رابط التقديم الإلكتروني ل تنسيق الصف الأول الثانوي 2025.. مرحلة ثانية (الحد الأدني ب 6 محافظات)    جنوب القاهرة للكهرباء تتنصل من أزمة انقطاع التيار بالجيزة وتحمل شركات النقل مسئولية الإهمال    عراقجي بعد تهديد ترامب: ردنا سيكون حاسما ومكشوفًا للعالم على عكس الضربات السابقة    تحرك الفوج الثالث من شاحنات المساعدات لغزة باتجاه معبر كرم أبو سالم    القبض على رمضان صبحي بمطار القاهرة أثناء العودة من تركيا وتسليمه إلى مديرية أمن الجيزة    مستقبله ضاع، العقوبات المتوقعة على رمضان صبحي بعد القبض عليه بمطار القاهرة    آخر أيام الجحيم، الأرصاد تزف بشرى عن انكسار الموجة الحارة، انخفاض درجات الحرارة بدءا من الغد، وتحذر من رياح وأمطار ورمال    تفاصيل القبض على رمضان صبحي في مطار القاهرة (إنفوجراف)    راغب علامة يودّع زياد الرحباني بكلمات مؤثرة: «كأن الزمن أطفأ آخر شمعة»    ضربة مزدوجة ل «سعر الذهب عالميًا».. هبوط لأدنى مستوى في 3 أسابيع (اتفاق ترامب الأوروبي أحد الأسباب)    «هيعمل عمليات صعبة».. خالد الغندور يكشف تطورات حالة حسن شحاتة    بفرمان من ريبيرو.. الأهلي يتراجع عن صفقته الجديدة.. شوبير يكشف    شعبة الذهب: لا طفرات سعرية قادمة.. والاتفاق الأمريكي الأوروبي سيؤدي للعزوف عن الشراء    "نيويورك تايمز": 5 قتلى بإطلاق نار في مبنى وسط مانهاتن بولاية نيويورك    ضياء رشوان: الأصوات المشككة لن تسكت.. والرئيس السيسي قال ما لم يقله أحد من الزعماء العرب    مصرع 30 شخصًا في العاصمة الصينية بكين جراء الأمطار الغزيرة    رئيس الإسماعيلي يعلق على أزمات النادي المتكررة    من «ظلمة» حطام غزة إلى «نور» العلم فى مصر    المرحلة الأولي 2025 أدبي.. مؤشرات تنسيق الثانوية العامة (الألسن 84.26%)    «رجب»: احترام العقود والمراكز القانونية أساس بناء الثقة مع المستثمرين    رسميًا.. موعد بداية العام الدراسي الجديد 2026 بالمدارس الرسمية والدولية والجامعات    سفير تركيا: خريجو مدرسة السويدي للتكنولوجيا يكتسبون مهارات قيّمة    وصول قطار الأشقاء السودانيين إلى محطة السد العالى بأسوان.. صور    يوسف معاطي: «سمير غانم بيضحك ودمه خفيف أكتر من عادل إمام»    رامز جلال يتصدر تريند جوجل بعد إعلان موعد عرض فيلمه الجديد "بيج رامي"    سكان الجيزة بعد عودة انقطاع الكهرباء والمياه: الحكومة بتعذبنا والقصة مش قصة كابلات جديدة    وزير الخارجية: العالم يصمت عن الحق في قطاع غزة صمت الأموات وإسرائيل تغتال الأطفال بشكل يومي    تحت عنوان «إتقان العمل».. أوقاف قنا تعقد 126 قافلة دعوية    نشرة التوك شو| الوطنية للانتخابات تعلن جاهزيتها لانتخابات الشيوخ وحقيقة فرض رسوم على الهواتف بأثر رجعي    "إحنا بنموت من الحر".. استغاثات من سكان الجيزة بعد استمرار انقطاع المياه والكهرباء    السيطرة على حريق بمولدات كهرباء بالوادي الجديد.. والمحافظة: عودة الخدمة في أقرب وقت- صور    تشييع جثماني طبيبين من الشرقية لقيا مصرعهما في حادث بالقاهرة    مرشح الجبهة الوطنية: تمكين الشباب رسالة ثقة من القيادة السياسية    بدء اختبارات مشروع تنمية المواهب بالتعاون بين الاتحادين الدولي والمصري لكرة القدم    من هو ريان الرحيمي لاعب البنزرتي الذي أشاد به ريبيرو؟    