فتح باب التقدم لاختبارات الدبلومات والمعاهد الفنية لدخول كلية الحقوق والرابط الرسمي    نادية مصطفى لفيتو: احنا مش متطرفين ومصطفى كامل بيخاف على البلد (فيديو)    «زي النهارده» فى ‌‌30‌‌ يوليو ‌‌2011.. وفاة أول وزيرة مصرية    رغم إعلان حل الأزمة، استمرار انقطاع الكهرباء عن بعض مدن الجيزة لليوم الخامس على التوالي    ترامب يحذر من تسونامي في هاواي وألاسكا ويدعو الأمريكيين إلى الحيطة    وزير الخارجية يلتقي السيناتور ليندسى جراهام بمجلس الشيوخ الأمريكي    الاتحاد الإفريقي يصدم "الدعم السريع" بعد تشكيل حكومة موازية بالسودان ويوجه رسالة للمجتمع الدولي    مواعيد مباريات اليوم الأربعاء والقنوات الناقلة، أبرزها ليفربول ضد يوكوهاما    ثروت سويلم: لن يتكرر إلغاء الهبوط في الدوري المصري.. وخصم 6 نقاط فوري للمنسحبين    انهيار جزئي لعقار مكون من 7 طوابق في الدقي    من "ترند" الألبومات إلى "ترند" التكت، أسعار تذاكر حفل عمرو دياب بالعلمين مقارنة بتامر حسني    طريقة عمل الأرز باللبن، تحلية سريعة التحضير ولذيذة    البنك العربى الإفريقى يقود إصدار سندات توريق ب 4.7 مليار جنيه ل«تساهيل»    جدول مباريات بيراميدز في الدوري المصري الممتاز الموسم الجديد 2025-2026    "البترول" تتلقى إخطارًا باندلاع حريق في غرفة ماكينات مركب الحاويات PUMBA    عبداللطيف حجازي يكتب: الرهان المزدوج.. اتجاهات أردوغان لهندسة المشهد التركي عبر الأكراد والمعارضة    حظك اليوم الأربعاء 30 يوليو وتوقعات الأبراج    السيد أمين شلبي يقدم «كبسولة فكرية» في الأدب والسياسة    ليلى علوي تسترجع ذكريات «حب البنات» بصور من الكواليس: «كل الحب»    فلكيًا.. موعد بداية شهر رمضان 1447-2026    موعد إجازة المولد النبوي الشريف 2025 للقطاعين الحكومي والخاص    ترفع الرغبة الجنسية وتعزز المناعة.. 8 أطعمة ترفع هرمون الذكورة بشكل طبيعي    لا تتبع الوزارة.. البترول: السيطرة على حريق سفينة حاويات قرب منصة جنوب شرق الحمد    وزير الثقافة: جوائز الدولة هذا العام ضمت نخبة عظيمة.. ونقدم برنامجا متكاملا بمهرجان العلمين    4 أرغفة ب دينار.. تسعيرة الخبز الجديدة تغضب أصحاب المخابز في ليبيا    تنسيق الثانوية 2025.. ماذا تعرف عن دراسة "الأوتوترونكس" بجامعة حلوان التكنولوجية؟    تنسيق الجامعات 2025| كل ما تريد معرفته عن بكالوريوس إدارة وتشغيل الفنادق "ماريوت"    إبراهيم ربيع: «مرتزقة الإخوان» يفبركون الفيديوهات لنشر الفوضى    وفاة طالب أثناء أداء امتحانات الدور الثاني بكلية التجارة بجامعة الفيوم    القانون يحدد شروط لوضع الإعلانات.. تعرف عليها    متابعة تطورات حركة جماعة الإخوان الإرهابية مع الإعلامية آلاء شتا.. فيديو    الدقيقة بتفرق في إنقاذ حياة .. أعراض السكتة الدماغية    تنسيق الجامعات 2025 .. تفاصيل برامج كلية التجارة جامعة عين شمس (مصروفات)    يسمح ب«تقسيط المصروفات».. حكاية معهد السياحة والفنادق بعد قضية تزوير رمضان صبحي    إخماد حريق في محول كهرباء في «أبو النمرس» بالجيزة    منافسة غنائية مثيرة في استاد الإسكندرية بين ريهام عبد الحكيم ونجوم