عودة انقطاع الكهرباء في مناطق بالجيزة وخروج كابل محطة محولات جزيرة الذهب عن الخدمة    هآرتس: ترامب يعطي الضوء الأخضر لإسرائيل لضم أجزاء من غزة    200 مليون دولار، ليفربول يجهز عرضا خرافيا لحسم صفقة مهاجم نيوكاسل    رابطة الأندية: بدء عقوبة "سب الدين والعنصرية" فى الدوري بالموسم الجديد    السيسي يوجه بتوفير الرعاية الصحية اللازمة والاهتمام الطبي الفوري للكابتن حسن شحاتة    المعمل الجنائي يعاين حريق شقة في المريوطية    ما الوقت المناسب بين الأذان والإقامة؟.. أمين الفتوى يجيب    الكشف الطبي على 540 مواطنًا بقرية جلبانة ضمن القافلة الطبية لجامعة الإسماعيلية    بمناسبة اليوم العالمي.. التهاب الكبد خطر صامت يمكن تفاديه    نقيب الإعلاميين: كلمة الرئيس السيسي بشأن غزة رد عملي على حملات التضليل    سميرة صدقي: عبلة كامل أفضل فنانة قدمت دور المرأة الشعبية    بدء الدراسة بجامعة الأقصر الأهلية.. رئيس الجامعة والمحافظ يعلنان تفاصيل البرامج الدراسية بالكليات الأربع    «ما تراه ليس كما يبدو».. شيري عادل تستعد لتصوير حكاية "ديجافو"    قبل عرضه.. تفاصيل فيلم بيج رامى بطولة رامز جلال    علاج الحموضة بالأعشاب الطبيعية في أسرع وقت    الداخلية: لا توجد تجمعات بالمحافظات والإخوان وراء هذه الشائعات    برومو تشويقى ل مسلسل "ما تراه ليس كما يبدو".. سبع حكايات ومفاجآت غير متوقعة    محافظ جنوب سيناء يتابع تطوير محطة معالجة دهب والغابة الشجرية (صور)    هل "الماكياج" عذر يبيح التيمم للنساء؟.. أمينة الفتوى تُجيب    رفقة العراق والبحرين .. منتخب مصر في المجموعة الثانية بكأس الخليج للشباب    «المصري اليوم» داخل قطار العودة إلى السودان.. مشرفو الرحلة: «لا رجوع قبل أن نُسلّم أهلنا إلى حضن الوطن»    إلقاء بقايا الطعام في القمامة.. هل يجوز شرعًا؟ دار الإفتاء توضح    حزب الجيل: السيسي يعيد التأكيد على ثوابت مصر في دعم فلسطين    أمانة الشؤون القانونية المركزية ب"مستقبل وطن" تبحث مع أمنائها بالمحافظات الاستعدادات لانتخابات مجلس الشيوخ 2025    كم سنويا؟.. طريقة حساب عائد مبلغ 200 ألف جنيه من شهادة ادخار البنك الأهلي    5 شركات تركية تدرس إنشاء مصانع للصناعات الهندسية والأجهزة المنزلية في مصر    تنفيذي الشرقية يكرم أبطال حرب أكتوبر والمتبرعين للصالح العام    ديفيز: سعيد بالعودة للأهلي.. وهذه رسالتي للجماهير    هندسة المنوفية الأولى عالميًا في المحاكاة بمسابقة Formula Student UK 2025    نموذج تجريبي لمواجهة أزمة كثافة الفصول استعدادًا للعام الدراسي الجديد في المنوفية    هل ظهور المرأة بدون حجاب أمام رجل غريب ينقض وضوءها؟.. أمينة الفتوى توضح    السفارة الأمريكية: كتائب حزب الله تقف وراء اقتحام مبنى حكومي ببغداد    قنا: القبض على شاب متهم بالاعتداء على طفل داخل منزل أسرته في قرية الدرب بنجع حمادي    محافظ القاهرة يكرم 30 طالبا وطالبة من أوائل الثانوية العامة والمكفوفين والدبلومات الفنية    الحر الشديد خطر صامت.. كيف تؤثر درجات الحرارة المرتفعة على القلب والدماغ؟    