وزير الثقافة يشهد العرض المسرحي «حواديت» على مسرح سيد درويش بالإسكندرية    لا تليق بمسيرتي.. سميرة صدقي تكشف سبب رفضها لبعض الأدوار في الدراما    محمد معيط: العام المقبل سيشهد صرف شريحتين متبقيتين بقيمة تقارب 1.2 مليار دولار لكل شريحة    تشييع جثمانى طبيبين من الشرقية لقيا مصرعهما فى حادث على الدائرى.. صور    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية قبل بداية تعاملات الثلاثاء 29 يوليو 2025    الاندبندنت: ترامب يمنح ستارمر "الضوء الأخضر" للاعتراف بدولة فلسطينية    جوتيريش: حل الدولتين أصبح الآن أبعد من أي وقت مضى    في عامها الدراسي الأول.. جامعة الفيوم الأهلية تعلن المصروفات الدراسية للعام الجامعي 2025/2026    الأهلي يضغط على نجمه من أجل الرحيل.. إبراهيم عبدالجواد يكشف    صراع على السلطة في مكان العمل.. حظ برج الدلو اليوم 29 يوليو    حفل العيد القومى لمحافظة الإسكندرية من داخل قلعة قايتباى.. فيديو    محافظ سوهاج يوجه بتوفير فرصة عمل لسيدة كفيفة بقرية الصلعا تحفظ القرآن بأحكامه    للحماية من التهاب المرارة.. تعرف على علامات حصوات المرارة المبكرة    من تنظيم مستويات السكر لتحسين الهضم.. تعرف على فوائد القرنفل الصحية    لها مفعول السحر.. رشة «سماق» على السلطة يوميًا تقضي على التهاب المفاصل وتخفض الكوليسترول.    جامعة الإسماعيلية الجديدة الأهلية تُقدم خدماتها الطبية ل 476 مواطناً    حزب مستقبل وطن بالبحيرة يدعم المستشفيات بأجهزة طبية    "شوية مطبلاتية".. تعليق قوي من أحمد عبد القادر على أنباء فسخ تعاقده مع الأهلي    مي كساب بإطلالة جديدة باللون الأصفر.. تصميم جذاب يبرز قوامها    ما الوقت المناسب بين الأذان والإقامة؟.. أمين الفتوى يجيب    هل "الماكياج" عذر يبيح التيمم للنساء؟.. أمينة الفتوى تُجيب    إلقاء بقايا الطعام في القمامة.. هل يجوز شرعًا؟ دار الإفتاء توضح    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هادي زكاك والسؤال .. لماذا يجب أن نوثّق لأهالينا ؟
نشر في صوت البلد يوم 05 - 06 - 2018

بدأ هادي زكاك مخرج ومُنتج فيلم «يا عمري» التسجيلي اللبناني الذي عرُض أخيراً بسينما «زاوية» (وسط القاهرة)، تصوير جدته– بشجاعة حقيقية– في التسعينات من القرن الماضي، أيام لم يكن هناك آي فون، مستخدماً كاميرا الفيديو وكاميرا الفوتوغرافيا العادية. منذ كان مراهقاً كان هادي يُصوِّر قبل أن يعرف حتى ماذا سيفعل بهذه السلسلة الطويلة من اللحظات المُحنَّطة.