الموسيقى العربية.. صور    إنجاز غير مسبوق.. إجراء 52 عملية جراحية في يوم واحد بمستشفى نجع حمادي    أسامة نبيه يضم 33 لاعبا فى معسكر منتخب الشباب تحت 20 سنة    مصرع عامل اختل توازنه وسقط من أعلى سطح المنزل في شبين القناطر    أحمد فؤاد سليم: عشت مواجهة الخطر في الاستنزاف وأكتوبر.. وفخور بتجربتي ب "المستقبل المشرق"    الجنايني يتحدث عن مفاوضات عبد القادر.. وعرض نيوم "الكوبري" وصدمة الجفالي    ناشط فلسطيني: دور مصر مشرف وإسرائيل تتحمل انتشار المجاعة في غزة.. فيديو    رئيس مدينة الحسنة يعقد اجتماعا تنسيقيا تمهيدا للاستعداد لانتخابات الشيوخ 2025    رسميًا.. جدول صرف مرتبات شهر أغسطس 2025 بعد تصريحات وزارة المالية (تفاصيل)    عاجل- ترمب: زوجتي ميلانيا شاهدت الصور المروعة من غزة والوضع هناك قاس ويجب إدخال المساعدات    عمرو الجناينى: تفاجأت باعتزال شيكابالا.. ولم أتفاوض مع أحمد عبد القادر    «الجو هيقلب» .. بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم : أمطار وانخفاض «مفاجئ»    جدول امتحانات الثانوية العامة دور ثاني 2025 (اعرف التفاصيل)    ترامب: الهند ستواجه تعريفة جمركية تتراوح بين 20% و25% على الأرجح    عيار 21 الآن يسجل رقمًا جديدًا.. سعر الذهب اليوم الأربعاء 30 يوليو بعد الانخفاض بالصاغة    محمد السادس: المغرب مستعد لحوار صريح ومسؤول مع الجزائر    سبب غياب كريم فؤاد عن ودية الأهلي وإنبي وموعد عودته    الجنايني عن شروط عبدالله السعيد للتجديد مع الزمالك: "سيب اللي يفتي يفتي"    معلقة داخل الشقة.. جثة لمسن مشنوق تثير الذعر بين الجيران ببورسعيد    هل يُحاسب الطفل على الحسنات والسيئات قبل البلوغ؟.. واعظة تجيب    أمين الفتوى: الشبكة جزء من المهر يرد في هذه الحالة    ما الذي يُفِيدُه حديث النبي: (أفضل الأعمال الصلاة على وقتها)؟.. الإفتاء توضح    أمين الفتوى: مخالفات المرور الجسيمة إثم شرعي وليست مجرد تجاوز قانوني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتابة النص.. ما بين النّمو التلقائي والنّمو المُستَحدث
نشر في صوت البلد يوم 05 - 04 - 2018

أحيانا لا يتم التركيز على أشياء بعينها، أي لا يضع الشاعر له خلفية قبل بدء الإنتاج، ولربما أن تشتت الرؤى والأفكار يؤديان إلى تشتت الغرض الذي من أجله يُكتب النص. ولا شك أن هناك إيحاءات للذهن وإيحاءات بصرية وسمعية، وكلها قد تستقل بمعانيها أو يتداخل بعضها مع البعض في المضمون الافتراضي الذي يقرره كاتب النص سواء بالرمز أو بالإيحاء أو بالتسلل البطيء من قبل المتلقي للمعنى الأُحادي للتعبير، أو ما يسمى المعنى الخاص، وهو اعتقاد بأن النص الحداثوي لا بد أن يمر عبر تلك الآصرة عندما يتم تغييب وبقدر محسوب عاملي الزمان والمكان والاستعارات المفرطة والتشبيه المُمل والإيقاعية الإرغامية وكذلك محاولة الانتقال بالمعنى قسريا إلى المعنى الرنان بالقفز فوق الإحساس بالكلمات ولا بقدراتها التعبيرية العاطفية أو ضمان انسيابيةٍ أمثل لها إن استخدمت السخرية أو استخدمَ شكلٌ من أشكال الدراما الحزينة التي تُلتقط من السمع والبصر والذائقة الخفية.