وثيقة لتجديد الخطاب الديني.. تفاصيل اجتماع السيسي مع مدبولي والأزهري    توجيهات بترشيد استهلاك الكهرباء والمياه داخل المنشآت التابعة ل الأوقاف في شمال سيناء    12 راحلا عن الأهلي في الانتقالات الصيفية    حملات الدائري الإقليمي تضبط 18 سائقا متعاطيا للمخدرات و1000 مخالفة مرورية    ينطلق غدا.. تفاصيل الملتقى 22 لشباب المحافظات الحدودية ضمن مشروع "أهل مصر"    كريم رمزي: فيريرا استقر على هذا الثلاثي في تشكيل الزمالك بالموسم الجديد    تصعيد خطير ضد الوجود المسيحي بفلسطين.. مستوطنون يعتدون على دير للروم الأرثوذكس    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي لأكثر من مليون فرد    على خلفية وقف راغب علامة.. حفظ شكوى "المهن الموسيقية" ضد 4 إعلاميين    منال عوض تتابع ملفات وزارة البيئة وتبحث تطوير منظومة إدارة المخلفات    الشرطة التايلاندية: 4 قتلى في إطلاق نار عشوائي بالعاصمة بانكوك    إطلاق حملة لتعقيم وتطعيم الكلاب الضالة بمدينة العاشر من رمضان (صور)    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    متحدثة الهلال الأحمر الفلسطيني: 133 ضحية للمجاعة فى غزة بينهم 87 طفلًا    رئيس جامعة القاهرة يشهد تخريج الدفعة 97 من الطلاب الوافدين بكلية طب الأسنان    في مستهل زيارته لنيويورك.. وزير الخارجية يلتقي بالجالية المصرية    المجلس الوزاري الأمني للحكومة الألمانية ينعقد اليوم لبحث التطورات المتعلقة بإسرائيل    مفوض حقوق الإنسان يدعو لاتخاذ خطوات فورية لإنهاء الاحتلال من أراضى فلسطين    «تغير المناخ» بالزراعة يزف بشرى سارة بشأن موعد انكسار القبة الحرارية    تعرف على مواعيد مباريات المصري بالدوري خلال الموسم الكروي الجديد    بداية فوضى أم عرض لأزمة أعمق؟ .. لماذا لم يقيل السيسي محافظ الجيزة ورؤساء الأحياء كما فعل مع قيادات الداخلية ؟    بالأسماء.. 5 مصابين في انقلاب سيارة سرفيس بالبحيرة    جامعة العريش تنظم حفلا لتكريم أوائل الخريجين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إميلي نصرالله روائية الحياة القَرويَّة
نشر في صوت البلد يوم 25 - 03 - 2018

تعدُّ إميلي نصر الله من أبرز الأديبات في العالم العربي؛ ذلك أنها أغنت الأدب العربي بإنتاجٍ أدبيٍّ: روائي وقصصي قصير وأدب أطفال وفتيان ومقالة وسيرة متميِّزة، بدءاً برواية «طيور أيلول»(1962)، والتي نالت عنها جائزتين: جائزة «أصدقاء الكتاب» وجائزة «سعيد عقل»، منذ صدورها، وصولاً إلى كتاب «الزَّمن الجميل». وفيه تستعيد وجوهاً قابلتها في مرحلة الخمسينات- من القرن الماضي- عندما كانت تعمل في مجلَّة الصَّياد (1955 - 1970)، وقبل ذلك في مجلَّة «صوت المرأة»، وكانت وجهاً من وجوه ذلك الزَّمن، مروراً بحصادٍ تمثَّل في تسع روايات، وعشر مجموعات قصصيَّة قصيرة، وسبعة كتب للفتيان، وخمسة كتب للأطفال، وستَّة أجزاء من «نساء رائدات»، وخمسة أجزاء من «حصاد الأيَّام»، ومجموعة شعريَّة واحدة.
