيل)، لا يمكنها أن تتحرك خارج حدود غرفتها، والكاميرا التي تلازمها عليها مثلها ألا تبرح هذا المُربع الضيق. وهكذا تُناوِل الكاميرا- هادي- هنرييت صورها وهي شابة، وتتفرج على انطباعاتها. تقول له ببساطة: حلوة. واصفةَ نفسها في الصورة كما لو أنها امرأة أخرى. لقد صارت فعلاً كياناً آخر أشبه بالأطفال.
كتلة هائشة من المشاعر والقليل جداً من الذاكرة (يصل الأطفال إلى العالم بلا ذاكرة أيضاً).
يسأل هادي هنرييت وقد صار معتاداً على كونه مجهولاً بالنسبة لها مرة عاشرة: قد إيه عُمرك؟ فتُجيبه دون أن تُعيره أي اهتمام كأنها تُغني: ألف ويمكن ألفين أو ثلاثة.
وبينما كانت هنرييت تُجيب، وبينما نستمع معها إلى إجاباتها كانت تأتي موسيقى التانغو الخفيفة من بعيد، وهادي يقرأ لها ما دوّنه في صباه على ورق مذكراته لما كانت هي قد حكته له، عن رقصها للتانغو أيام الشباب، وعن ارتباطها بعاشق قديم فسد مشروع خطبته لها بسبب العائلة.
تستمع هنرييت إليه الآن وتسأله بلهفة إذا ما كانت قد تزوجت هذا العاشق بالتحديد، وتُصاب بالخيبة حين يُجيبها بالنفي تسأل عن مصيره من بعدها لتُفاجأ بموته ثم تشيح مرة أخرى غير مهتمة.
يستعير هادي بهنرييت أقدم تروي عن بيتها الذي نسفته الحرب وتحتفظ له ببضع صور بينما تشعر هنرييت ثالثة بالحنين وهي تطالع الفوتوغرافيا ولا تسأل عن مصدر هذا الحنين، تستمع بحياد إلى قصة زواجها بأنطوان جد هادي، قصة بدأت بتناولها لطعام حار أعده لها رغبة في إغاظتها قبل أن يصل إلى بيت أهلها ويطلب يدها. يقرأ هادي لهنرييت الكلمة الأخيرة فتسأله ببراءة: شو يعني طلب إيدي؟
أخلاقيات التوثيق العائلي
الهوس بالتصوير لا يعكس أي فكرة كما يعكس الاعتراف بالزوال، خصوصاً لمّا يتعلق الأمر بأحبائنا، ومن أجيال غير أجيالنا، في الحقيقة على عكس ما يبدو صوت هادي في الفيلم، كان الحفيد متعلقاً جداً ب «ستّه» (جدته)، وهو يعترف في أحد الحوارات التلفزيونية معه، أنه قرر توليف الفيلم كي يستعيدها من ذلك النسيان، فقدان الذاكرة التام الذي كان يؤلمه بشدة، لهذا كان هادي مأخوذاً بفعل رواية الماضي عليها، وقد واصله على رغم أنه لم يجذبها، مع الوقت صارت هنرييت متبصرة بشيء واحد هو الشعور، ما يُعجبها لحظياً في قصصها القديمة هو دائماً العواطف، ليس ما حققته ولا ما فقدته مادياً، موقف هنرييت السياسي مثلاً هو موقف إنساني بالأساس» كلهم كذابين... كلهم حرامية» وهو موقف كما وصف أحد المتحاورين مع هادي، ما زال صالحاً لتلخيص الحياة السياسية في الدول العربية.
كان هادي يري أن استعادة تاريخ جدته، بإعادة بناء الماضي أمامها يعني أولاً أنها لم ترحل، وثانياً لأنها تمثل قسطاً من تاريخ لبنان بهذا الغدو والرواح بين الدول، أخلص هادي لعاطفته تجاه جدّته، وهذا هو المبرر الأخلاقي الأبرز للتصوير، كأنه يحوِّل الإشكالية الشرقية التي تجد في جسد المرأة عورة إلى إشكالية حياة أو موت.