لقد أشار ريتشاردز إلى أن الكلمة تستطيع أن تحمل ظلالا مختلفة من المعاني، وأن مضامينها تنبسط أو تتحرك حسب ما تقدمه وما سوف يلي بعدها من ألفاظ، أي أن هناك وأثناء عملية الخلق تطورين متصاحبين: تطور في اللغة يصاحبه تطور في الشعور، مما يدفع بكاتب النص إلى معاينة جديدة لاسترساله وإلى التفريق بين النمو التلقائي والنمو المستحدث بإرادة المتغير الجديد في اللغة والشعور، وهذا يعني أن الشاعر قد وجد مجالا جديدا لفقدان الطمأنينة، أي السماح لبنية النص بتبني صراع جديد ليس بالضرورة أن يتفق مع عروضه التي قدمها مبكرا، ونعتقدَ بأن النص بشموليته سيصب ضمن هذا المعنى.
إدراك الخصائص المحورية
إن الشاعر يعي ذاتيا كيفية فهم الأنماط السلوكية للكلمة وكيفية سرد بياناتها اللاإرادية، وهو تبلورٌ فجائي يزيد المخيلة عمقا ويحررها من ثقلها غير المناسب وهذا يعني إنقاذها من البقاء في عاطفة مطلقة أو ضمن معرفة مقنعة بالقياسات والضوابط.
ولعلَ إدراك تلك التراكيب وتلك الرؤى وتلك التصورات للحداثة الشعرية يتطلب من المتلقي فهما أوسع لطبيعة الجمال إن كان مخبوءا في الإيحاء أو في الغموض أو حتى في التغريب، ما دام الشعر منتجا غير ثابت مما تنتجه الحواس.
إن الإحساس باللحظة المناسبة يعني إدراك ما لا يُدرك من الخصائص المحورية لهذا العالم، والتي يعكسها إداء أي من الموجودات المستخدمة حين يحسن انتقاءها واتقانها، بل وحين يحسن نقلها لمكانها المناسب عبر تجديد تشوهها بتشوه مناسب لتخلق جمالها الذي تختاره ضمن قائمة الموضوعات الأبدية المفعمة بالحزن والموت والغياب. وهو عمل يترتب عليه أن يطرق الشاعرُ أكثر من باب في ذاته ليجد أن الجمال في كل مكان بدون أن يقرر أن ما يكتب عنه واقع أو أسطورة.
لحظة القبول ولحظة التكيف
ترمز المخيلة أحيانا عندما تبدأ بتصور المشاهد ثم خلقها إلى كشف مناطق الارتباط، وخاصة حين تقترب من أحداث متماثلة، وبالتالي فإن أي تكرار من قبل المخيلة لتلك المشاهد ينشأ عنه استلام صور مقربة للشيء المكرر أو بالأحرى الذي يقع عليه التكرار، وهنا نعني بالتكرار تأثير مشهد ما على المخيلة الشعرية يرغمها لعمل إجراءات معينة على هذا المشهد ضمن مفهوم مبدأ الارتباط ولا يشكل ارتباطات متصلة ومتتالية، بل هي ارتباطات مجزأة بفعل تأثير الشعور وكذلك الطريقة التي يتم التفكير بها وكذا نوع المصادر التي توحي لنا بما يثير الاستعداد لقبول المجهول، وهو أشبه بالمران النافع لعملية الاستبطان، أي أن المخيلة أحيانا تتشكل من مجاميع من الصور المتقاربة المتباعدة في الوضوح وهي ضمن هذا الوصف تبدو سلبية للوهلة الأولى، وتكون إيجابية حال ظهور المنبه الملازم الذي يكشف عن توافق ما بين لحظة القبول ولحظة التكيف التي تحدثها الانعكاسات النفسية والمعرفية والأسطورية بعد فترة من الانطفاء، وهذا الانطفاء يكون انطفاء مؤقتا أثناء عملية الخلق الشعري لأسباب متنوعة، من بينها عدم القناعة بما يصل إليه الشاعر أثناء كتابة النص أو الإصرار على البقاء في حيز واحد لإنتاج فكرة مركزية واحدة، أو محاولة التخلص من مشهد دخيل وعدم القدرة على إحلال بديل منه، رغم مساهمة البعض من الملكات العقلية كالذاكرة مثلا في استجلاء الماضي وتقديمه بخصائص جديدة.