ساعتها كان بإمكان هنرييت– الجدة- أن تحكي حياتها في شكل مُرتب. كيف نشأت في عائلة فقدت الابن مبكراً في باريس (ألبير مسعد) شقيقها الذي كان يعمل على اختراع مادة لمنع احتراق الأفلام. وهي لم تكبر أصلاً في بيروت بل في البرازيل، على رمال ريو دي جنيرو الساحرة. كانت هناك أجمل أيام حياة هنرييت، التي تتحدث الفرنسية والإنكليزية والبرتغالية بطلاقة. تعلمت الجدة اللغة العربية متأخراً جداً في حياتها، عندما أعادها الأب إلى بيروت، وأجبرها الطريق على اعتبار ريو دي جنيرو مرحلة وفاتت. كانت هنرييت تحكي عن هذه الأيام للحفيد، قبل حتى أن تتلبسه جنيّة التصوير، فقد ورث هادي هوس الحفظ نفسه من الجد ألبير، قبل أن يتعلم الإمساك بالكاميرا ومُلاحقة هنرييت كان يكتب ما تقول، اِنكَبَّ على تدوينه بإخلاص في يومياته المبكرة وهو طفل.
لكن «يا عمري» لا يبدأ بهذه اللحظة، لا التدوين ولا الحكي، إنه يبدأ بهنرييت تتكلم إلى الحاسب المحمول (في الواقع إلى الكاميرا) وتحاول أن تتعرف على مُحدِّثها. لم أكن قد شاهدت إعلان الفيلم قبل أن أبتاع التذكرة، وكل ما كنت قد رأيته منه هو ملصق الفيلم وهو- كما يمكنكم الإطلاع عليه هنا مع المقال- صورة رائعة لهنرييت في شبابها لوحة تشبه فيها أسمهان. وبالتالي فقد تلقيت حيرة هنرييت مع مُحدِّثها وهي تُعيد وتزيد في سؤالها عن هويته كما سيتلقاها الجميع في البداية بالضحك. هنرييت خفيفة الظل، وهي لا تراوغ كما سنعرف فيما بعد حين ترّد على سؤال الكاميرا عن سنها بأنها لا تعرف كم هو بالضبط، ونحن حتى هذه اللحظة مثلها لم نكن نعرف.
يمضي زكاك في توليف اللحظات التي سجلها لهنرييت من قبل، ويُعلمنا من خلال التعليقات المكتوبة أن الجدّة تبلغ من العمر 102 عاماً، هي أيضاً ستتعجب من هذا الرقم وتسأل محدّثها المجهول بالنسبة إليها، والذي يخبرها أنه حفيدها: 102 سنة وبعدني ما مت؟ وبعدني بحكي.
فكرة الجَدّة
تعتبر النظرية الروحية أن الأسلاف يمدون الأجيال الأحدث بالطاقة والعون والإرشاد، هذا أيضاً ما يؤمن به هادي زكاك، أستاذ المسرح والسينما المشغول بفكرة الأجداد، هو الذي له أعمال أخرى أيضاً توثق لحالات في تاريخ لبنان كعمله «كمال جنبلاط الشاهد والشهادة»، وهنا بالضبط أهم أسباب رغبته في تصوير جدته هنرييت.
طوال الفيلم يمارس هادي حالة من حالات التنحي العاطفي، أن امرأة طاعنة في السن فقدت ثلاثة أرباع ذاكرتها وتحتفظ فقط بمشاعر المرحلة الأجمل من حياتها (أيام كانت تعيش في البرازيل)، لا يمكنها أن تتحرك خارج حدود غرفتها، والكاميرا التي تلازمها عليها مثلها ألا تبرح هذا المُربع الضيق. وهكذا تُناوِل الكاميرا- هادي- هنرييت صورها وهي شابة، وتتفرج على انطباعاتها. تقول له ببساطة: حلوة. واصفةَ نفسها في الصورة كما لو أنها امرأة أخرى. لقد صارت فعلاً كياناً آخر أشبه بالأطفال.