إملي نصرالله الإنسانة امرأةٌ مثقَّفة، دمثة، وديعة، منتمية إلى وطنها وأهلها، وخصوصاً إلى القرية اللُّبنانيَّة الجنوبيَّة، «بريئة براءة الجنوبيَّات الموجوعات». أصغت طويلاً إلى جدّتها لأمِّها، وهي تحكي لها الحكايات في الأماسي، فامتلكت مَلَكة القصِّ، وتأثَّرت بخالها «أيُّوب»، الأديب، فأحبَّت الأدب، وأدمنت قراءته، وتوافرت لها كتبه؛ إذ كانت أمينة المكتبة، في «ثانوية الشويفات الوطنية»، حيث تلقت دروسها الثانوية، فغلب عليها، وهي تكتب المقالة الصحافيَّة، فكان سعيد فريحة يقول لها: «يا إميلي، اكتبي صحافة، وخفِّفي من الأدب». ثمَّ تفرَّغت للأدب منذ سنة 1970، وكان لتجاربها الحياتيَّة دورٌ في كتابة رواياتها وقصصها، وخصوصاً روايتها الأولى «طيور أيلول»؛ إذ هاجر إخوتها إلى كندا، فرأت إليهم كأنَّهم «طيور أيلول» التي تهاجر لدى اصفرار شمس الخريف.
تتمثَّل خصوصيَّة روايات إميلي نصرالله وقصصها القصيرة، في أنّ مادَّتها القصصيَّة الأوَّليَّة مأخوذة من الحياة اليوميَّة المعيشة، وثانياً، في أنَّ هذه المادَّة القصصيَّة الأَوَّليَّة تتحوَّل، لدى الكتابة، إلى قصٍّ يصدر عن الحياة القَروَّية ويغايرها في الوقت نفسه، ليرى إليها، من منظور قصصيٍّ يقيم بناءً روائياً وقصصيَّاً متخَّيلاً.
إن كان بعضهم يرى أنَّ البناء الروائي والقصصي هذا تقليدي، فإني أرى أنَّ هذا الرَّأي لا يمكن تعميمه، ففي هذه المقالة القصيرة، أستطيع تقديم مثالين: أوَّلهما رواية «طيور أيلول» التي يتعدَّد فيها الرُّواة، وهذا استخدام مبكِّر لتقنيّة روائيّةٍ حديثة، وثانيهما رواية «الإقلاع عكس الزَّمن»، التي تتميَّز ببنية روائيَّة مركَّبة، تتداخل فيها الأزمنة، كما يأتي:
ينمو الحدث المركزيُّ، وهو رحلة «رضوان» إلى كندا، في سرد خارجي، باطِّراد، يرافقه، في سردٍ داخليٍّ، حدث آخر يقدِّم رحلة رضوان في هذه الدُّنيا، منذ أن خرج إلى العمل فيها يتيماً. يرافق هذين المسارين، في سرد داخلي، أيضاً، استشراف للمستقبل؛ بحيث إن رضوان يتخيَّل ما سوف يحدث له في مطار «هيثرو» في «لندن»، وفي المطار الكندي، وهو الذي لم يسافر من قبل، والذي لا يعرف أيَّ لغةً أجنبيَّة.
ينمو الحدث الأوَّل - الحاضر محكوماً بمنطق زمني طبيعي، تتداخل فيه وقائع «الفيلم» الذي يعرضه تلفاز الطَّائرة، وينمو الحدثان: الثَّاني - الماضي، والثالث - المستقبل، قاطعين الحدث الأول، محكومين بمنطق محفِّز يتمثَّل في مثيرات الاسترجاع والاستباق.
وإذ يصل إلى كندا، تبدأ رحلة التعامل مع العالم الجديد، المتقطِّعة بحكايات المهاجرين الذين يلتقيهم، فتتضمَّن القصَّة الإطار قصصاً تُنْضج اتخاذ قراره بالعودة إلى الوطن. ثم يأتي الملحق الوثائقي، ليُبْرز، من خلال الوثائق الموضوعيَّة، مكانة رضوان لدى أبناء قريته والقرى المجاورة، إذ كان يوم تشييعه يوماً مشهوداً لم تعرف المنطقة مثيلاً له من قبل. وهكذا تتشكَّل بنية روائيَّة تتداخل فيها الأزمنة، وتتشابك خيوط القصِّ.