إسناد الذاكرة
إن الصور الذهنية وكذا ضروب الفرضيات التي تشترك بها أجزاء من العقل لتقديم نوع من الإسناد للذاكرة لإعطائها مساحة أوسع في عملية التذكر، وهو ما يعني الدخول للأشياء المبهمة ورؤيا المناطق الأكثف إبهاما، أي اختيار نقطة ما للاستدلال على شكل ذلك الإبهام ونوعه، وهذا لا ينطبق على الصور فقط وإنما ينطبق أيضا على شعور المخيلة بالأصوات والألوان..
وهو أيضا بمثابة المران الذي يمكن بواسطته التدليل على شيء من خلال الصوت المناسب له بدلا من الصوت المعرف به وتجسيد هذا الشيء في معنى ما أو نغمة أو لون، وتلك العمليات عمليات مشابهة لما تقوم به حواس الإنسان، وهو كما ذكرنا ينطبق على المخيلة إن اعتبرنا أن لكل شيء مستلهماته لتشخيص الأشياء والقبض عليها من قبل وظائف الحواس، بالرغم من وجود (في الشعر خاصة) أشياء غير مطابقة للخصائص التي نتحسسها في الحياة، ناهيك أن الأشكال تخضع لحالة من التحولات (المغلق المفتوح- المتناظر المتعاكس الدائري… ) ولكن هذه الأشكال تخضع لبيانات جديدة تصهرها بأشكال جديدة بحيث تعطي أبعادا غير منظورة وقابلة في الوقت نفسه على التحلل والإحلال وخلق النظام الغامض الذي يشكل مدخلا للهروب من الواقع والمألوف المستبد في الذاكرة الموروثة، لتبدو بعد ذلك تلك الأشكال أشكالا منسقة، وهنا أن الشكل المنسق لا يعني وضوح هيكليته المكونة من المفردات والأصوات، وإنما وضوح قدراته التنسيقية مع ما يختاره الشاعر من مؤثراته العاطفية وينسجم انسجاما كليا ومفيدا مع تلك الأشكال التي تعني المواد الأولية التي يختارها الشاعر، أو بالأصح تختارها المخيلة والتي تعمل بالضد لا على وحدة بعينها وإنما العمل بمفهوم الانتباه الموزع والذي يعبر في أحايين كثيرة كونه ضربا من ضروب النشاط المصاحب لقدرة المخيلة على تفكيك اتجاهاتها لتتمكن من التحول السريع بين المشاهد بعيدا عن بؤرة الانتباه المركزية وتبدو عملية التداخل، وهي عملية يقدرها الشاعر على أنها خيط ما بين الصور العقلية وحاسة معينة، أو هي ربط لأفكار بحاسة ما.
وأكثر الأشياء التي تقع ضمن هذه العملية التصور اللوني والتصور العددي وتصور المتتاليات والمتشابهات ولكن أهم تلك التصورات هي تلك التي تقع خارج تصور العقل، وأهميتها تكمن في أنها صور متنقلة تختفي وأحيانا تمحى، ولكنها تعاد تلقائيا بتأثير ما وبقدرة جديدة وبتصور فعال ورموز مجسمة، وهو ما يعطي لعملية التخيل طريقا آخر إلى مراكز اللاشعور للوصول للأشياء الدفينة والتي لا يعيها غير وجدان الشاعر ورغبته بالسمو في عالمه، عالمه في البدء بلحظة قبول نصه ثم إيجاد التماس الملائم لخلق لحظة التكيف، والتي يراها إزرا باوند نداء الأعماق الذي يدعو الشاعر للانسلاخ من العالم الظاهراتي والانزياح إلى عالم الباطن حيث السّحر والديمومة، بعد أن تم تأمين متطلبات إسناد الذاكرة.