كتلة هائشة من المشاعر والقليل جداً من الذاكرة (يصل الأطفال إلى العالم بلا ذاكرة أيضاً).
يسأل هادي هنرييت وقد صار معتاداً على كونه مجهولاً بالنسبة لها مرة عاشرة: قد إيه عُمرك؟ فتُجيبه دون أن تُعيره أي اهتمام كأنها تُغني: ألف ويمكن ألفين أو ثلاثة.
وبينما كانت هنرييت تُجيب، وبينما نستمع معها إلى إجاباتها كانت تأتي موسيقى التانغو الخفيفة من بعيد، وهادي يقرأ لها ما دوّنه في صباه على ورق مذكراته لما كانت هي قد حكته له، عن رقصها للتانغو أيام الشباب، وعن ارتباطها بعاشق قديم فسد مشروع خطبته لها بسبب العائلة.
تستمع هنرييت إليه الآن وتسأله بلهفة إذا ما كانت قد تزوجت هذا العاشق بالتحديد، وتُصاب بالخيبة حين يُجيبها بالنفي تسأل عن مصيره من بعدها لتُفاجأ بموته ثم تشيح مرة أخرى غير مهتمة.
يستعير هادي بهنرييت أقدم تروي عن بيتها الذي نسفته الحرب وتحتفظ له ببضع صور بينما تشعر هنرييت ثالثة بالحنين وهي تطالع الفوتوغرافيا ولا تسأل عن مصدر هذا الحنين، تستمع بحياد إلى قصة زواجها بأنطوان جد هادي، قصة بدأت بتناولها لطعام حار أعده لها رغبة في إغاظتها قبل أن يصل إلى بيت أهلها ويطلب يدها. يقرأ هادي لهنرييت الكلمة الأخيرة فتسأله ببراءة: شو يعني طلب إيدي؟
أخلاقيات التوثيق العائلي
الهوس بالتصوير لا يعكس أي فكرة كما يعكس الاعتراف بالزوال، خصوصاً لمّا يتعلق الأمر بأحبائنا، ومن أجيال غير أجيالنا، في الحقيقة على عكس ما يبدو صوت هادي في الفيلم، كان الحفيد متعلقاً جداً ب «ستّه» (جدته)، وهو يعترف في أحد الحوارات التلفزيونية معه، أنه قرر توليف الفيلم كي يستعيدها من ذلك النسيان، فقدان الذاكرة التام الذي كان يؤلمه بشدة، لهذا كان هادي مأخوذاً بفعل رواية الماضي عليها، وقد واصله على رغم أنه لم يجذبها، مع الوقت صارت هنرييت متبصرة بشيء واحد هو الشعور، ما يُعجبها لحظياً في قصصها القديمة هو دائماً العواطف، ليس ما حققته ولا ما فقدته مادياً، موقف هنرييت السياسي مثلاً هو موقف إنساني بالأساس» كلهم كذابين... كلهم حرامية» وهو موقف كما وصف أحد المتحاورين مع هادي، ما زال صالحاً لتلخيص الحياة السياسية في الدول العربية.
كان هادي يري أن استعادة تاريخ جدته، بإعادة بناء الماضي أمامها يعني أولاً أنها لم ترحل، وثانياً لأنها تمثل قسطاً من تاريخ لبنان بهذا الغدو والرواح بين الدول، أخلص هادي لعاطفته تجاه جدّته، وهذا هو المبرر الأخلاقي الأبرز للتصوير، كأنه يحوِّل الإشكالية الشرقية التي تجد في جسد المرأة عورة إلى إشكالية حياة أو موت.
وهو يعترف أنه في سبيل إنجاز هذا الفيلم، أخيراً بعد أن عرف سكة الأفلام قد استغنى عن صور وتسجيلات ولقطات، وأنه لم يجرؤ قط على تصوير ساعات احتضار هنرييت، لأنه لم يستطع الإفلات من قسوتها الساحقة.