القرية اللُّبنانيَّة
وتتمثَّل هذه الخصوصيَّة، ثالثاً، في أنَّ محور القصِّ، في روايات إميلي نصرالله، هو القرية اللُّبنانيَّة الجنوبيَّة في واقعها الحياتي المعيش، من نحوٍ أوَّل، وفي كونها «مكاناً طارداً» لأبنائها من نحو ثانٍ، أي في كونها مكاناً يهاجر أبناؤه إلى المدينة/ بيروت، وتكاد هذه المدينة نفسها، تكون ذلك «المكان الطَّارد» نفسه، فتتم الهجرة منها، أيضاً، إلى «المهجر».
إنَّ فَقْد «المكان الصالح للزَّرع»، كما قال يوسف حبشي الأشقر، في رواية: «الظِّل والصَّدى» يدفع اللبناني إلى الهجرة بحثاً عن هذا المكان المفقود، فيعيش معانياً «الجمر الغافي»، والتعبير لإميلي نصر الله، في المهجر، بعدما عاش «الجمر المتّقد» في الوطن.
وتبقى القضيَّة الأساس، كما عبَّر عنها رضوان؛ الفلاَّح القادم من قرية «جورة السِّنديان»، الكائنة في الجنوب اللبناني، إلى «شارلتون»، في كندا، بعفويَّة هي: «قَوْلَك بيحكوا عربي الأحفاد!؟»، فتردّ المغتربة نبيهة، وهي تهزُّ رأسها، وتقول: «لا تصدِّق، يابو نبيل، أولاد هذه البلاد يخصُّون هذه البلاد...». هذا هو «الاغتراب» الأبدي الذي شعر به «أبو نبيل»، فأولاده وأحفاده لم يعودوا أولاده وأحفاده، وإنَّما غدوا أبناء تلك البلاد.
يتأمّل أبو نبيل «نبيهة»، ويلحظ تحوُّلها، فيسأل نفسه: «وإذا عادت نبيهة إلى الجورة، هل يعود النَّرجس إلى عينيها!؟». يشير هذا السؤال إلى فَقْد المهاجر فرحه وتألُّقه، كما يشير إلى تميُّز لغة إميلي نصرالله، فهي لغة تقرب، في كثير من الحالات، من الشعر، وفي الحالات جميعها هي لغة جميلة، تبدو عفويَّة، لكنَّها مصنوعة بعناية، وهذه هي الميزة الرابعة، من المزايا التي تمثِّل خصوصيَّةً أدب هذه الأديبة.
والواضح أنَّ هذه اللُّغة إيحائية، وخصوصاً في العناوين، ف «طيور أيلول» ترمز إلى المهاجرين الذين يغادرون أرضهم عندما تصفرُّ شمس الخريف، و «شجرة الدِّفلى» القادرة على التكيُّف والاخضرار الدائم، الملوَّن بالزَّهر، ترمز إلى المرأة الجنوبيَّة السَّاعية إلى تحقيق ذاتها. ولدى إميلي اهتمام بكتابة تجربة هذا السعي وتحرُّر المرأة، و «الإقلاع عكس الزَّمن» يرمز إلى الرِّحلة المفضية إلى التعلُّق بالوطن، و «الجمر الغافي» يرمز إلى ذلك الشَّوق الكامن في داخل ذات المهاجر، والذي لا يلبث أن يتَّقد. كما أن اختيار الأديبة للأسماء دالٌّ بوضوح على هويَّة الشخصيَّات، مثلما نرى في اختيار اسم «رضوان - أبي نبيل» للفلَّاح الذي أقلع عكس الزَّمن.