الرؤية النقدية
يميل الشاعر أحيانا لأن لا يضع الرؤية النقدية موضع الاهتمام عند كتابته لنصه، ومنها أن تكريس الزمان في النص أو السير بخطى المكان أو التفاصيل الشخصية والوقائع من الأسس الملزمة للشاعر لبلوغ مهمته الجمالية. ولا شك أن هناك من يتصور بأن الشعر وظيفة طبيعية للإنسان، وأيضا هناك نقيض هذا الرأي من أن الشعر (مهارة معزولة)، وهناك عبر تاريخ النقد الأدبي الحديث الكثير من التصورات والمساجلات عن المفاهيم المتضادة لكثير من المفاهيم الأدبية والكثير من الاشتراكات في مفاهيم أخرى تخضع إلى اليوم إلى النقاش، من أجل بلورة كينونة ما للوصول إلى الحكم الصائب حول هذا المنتج أو ذاك.
ولاشك أيضا أن ليس هناك من أمر واضح وقطعي في الشعر، وليست هناك معرفة ما لنص الشاعر إلا من خلال الشاعر نفسه، وما يُفسر وما يتم تقديمه حتى من قبل المعنيين، إنما يمثل الجانب الخارجي لمحتوى الباطن.
هناك عروض نقدية انطباعية لا تنظر إلى المنتج الشعري بكيانه النهائي والمتكامل بل مجرد التقاط أنفاس الشاعر وفق المغالطات النقدية التي لا ترتكز إلى النقد الإبداعي. فليس هناك من تأمل خالص في العمل وليست هناك مساحات أوسع من المساحات المحددة في ذهنية الناقد، وليست هناك قدرة (لمحو الزيف وإتاحة المجال لما هو أفضل)، فأحيانا تُفهم السُّخرية في نصٍ ما بعقلانية وموضوعية وأحيانا تفهم بأنها الفوضى المُنتجة، وهذا التضاد في الفهم أو لنقل في الرؤيا ينعكس كذلك على أي من الاستخدامات التي يلجأ الشاعر إليها للتعبير عما تريد حريته سواء عن طريق الغموض أو التعامل مع الموروث، أو بتقديم شكل آخر للأسطورة أو المغامرة على صعيد الموضوع أو المغايرة، وتفكيك اللغة، لأنه يرى من الضرورة أن لا يعيد مشاهد مشابهة ومكررة وإن كانت مختلفة عن الواقع لأنه يريد أن يكون اختلافها عميقا وواسعا ولا يفضي لحقيقة ما، لأن الشاعر حين يكتب يعيش معضلته الخاصة به وليست معضلة ما يشتهي الآخرون نقادا وقراء. وهو يبحث عن النسق الآخر الذي من خلاله يستطيع البوح بسره غير المعلن وبكشوفاته إزاء الكون وكل ما يتصل بأحاسيسه ويراه قابلا لعرض اللامتناه واللامقبول، أي أنه بإزاء إحداثِ شكل من أشكال الانفصال المقدس ما بين فرضيات يقررها كيانه كوجود وما بين الرغبة في عدم الأمان لذلك الوجود، وهو شكل من أشكال الرغبة في التحرر المطلق من الفهم السائد عن الوجود الإنساني، وأن المعايير النقدية لا تلزم الشاعر بطبيعة لغة ما أو شكل شعري ما، أو كيفية التعامل مع العاطفة أو الانفعال، وهو إزاء هذه القضايا مستمع جيد لا غير، ولن يكون منفذا لما يطرح كي لا يكون هناك كما أُنتقد دريدن (نقصا في شجنه) وكما أُنتقد أديسون (نقصا في الحرارة والتدفق). المغزى مما يراد هنا هو السعي لبعثرة أي شيء منظم وإحالته إلى إشارات لا يستطيع النقد تفسيرها.
..
٭ كاتب عراقي
أحيانا لا يتم التركيز على أشياء بعينها، أي لا يضع الشاعر له خلفية قبل بدء الإنتاج، ولربما أن تشتت الرؤى والأفكار يؤديان إلى تشتت الغرض الذي من أجله يُكتب النص. ولا شك أن هناك إيحاءات للذهن وإيحاءات بصرية وسمعية، وكلها قد تستقل بمعانيها أو يتداخل بعضها مع البعض في المضمون الافتراضي الذي يقرره كاتب النص سواء بالرمز أو بالإيحاء أو بالتسلل البطيء من قبل المتلقي للمعنى الأُحادي للتعبير، أو ما يسمى المعنى الخاص، وهو اعتقاد بأن النص الحداثوي لا بد أن يمر عبر تلك الآصرة عندما يتم تغييب وبقدر محسوب عاملي الزمان والمكان والاستعارات المفرطة والتشبيه المُمل والإيقاعية الإرغامية وكذلك محاولة الانتقال بالمعنى قسريا إلى المعنى الرنان بالقفز فوق الإحساس بالكلمات ولا بقدراتها التعبيرية العاطفية أو ضمان انسيابيةٍ أمثل لها إن استخدمت السخرية أو استخدمَ شكلٌ من أشكال الدراما الحزينة التي تُلتقط من السمع والبصر والذائقة الخفية.