لم يستغل هادي البيرسونا المُحببة لهنرييت كما ظهرت في أيامها الأخيرة، إنما أراد شيئاً أبعد من ذلك بكثير.
موت هنرييت
فيلم «يا عمري» منسوج أصلاً من المُخيّلة. كما ذكرتُ يدور الفيلم تقريباً بين أربعة جدران وصور ومقاطع فيديو، والحياة الشاسعة في الماضي لهرنييت هي حياة نراها كما نقرأ في الروايات بالإحساس وليس بعيوننا، يعني أننا لم نشاهد هنرييت الطفلة تعيش في البرازيل، لكننا نشعر أننا عشنا معها هناءها الذي ما عاد بإمكانها الرواية عنه لكنها ما زالت تلعن نفسها قائلة: يقطع عمري شو رجعني على بيروت؟ هكذا جعل هادي من موت هنرييت في نهاية الفيلم حدثاً شخصياً مؤلماً ومؤسفاً للمتفرجين بقدر ما توجّع هو لفراقها، كنت أتمنى أن تظل هنرييت حية، وأن تشاهد الفيلم مع جمهوره، كما حدث لمختار يونس في عمل ابنته التسجيلي «هدية من الماضي» الذي عُرض العام الماضي في سينما «زاوية» أيضاً، لا أكفّ عن تخيل هنرييت في لحظاتها الأخيرة غير مبالية بملاك الموت وساخرة منه، مُعيدةَ إليه وديعة الحياة كما نتصورها بسلام.
بدأ هادي زكاك مخرج ومُنتج فيلم «يا عمري» التسجيلي اللبناني الذي عرُض أخيراً بسينما «زاوية» (وسط القاهرة)، تصوير جدته– بشجاعة حقيقية– في التسعينات من القرن الماضي، أيام لم يكن هناك آي فون، مستخدماً كاميرا الفيديو وكاميرا الفوتوغرافيا العادية. منذ كان مراهقاً كان هادي يُصوِّر قبل أن يعرف حتى ماذا سيفعل بهذه السلسلة الطويلة من اللحظات المُحنَّطة.
ساعتها كان بإمكان هنرييت– الجدة- أن تحكي حياتها في شكل مُرتب. كيف نشأت في عائلة فقدت الابن مبكراً في باريس (ألبير مسعد) شقيقها الذي كان يعمل على اختراع مادة لمنع احتراق الأفلام. وهي لم تكبر أصلاً في بيروت بل في البرازيل، على رمال ريو دي جنيرو الساحرة. كانت هناك أجمل أيام حياة هنرييت، التي تتحدث الفرنسية والإنكليزية والبرتغالية بطلاقة. تعلمت الجدة اللغة العربية متأخراً جداً في حياتها، عندما أعادها الأب إلى بيروت، وأجبرها الطريق على اعتبار ريو دي جنيرو مرحلة وفاتت. كانت هنرييت تحكي عن هذه الأيام للحفيد، قبل حتى أن تتلبسه جنيّة التصوير، فقد ورث هادي هوس الحفظ نفسه من الجد ألبير، قبل أن يتعلم الإمساك بالكاميرا ومُلاحقة هنرييت كان يكتب ما تقول، اِنكَبَّ على تدوينه بإخلاص في يومياته المبكرة وهو طفل.