وهو يعترف أنه في سبيل إنجاز هذا الفيلم، أخيراً بعد أن عرف سكة الأفلام قد استغنى عن صور وتسجيلات ولقطات، وأنه لم يجرؤ قط على تصوير ساعات احتضار هنرييت، لأنه لم يستطع الإفلات من قسوتها الساحقة.
لم يستغل هادي البيرسونا المُحببة لهنرييت كما ظهرت في أيامها الأخيرة، إنما أراد شيئاً أبعد من ذلك بكثير.
موت هنرييت
فيلم «يا عمري» منسوج أصلاً من المُخيّلة. كما ذكرتُ يدور الفيلم تقريباً بين أربعة جدران وصور ومقاطع فيديو، والحياة الشاسعة في الماضي لهرنييت هي حياة نراها كما نقرأ في الروايات بالإحساس وليس بعيوننا، يعني أننا لم نشاهد هنرييت الطفلة تعيش في البرازيل، لكننا نشعر أننا عشنا معها هناءها الذي ما عاد بإمكانها الرواية عنه لكنها ما زالت تلعن نفسها قائلة: يقطع عمري شو رجعني على بيروت؟ هكذا جعل هادي من موت هنرييت في نهاية الفيلم حدثاً شخصياً مؤلماً ومؤسفاً للمتفرجين بقدر ما توجّع هو لفراقها، كنت أتمنى أن تظل هنرييت حية، وأن تشاهد الفيلم مع جمهوره، كما حدث لمختار يونس في عمل ابنته التسجيلي «هدية من الماضي» الذي عُرض العام الماضي في سينما «زاوية» أيضاً، لا أكفّ عن تخيل هنرييت في لحظاتها الأخيرة غير مبالية بملاك الموت وساخرة منه، مُعيدةَ إليه وديعة الحياة كما نتصورها بسلام.
بدأ هادي زكاك مخرج ومُنتج فيلم «يا عمري» التسجيلي اللبناني الذي عرُض أخيراً بسينما «زاوية» (وسط القاهرة)، تصوير جدته– بشجاعة حقيقية– في التسعينات من القرن الماضي، أيام لم يكن هناك آي فون، مستخدماً كاميرا الفيديو وكاميرا الفوتوغرافيا العادية. منذ كان مراهقاً كان هادي يُصوِّر قبل أن يعرف حتى ماذا سيفعل بهذه السلسلة الطويلة من اللحظات المُحنَّطة.
ساعتها كان بإمكان هنرييت– الجدة- أن تحكي حياتها في شكل مُرتب. كيف نشأت في عائلة فقدت الابن مبكراً في باريس (ألبير مسعد) شقيقها الذي كان يعمل على اختراع مادة لمنع احتراق الأفلام. وهي لم تكبر أصلاً في بيروت بل في البرازيل، على رمال ريو دي جنيرو الساحرة. كانت هناك أجمل أيام حياة هنرييت، التي تتحدث الفرنسية والإنكليزية والبرتغالية بطلاقة. تعلمت الجدة اللغة العربية متأخراً جداً في حياتها، عندما أعادها الأب إلى بيروت، وأجبرها الطريق على اعتبار ريو دي جنيرو مرحلة وفاتت. كانت هنرييت تحكي عن هذه الأيام للحفيد، قبل حتى أن تتلبسه جنيّة التصوير، فقد ورث هادي هوس الحفظ نفسه من الجد ألبير، قبل أن يتعلم الإمساك بالكاميرا ومُلاحقة هنرييت كان يكتب ما تقول، اِنكَبَّ على تدوينه بإخلاص في يومياته المبكرة وهو طفل.