لقد أشار ريتشاردز إلى أن الكلمة تستطيع أن تحمل ظلالا مختلفة من المعاني، وأن مضامينها تنبسط أو تتحرك حسب ما تقدمه وما سوف يلي بعدها من ألفاظ، أي أن هناك وأثناء عملية الخلق تطورين متصاحبين: تطور في اللغة يصاحبه تطور في الشعور، مما يدفع بكاتب النص إلى معاينة جديدة لاسترساله وإلى التفريق بين النمو التلقائي والنمو المستحدث بإرادة المتغير الجديد في اللغة والشعور، وهذا يعني أن الشاعر قد وجد مجالا جديدا لفقدان الطمأنينة، أي السماح لبنية النص بتبني صراع جديد ليس بالضرورة أن يتفق مع عروضه التي قدمها مبكرا، ونعتقدَ بأن النص بشموليته سيصب ضمن هذا المعنى.
إدراك الخصائص المحورية
إن الشاعر يعي ذاتيا كيفية فهم الأنماط السلوكية للكلمة وكيفية سرد بياناتها اللاإرادية، وهو تبلورٌ فجائي يزيد المخيلة عمقا ويحررها من ثقلها غير المناسب وهذا يعني إنقاذها من البقاء في عاطفة مطلقة أو ضمن معرفة مقنعة بالقياسات والضوابط.
ولعلَ إدراك تلك التراكيب وتلك الرؤى وتلك التصورات للحداثة الشعرية يتطلب من المتلقي فهما أوسع لطبيعة الجمال إن كان مخبوءا في الإيحاء أو في الغموض أو حتى في التغريب، ما دام الشعر منتجا غير ثابت مما تنتجه الحواس.
إن الإحساس باللحظة المناسبة يعني إدراك ما لا يُدرك من الخصائص المحورية لهذا العالم، والتي يعكسها إداء أي من الموجودات المستخدمة حين يحسن انتقاءها واتقانها، بل وحين يحسن نقلها لمكانها المناسب عبر تجديد تشوهها بتشوه مناسب لتخلق جمالها الذي تختاره ضمن قائمة الموضوعات الأبدية المفعمة بالحزن والموت والغياب. وهو عمل يترتب عليه أن يطرق الشاعرُ أكثر من باب في ذاته ليجد أن الجمال في كل مكان بدون أن يقرر أن ما يكتب عنه واقع أو أسطورة.
لحظة القبول ولحظة التكيف
ترمز المخيلة أحيانا عندما تبدأ بتصور المشاهد ثم خلقها إلى كشف مناطق الارتباط، وخاصة حين تقترب من أحداث متماثلة، وبالتالي فإن أي تكرار من قبل المخيلة لتلك المشاهد ينشأ عنه استلام صور مقربة للشيء المكرر أو بالأحرى الذي يقع عليه التكرار، وهنا نعني بالتكرار تأثير مشهد ما على المخيلة الشعرية يرغمها لعمل إجراءات معينة على هذا المشهد ضمن مفهوم مبدأ الارتباط ولا يشكل ارتباطات متصلة ومتتالية، بل هي ارتباطات مجزأة بفعل تأثير الشعور وكذلك الطريقة التي يتم التفكير بها وكذا نوع المصادر التي توحي لنا بما يثير الاستعداد لقبول المجهول، وهو أشبه بالمران النافع لعملية الاستبطان، أي أن المخيلة أحيانا تتشكل من مجاميع من الصور المتقاربة المتباعدة في الوضوح وهي ضمن هذا الوصف تبدو سلبية للوهلة الأولى، وتكون إيجابية حال ظهور المنبه الملازم الذي يكشف عن توافق ما بين لحظة القبول ولحظة التكيف التي تحدثها الانعكاسات النفسية والمعرفية والأسطورية بعد فترة من الانطفاء، وهذا الانطفاء يكون انطفاء مؤقتا أثناء عملية الخلق الشعري لأسباب متنوعة، من بينها عدم القناعة بما يصل إليه الشاعر أثناء كتابة النص أو الإصرار على البقاء في حيز واحد لإنتاج فكرة مركزية واحدة، أو محاولة التخلص من مشهد دخيل وعدم القدرة على إحلال بديل منه، رغم مساهمة البعض من الملكات العقلية كالذاكرة مثلا في استجلاء الماضي وتقديمه بخصائص جديدة.