لكن «يا عمري» لا يبدأ بهذه اللحظة، لا التدوين ولا الحكي، إنه يبدأ بهنرييت تتكلم إلى الحاسب المحمول (في الواقع إلى الكاميرا) وتحاول أن تتعرف على مُحدِّثها. لم أكن قد شاهدت إعلان الفيلم قبل أن أبتاع التذكرة، وكل ما كنت قد رأيته منه هو ملصق الفيلم وهو- كما يمكنكم الإطلاع عليه هنا مع المقال- صورة رائعة لهنرييت في شبابها لوحة تشبه فيها أسمهان. وبالتالي فقد تلقيت حيرة هنرييت مع مُحدِّثها وهي تُعيد وتزيد في سؤالها عن هويته كما سيتلقاها الجميع في البداية بالضحك. هنرييت خفيفة الظل، وهي لا تراوغ كما سنعرف فيما بعد حين ترّد على سؤال الكاميرا عن سنها بأنها لا تعرف كم هو بالضبط، ونحن حتى هذه اللحظة مثلها لم نكن نعرف.
يمضي زكاك في توليف اللحظات التي سجلها لهنرييت من قبل، ويُعلمنا من خلال التعليقات المكتوبة أن الجدّة تبلغ من العمر 102 عاماً، هي أيضاً ستتعجب من هذا الرقم وتسأل محدّثها المجهول بالنسبة إليها، والذي يخبرها أنه حفيدها: 102 سنة وبعدني ما مت؟ وبعدني بحكي.
فكرة الجَدّة
تعتبر النظرية الروحية أن الأسلاف يمدون الأجيال الأحدث بالطاقة والعون والإرشاد، هذا أيضاً ما يؤمن به هادي زكاك، أستاذ المسرح والسينما المشغول بفكرة الأجداد، هو الذي له أعمال أخرى أيضاً توثق لحالات في تاريخ لبنان كعمله «كمال جنبلاط الشاهد والشهادة»، وهنا بالضبط أهم أسباب رغبته في تصوير جدته هنرييت.
طوال الفيلم يمارس هادي حالة من حالات التنحي العاطفي، أن امرأة طاعنة في السن فقدت ثلاثة أرباع ذاكرتها وتحتفظ فقط بمشاعر المرحلة الأجمل من حياتها (أيام كانت تعيش في البرازيل)، لا يمكنها أن تتحرك خارج حدود غرفتها، والكاميرا التي تلازمها عليها مثلها ألا تبرح هذا المُربع الضيق. وهكذا تُناوِل الكاميرا- هادي- هنرييت صورها وهي شابة، وتتفرج على انطباعاتها. تقول له ببساطة: حلوة. واصفةَ نفسها في الصورة كما لو أنها امرأة أخرى. لقد صارت فعلاً كياناً آخر أشبه بالأطفال.
كتلة هائشة من المشاعر والقليل جداً من الذاكرة (يصل الأطفال إلى العالم بلا ذاكرة أيضاً).
يسأل هادي هنرييت وقد صار معتاداً على كونه مجهولاً بالنسبة لها مرة عاشرة: قد إيه عُمرك؟ فتُجيبه دون أن تُعيره أي اهتمام كأنها تُغني: ألف ويمكن ألفين أو ثلاثة.
وبينما كانت هنرييت تُجيب، وبينما نستمع معها إلى إجاباتها كانت تأتي موسيقى التانغو الخفيفة من بعيد، وهادي يقرأ لها ما دوّنه في صباه على ورق مذكراته لما كانت هي قد حكته له، عن رقصها للتانغو أيام الشباب، وعن ارتباطها بعاشق قديم فسد مشروع خطبته لها بسبب العائلة.
تستمع هنرييت إليه الآن وتسأله بلهفة إذا ما كانت قد تزوجت هذا العاشق بالتحديد، وتُصاب بالخيبة حين يُجيبها بالنفي تسأل عن مصيره من بعدها لتُفاجأ بموته ثم تشيح مرة أخرى غير مهتمة.