لكن «يا عمري» لا يبدأ بهذه اللحظة، لا التدوين ولا الحكي، إنه يبدأ بهنرييت تتكلم إلى الحاسب المحمول (في الواقع إلى الكاميرا) وتحاول أن تتعرف على مُحدِّثها. لم أكن قد شاهدت إعلان الفيلم قبل أن أبتاع التذكرة، وكل ما كنت قد رأيته منه هو ملصق الفيلم وهو- كما يمكنكم الإطلاع عليه هنا مع المقال- صورة رائعة لهنرييت في شبابها لوحة تشبه فيها أسمهان. وبالتالي فقد تلقيت حيرة هنرييت مع مُحدِّثها وهي تُعيد وتزيد في سؤالها عن هويته كما سيتلقاها الجميع في البداية بالضحك. هنرييت خفيفة الظل، وهي لا تراوغ كما سنعرف فيما بعد حين ترّد على سؤال الكاميرا عن سنها بأنها لا تعرف كم هو بالضبط، ونحن حتى هذه اللحظة مثلها لم نكن نعرف.
يمضي زكاك في توليف اللحظات التي سجلها لهنرييت من قبل، ويُعلمنا من خلال التعليقات المكتوبة أن الجدّة تبلغ من العمر 102 عاماً، هي أيضاً ستتعجب من هذا الرقم وتسأل محدّثها المجهول بالنسبة إليها، والذي يخبرها أنه حفيدها: 102 سنة وبعدني ما مت؟ وبعدني بحكي.
فكرة الجَدّة
تعتبر النظرية الروحية أن الأسلاف يمدون الأجيال الأحدث بالطاقة والعون والإرشاد، هذا أيضاً ما يؤمن به هادي زكاك، أستاذ المسرح والسينما المشغول بفكرة الأجداد، هو الذي له أعمال أخرى أيضاً توثق لحالات في تاريخ لبنان كعمله «كمال جنبلاط الشاهد والشهادة»، وهنا بالضبط أهم أسباب رغبته في تصوير جدته هنرييت.
طوال الفيلم يمارس هادي حالة من حالات التنحي العاطفي، أن امرأة طاعنة في السن فقدت ثلاثة أرباع ذاكرتها وتحتفظ فقط بمشاعر المرحلة الأجمل من حياتها (أيام كانت تعيش في البرازيل)، لا يمكنها أن تتحرك خارج حدود غرفتها، والكاميرا التي تلازمها عليها مثلها ألا تبرح هذا المُربع الضيق. وهكذا تُناوِل الكاميرا- هادي- هنرييت صورها وهي شابة، وتتفرج على انطباعاتها. تقول له ببساطة: حلوة. واصفةَ نفسها في الصورة كما لو أنها امرأة أخرى. لقد صارت فعلاً كياناً آخر أشبه بالأطفال.
كتلة هائشة من المشاعر والقليل جداً من الذاكرة (يصل الأطفال إلى العالم بلا ذاكرة أيضاً).
يسأل هادي هنرييت وقد صار معتاداً على كونه مجهولاً بالنسبة لها مرة عاشرة: قد إيه عُمرك؟ فتُجيبه دون أن تُعيره أي اهتمام كأنها تُغني: ألف ويمكن ألفين أو ثلاثة.
وبينما كانت هنرييت تُجيب، وبينما نستمع معها إلى إجاباتها كانت تأتي موسيقى التانغو الخفيفة من بعيد، وهادي يقرأ لها ما دوّنه في صباه على ورق مذكراته لما كانت هي قد حكته له، عن رقصها للتانغو أيام الشباب، وعن ارتباطها بعاشق قديم فسد مشروع خطبته لها بسبب العائلة.
تستمع هنرييت إليه الآن وتسأله بلهفة إذا ما كانت قد تزوجت هذا العاشق بالتحديد، وتُصاب بالخيبة حين يُجيبها بالنفي تسأل عن مصيره من بعدها لتُفاجأ بموته ثم تشيح مرة أخرى غير مهتمة.