إسناد الذاكرة
إن الصور الذهنية وكذا ضروب الفرضيات التي تشترك بها أجزاء من العقل لتقديم نوع من الإسناد للذاكرة لإعطائها مساحة أوسع في عملية التذكر، وهو ما يعني الدخول للأشياء المبهمة ورؤيا المناطق الأكثف إبهاما، أي اختيار نقطة ما للاستدلال على شكل ذلك الإبهام ونوعه، وهذا لا ينطبق على الصور فقط وإنما ينطبق أيضا على شعور المخيلة بالأصوات والألوان..
وهو أيضا بمثابة المران الذي يمكن بواسطته التدليل على شيء من خلال الصوت المناسب له بدلا من الصوت المعرف به وتجسيد هذا الشيء في معنى ما أو نغمة أو لون، وتلك العمليات عمليات مشابهة لما تقوم به حواس الإنسان، وهو كما ذكرنا ينطبق على المخيلة إن اعتبرنا أن لكل شيء مستلهماته لتشخيص الأشياء والقبض عليها من قبل وظائف الحواس، بالرغم من وجود (في الشعر خاصة) أشياء غير مطابقة للخصائص التي نتحسسها في الحياة، ناهيك أن الأشكال تخضع لحالة من التحولات (المغلق المفتوح- المتناظر المتعاكس الدائري… ) ولكن هذه الأشكال تخضع لبيانات جديدة تصهرها بأشكال جديدة بحيث تعطي أبعادا غير منظورة وقابلة في الوقت نفسه على التحلل والإحلال وخلق النظام الغامض الذي يشكل مدخلا للهروب من الواقع والمألوف المستبد في الذاكرة الموروثة، لتبدو بعد ذلك تلك الأشكال أشكالا منسقة، وهنا أن الشكل المنسق لا يعني وضوح هيكليته المكونة من المفردات والأصوات، وإنما وضوح قدراته التنسيقية مع ما يختاره الشاعر من مؤثراته العاطفية وينسجم انسجاما كليا ومفيدا مع تلك الأشكال التي تعني المواد الأولية التي يختارها الشاعر، أو بالأصح تختارها المخيلة والتي تعمل بالضد لا على وحدة بعينها وإنما العمل بمفهوم الانتباه الموزع والذي يعبر في أحايين كثيرة كونه ضربا من ضروب النشاط المصاحب لقدرة المخيلة على تفكيك اتجاهاتها لتتمكن من التحول السريع بين المشاهد بعيدا عن بؤرة الانتباه المركزية وتبدو عملية التداخل، وهي عملية يقدرها الشاعر على أنها خيط ما بين الصور العقلية وحاسة معينة، أو هي ربط لأفكار بحاسة ما.
وأكثر الأشياء التي تقع ضمن هذه العملية التصور اللوني والتصور العددي وتصور المتتاليات والمتشابهات ولكن أهم تلك التصورات هي تلك التي تقع خارج تصور العقل، وأهميتها تكمن في أنها صور متنقلة تختفي وأحيانا تمحى، ولكنها تعاد تلقائيا بتأثير ما وبقدرة جديدة وبتصور فعال ورموز مجسمة، وهو ما يعطي لعملية التخيل طريقا آخر إلى مراكز اللاشعور للوصول للأشياء الدفينة والتي لا يعيها غير وجدان الشاعر ورغبته بالسمو في عالمه، عالمه في البدء بلحظة قبول نصه ثم إيجاد التماس الملائم لخلق لحظة التكيف، والتي يراها إزرا باوند نداء الأعماق الذي يدعو الشاعر للانسلاخ من العالم الظاهراتي والانزياح إلى عالم الباطن حيث السّحر والديمومة، بعد أن تم تأمين متطلبات إسناد الذاكرة.