يستعير هادي بهنرييت أقدم تروي عن بيتها الذي نسفته الحرب وتحتفظ له ببضع صور بينما تشعر هنرييت ثالثة بالحنين وهي تطالع الفوتوغرافيا ولا تسأل عن مصدر هذا الحنين، تستمع بحياد إلى قصة زواجها بأنطوان جد هادي، قصة بدأت بتناولها لطعام حار أعده لها رغبة في إغاظتها قبل أن يصل إلى بيت أهلها ويطلب يدها. يقرأ هادي لهنرييت الكلمة الأخيرة فتسأله ببراءة: شو يعني طلب إيدي؟
أخلاقيات التوثيق العائلي
الهوس بالتصوير لا يعكس أي فكرة كما يعكس الاعتراف بالزوال، خصوصاً لمّا يتعلق الأمر بأحبائنا، ومن أجيال غير أجيالنا، في الحقيقة على عكس ما يبدو صوت هادي في الفيلم، كان الحفيد متعلقاً جداً ب «ستّه» (جدته)، وهو يعترف في أحد الحوارات التلفزيونية معه، أنه قرر توليف الفيلم كي يستعيدها من ذلك النسيان، فقدان الذاكرة التام الذي كان يؤلمه بشدة، لهذا كان هادي مأخوذاً بفعل رواية الماضي عليها، وقد واصله على رغم أنه لم يجذبها، مع الوقت صارت هنرييت متبصرة بشيء واحد هو الشعور، ما يُعجبها لحظياً في قصصها القديمة هو دائماً العواطف، ليس ما حققته ولا ما فقدته مادياً، موقف هنرييت السياسي مثلاً هو موقف إنساني بالأساس» كلهم كذابين... كلهم حرامية» وهو موقف كما وصف أحد المتحاورين مع هادي، ما زال صالحاً لتلخيص الحياة السياسية في الدول العربية.
كان هادي يري أن استعادة تاريخ جدته، بإعادة بناء الماضي أمامها يعني أولاً أنها لم ترحل، وثانياً لأنها تمثل قسطاً من تاريخ لبنان بهذا الغدو والرواح بين الدول، أخلص هادي لعاطفته تجاه جدّته، وهذا هو المبرر الأخلاقي الأبرز للتصوير، كأنه يحوِّل الإشكالية الشرقية التي تجد في جسد المرأة عورة إلى إشكالية حياة أو موت.
وهو يعترف أنه في سبيل إنجاز هذا الفيلم، أخيراً بعد أن عرف سكة الأفلام قد استغنى عن صور وتسجيلات ولقطات، وأنه لم يجرؤ قط على تصوير ساعات احتضار هنرييت، لأنه لم يستطع الإفلات من قسوتها الساحقة.
لم يستغل هادي البيرسونا المُحببة لهنرييت كما ظهرت في أيامها الأخيرة، إنما أراد شيئاً أبعد من ذلك بكثير.
موت هنرييت
فيلم «يا عمري» منسوج أصلاً من المُخيّلة. كما ذكرتُ يدور الفيلم تقريباً بين أربعة جدران وصور ومقاطع فيديو، والحياة الشاسعة في الماضي لهرنييت هي حياة نراها كما نقرأ في الروايات بالإحساس وليس بعيوننا، يعني أننا لم نشاهد هنرييت الطفلة تعيش في البرازيل، لكننا نشعر أننا عشنا معها هناءها الذي ما عاد بإمكانها الرواية عنه لكنها ما زالت تلعن نفسها قائلة: يقطع عمري شو رجعني على بيروت؟ هكذا جعل هادي من موت هنرييت في نهاية الفيلم حدثاً شخصياً مؤلماً ومؤسفاً للمتفرجين بقدر ما توجّع هو لفراقها، كنت أتمنى أن تظل هنرييت حية، وأن تشاهد الفيلم مع جمهوره، كما حدث لمختار يونس في عمل ابنته التسجيلي «هدية من الماضي» الذي عُرض العام الماضي في سينما «زاوية» أيضاً، لا أكفّ عن تخيل هنرييت في لحظاتها الأخيرة غير مبالية بملاك الموت وساخرة منه، مُعيدةَ إليه وديعة الحياة كما نتصورها بسلام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.