والميزة الخامسة هي أنَّ هذه اللغة الجميلة التي تنسج بنية قصصيَّة متميِّزة، مشوِّقة، تنطق بوضوح وبساطة، بمنظومة قيم تربوية إنسانية عليا، وهذا ما جعل كثراً من المربِّين، في المدارس الرَّسميَّة والخاصَّة، يختارون نصوصاً، من هذه الرواية أو تلك، من رواياتها، ويدرجونها في كتب القراءة. إضافة الى أنَّ كثراً منهم اختاروا بعض رواياتها، وقرَّروها كتباً للمطالعة. وأعتقد أنَّ أيَّ طالب من طلَّاب «الزَّمن اللبناني الجميل» لم ينس «طيور أيلول». والجدير ذكره، في هذا الشَّأن، أنَّ «الهيئة الوطنيَّة للأونيسكو» أطلقت، في 28/4/2015، هذه الرِّواية للمكفوفين، مطبوعة بطريقة «البرايل».
تبدو إميلي نصرالله كأنَّها انسحبت إلى الظِّل، غير أنَّها كانت في النُّور تعطي وتبدع، في حياتها، وتبقى- بعد وفاتها- في سجلِّ الخالدين، أديبةً من كبار الأدباء الذين تُرجمت آثارهم إلى أكثر من لغة عالميَّة.
تعدُّ إميلي نصر الله من أبرز الأديبات في العالم العربي؛ ذلك أنها أغنت الأدب العربي بإنتاجٍ أدبيٍّ: روائي وقصصي قصير وأدب أطفال وفتيان ومقالة وسيرة متميِّزة، بدءاً برواية «طيور أيلول»(1962)، والتي نالت عنها جائزتين: جائزة «أصدقاء الكتاب» وجائزة «سعيد عقل»، منذ صدورها، وصولاً إلى كتاب «الزَّمن الجميل». وفيه تستعيد وجوهاً قابلتها في مرحلة الخمسينات- من القرن الماضي- عندما كانت تعمل في مجلَّة الصَّياد (1955 - 1970)، وقبل ذلك في مجلَّة «صوت المرأة»، وكانت وجهاً من وجوه ذلك الزَّمن، مروراً بحصادٍ تمثَّل في تسع روايات، وعشر مجموعات قصصيَّة قصيرة، وسبعة كتب للفتيان، وخمسة كتب للأطفال، وستَّة أجزاء من «نساء رائدات»، وخمسة أجزاء من «حصاد الأيَّام»، ومجموعة شعريَّة واحدة.
إملي نصرالله الإنسانة امرأةٌ مثقَّفة، دمثة، وديعة، منتمية إلى وطنها وأهلها، وخصوصاً إلى القرية اللُّبنانيَّة الجنوبيَّة، «بريئة براءة الجنوبيَّات الموجوعات». أصغت طويلاً إلى جدّتها لأمِّها، وهي تحكي لها الحكايات في الأماسي، فامتلكت مَلَكة القصِّ، وتأثَّرت بخالها «أيُّوب»، الأديب، فأحبَّت الأدب، وأدمنت قراءته، وتوافرت لها كتبه؛ إذ كانت أمينة المكتبة، في «ثانوية الشويفات الوطنية»، حيث تلقت دروسها الثانوية، فغلب عليها، وهي تكتب المقالة الصحافيَّة، فكان سعيد فريحة يقول لها: «يا إميلي، اكتبي صحافة، وخفِّفي من الأدب». ثمَّ تفرَّغت للأدب منذ سنة 1970، وكان لتجاربها الحياتيَّة دورٌ في كتابة رواياتها وقصصها، وخصوصاً روايتها الأولى «طيور أيلول»؛ إذ هاجر إخوتها إلى كندا، فرأت إليهم كأنَّهم «طيور أيلول» التي تهاجر لدى اصفرار شمس الخريف.
تتمثَّل خصوصيَّة روايات إميلي نصرالله وقصصها القصيرة، في أنّ مادَّتها القصصيَّة الأوَّليَّة مأخوذة من الحياة اليوميَّة المعيشة، وثانياً، في أنَّ هذه المادَّة القصصيَّة الأَوَّليَّة تتحوَّل، لدى الكتابة، إلى قصٍّ يصدر عن الحياة القَروَّية ويغايرها في الوقت نفسه، ليرى إليها، من منظور قصصيٍّ يقيم بناءً روائياً وقصصيَّاً متخَّيلاً.