الرؤية النقدية
يميل الشاعر أحيانا لأن لا يضع الرؤية النقدية موضع الاهتمام عند كتابته لنصه، ومنها أن تكريس الزمان في النص أو السير بخطى المكان أو التفاصيل الشخصية والوقائع من الأسس الملزمة للشاعر لبلوغ مهمته الجمالية. ولا شك أن هناك من يتصور بأن الشعر وظيفة طبيعية للإنسان، وأيضا هناك نقيض هذا الرأي من أن الشعر (مهارة معزولة)، وهناك عبر تاريخ النقد الأدبي الحديث الكثير من التصورات والمساجلات عن المفاهيم المتضادة لكثير من المفاهيم الأدبية والكثير من الاشتراكات في مفاهيم أخرى تخضع إلى اليوم إلى النقاش، من أجل بلورة كينونة ما للوصول إلى الحكم الصائب حول هذا المنتج أو ذاك.
ولاشك أيضا أن ليس هناك من أمر واضح وقطعي في الشعر، وليست هناك معرفة ما لنص الشاعر إلا من خلال الشاعر نفسه، وما يُفسر وما يتم تقديمه حتى من قبل المعنيين، إنما يمثل الجانب الخارجي لمحتوى الباطن.
هناك عروض نقدية انطباعية لا تنظر إلى المنتج الشعري بكيانه النهائي والمتكامل بل مجرد التقاط أنفاس الشاعر وفق المغالطات النقدية التي لا ترتكز إلى النقد الإبداعي. فليس هناك من تأمل خالص في العمل وليست هناك مساحات أوسع من المساحات المحددة في ذهنية الناقد، وليست هناك قدرة (لمحو الزيف وإتاحة المجال لما هو أفضل)، فأحيانا تُفهم السُّخرية في نصٍ ما بعقلانية وموضوعية وأحيانا تفهم بأنها الفوضى المُنتجة، وهذا التضاد في الفهم أو لنقل في الرؤيا ينعكس كذلك على أي من الاستخدامات التي يلجأ الشاعر إليها للتعبير عما تريد حريته سواء عن طريق الغموض أو التعامل مع الموروث، أو بتقديم شكل آخر للأسطورة أو المغامرة على صعيد الموضوع أو المغايرة، وتفكيك اللغة، لأنه يرى من الضرورة أن لا يعيد مشاهد مشابهة ومكررة وإن كانت مختلفة عن الواقع لأنه يريد أن يكون اختلافها عميقا وواسعا ولا يفضي لحقيقة ما، لأن الشاعر حين يكتب يعيش معضلته الخاصة به وليست معضلة ما يشتهي الآخرون نقادا وقراء. وهو يبحث عن النسق الآخر الذي من خلاله يستطيع البوح بسره غير المعلن وبكشوفاته إزاء الكون وكل ما يتصل بأحاسيسه ويراه قابلا لعرض اللامتناه واللامقبول، أي أنه بإزاء إحداثِ شكل من أشكال الانفصال المقدس ما بين فرضيات يقررها كيانه كوجود وما بين الرغبة في عدم الأمان لذلك الوجود، وهو شكل من أشكال الرغبة في التحرر المطلق من الفهم السائد عن الوجود الإنساني، وأن المعايير النقدية لا تلزم الشاعر بطبيعة لغة ما أو شكل شعري ما، أو كيفية التعامل مع العاطفة أو الانفعال، وهو إزاء هذه القضايا مستمع جيد لا غير، ولن يكون منفذا لما يطرح كي لا يكون هناك كما أُنتقد دريدن (نقصا في شجنه) وكما أُنتقد أديسون (نقصا في الحرارة والتدفق). المغزى مما يراد هنا هو السعي لبعثرة أي شيء منظم وإحالته إلى إشارات لا يستطيع النقد تفسيرها.
..
٭ كاتب عراقي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.