يستعير هادي بهنرييت أقدم تروي عن بيتها الذي نسفته الحرب وتحتفظ له ببضع صور بينما تشعر هنرييت ثالثة بالحنين وهي تطالع الفوتوغرافيا ولا تسأل عن مصدر هذا الحنين، تستمع بحياد إلى قصة زواجها بأنطوان جد هادي، قصة بدأت بتناولها لطعام حار أعده لها رغبة في إغاظتها قبل أن يصل إلى بيت أهلها ويطلب يدها. يقرأ هادي لهنرييت الكلمة الأخيرة فتسأله ببراءة: شو يعني طلب إيدي؟
أخلاقيات التوثيق العائلي
الهوس بالتصوير لا يعكس أي فكرة كما يعكس الاعتراف بالزوال، خصوصاً لمّا يتعلق الأمر بأحبائنا، ومن أجيال غير أجيالنا، في الحقيقة على عكس ما يبدو صوت هادي في الفيلم، كان الحفيد متعلقاً جداً ب «ستّه» (جدته)، وهو يعترف في أحد الحوارات التلفزيونية معه، أنه قرر توليف الفيلم كي يستعيدها من ذلك النسيان، فقدان الذاكرة التام الذي كان يؤلمه بشدة، لهذا كان هادي مأخوذاً بفعل رواية الماضي عليها، وقد واصله على رغم أنه لم يجذبها، مع الوقت صارت هنرييت متبصرة بشيء واحد هو الشعور، ما يُعجبها لحظياً في قصصها القديمة هو دائماً العواطف، ليس ما حققته ولا ما فقدته مادياً، موقف هنرييت السياسي مثلاً هو موقف إنساني بالأساس» كلهم كذابين... كلهم حرامية» وهو موقف كما وصف أحد المتحاورين مع هادي، ما زال صالحاً لتلخيص الحياة السياسية في الدول العربية.
كان هادي يري أن استعادة تاريخ جدته، بإعادة بناء الماضي أمامها يعني أولاً أنها لم ترحل، وثانياً لأنها تمثل قسطاً من تاريخ لبنان بهذا الغدو والرواح بين الدول، أخلص هادي لعاطفته تجاه جدّته، وهذا هو المبرر الأخلاقي الأبرز للتصوير، كأنه يحوِّل الإشكالية الشرقية التي تجد في جسد المرأة عورة إلى إشكالية حياة أو موت.
وهو يعترف أنه في سبيل إنجاز هذا الفيلم، أخيراً بعد أن عرف سكة الأفلام قد استغنى عن صور وتسجيلات ولقطات، وأنه لم يجرؤ قط على تصوير ساعات احتضار هنرييت، لأنه لم يستطع الإفلات من قسوتها الساحقة.
لم يستغل هادي البيرسونا المُحببة لهنرييت كما ظهرت في أيامها الأخيرة، إنما أراد شيئاً أبعد من ذلك بكثير.
موت هنرييت
فيلم «يا عمري» منسوج أصلاً من المُخيّلة. كما ذكرتُ يدور الفيلم تقريباً بين أربعة جدران وصور ومقاطع فيديو، والحياة الشاسعة في الماضي لهرنييت هي حياة نراها كما نقرأ في الروايات بالإحساس وليس بعيوننا، يعني أننا لم نشاهد هنرييت الطفلة تعيش في البرازيل، لكننا نشعر أننا عشنا معها هناءها الذي ما عاد بإمكانها الرواية عنه لكنها ما زالت تلعن نفسها قائلة: يقطع عمري شو رجعني على بيروت؟ هكذا جعل هادي من موت هنرييت في نهاية الفيلم حدثاً شخصياً مؤلماً ومؤسفاً للمتفرجين بقدر ما توجّع هو لفراقها، كنت أتمنى أن تظل هنرييت حية، وأن تشاهد الفيلم مع جمهوره، كما حدث لمختار يونس في عمل ابنته التسجيلي «هدية من الماضي» الذي عُرض العام الماضي في سينما «زاوية» أيضاً، لا أكفّ عن تخيل هنرييت في لحظاتها الأخيرة غير مبالية بملاك الموت وساخرة منه، مُعيدةَ إليه وديعة الحياة كما نتصورها بسلام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.