إن كان بعضهم يرى أنَّ البناء الروائي والقصصي هذا تقليدي، فإني أرى أنَّ هذا الرَّأي لا يمكن تعميمه، ففي هذه المقالة القصيرة، أستطيع تقديم مثالين: أوَّلهما رواية «طيور أيلول» التي يتعدَّد فيها الرُّواة، وهذا استخدام مبكِّر لتقنيّة روائيّةٍ حديثة، وثانيهما رواية «الإقلاع عكس الزَّمن»، التي تتميَّز ببنية روائيَّة مركَّبة، تتداخل فيها الأزمنة، كما يأتي:
ينمو الحدث المركزيُّ، وهو رحلة «رضوان» إلى كندا، في سرد خارجي، باطِّراد، يرافقه، في سردٍ داخليٍّ، حدث آخر يقدِّم رحلة رضوان في هذه الدُّنيا، منذ أن خرج إلى العمل فيها يتيماً. يرافق هذين المسارين، في سرد داخلي، أيضاً، استشراف للمستقبل؛ بحيث إن رضوان يتخيَّل ما سوف يحدث له في مطار «هيثرو» في «لندن»، وفي المطار الكندي، وهو الذي لم يسافر من قبل، والذي لا يعرف أيَّ لغةً أجنبيَّة.
ينمو الحدث الأوَّل - الحاضر محكوماً بمنطق زمني طبيعي، تتداخل فيه وقائع «الفيلم» الذي يعرضه تلفاز الطَّائرة، وينمو الحدثان: الثَّاني - الماضي، والثالث - المستقبل، قاطعين الحدث الأول، محكومين بمنطق محفِّز يتمثَّل في مثيرات الاسترجاع والاستباق.
وإذ يصل إلى كندا، تبدأ رحلة التعامل مع العالم الجديد، المتقطِّعة بحكايات المهاجرين الذين يلتقيهم، فتتضمَّن القصَّة الإطار قصصاً تُنْضج اتخاذ قراره بالعودة إلى الوطن. ثم يأتي الملحق الوثائقي، ليُبْرز، من خلال الوثائق الموضوعيَّة، مكانة رضوان لدى أبناء قريته والقرى المجاورة، إذ كان يوم تشييعه يوماً مشهوداً لم تعرف المنطقة مثيلاً له من قبل. وهكذا تتشكَّل بنية روائيَّة تتداخل فيها الأزمنة، وتتشابك خيوط القصِّ.
القرية اللُّبنانيَّة
وتتمثَّل هذه الخصوصيَّة، ثالثاً، في أنَّ محور القصِّ، في روايات إميلي نصرالله، هو القرية اللُّبنانيَّة الجنوبيَّة في واقعها الحياتي المعيش، من نحوٍ أوَّل، وفي كونها «مكاناً طارداً» لأبنائها من نحو ثانٍ، أي في كونها مكاناً يهاجر أبناؤه إلى المدينة/ بيروت، وتكاد هذه المدينة نفسها، تكون ذلك «المكان الطَّارد» نفسه، فتتم الهجرة منها، أيضاً، إلى «المهجر».
إنَّ فَقْد «المكان الصالح للزَّرع»، كما قال يوسف حبشي الأشقر، في رواية: «الظِّل والصَّدى» يدفع اللبناني إلى الهجرة بحثاً عن هذا المكان المفقود، فيعيش معانياً «الجمر الغافي»، والتعبير لإميلي نصر الله، في المهجر، بعدما عاش «الجمر المتّقد» في الوطن.
وتبقى القضيَّة الأساس، كما عبَّر عنها رضوان؛ الفلاَّح القادم من قرية «جورة السِّنديان»، الكائنة في الجنوب اللبناني، إلى «شارلتون»، في كندا، بعفويَّة هي: «قَوْلَك بيحكوا عربي الأحفاد!؟»، فتردّ المغتربة نبيهة، وهي تهزُّ رأسها، وتقول: «لا تصدِّق، يابو نبيل، أولاد هذه البلاد يخصُّون هذه البلاد...». هذا هو «الاغتراب» الأبدي الذي شعر به «أبو نبيل»، فأولاده وأحفاده لم يعودوا أولاده وأحفاده، وإنَّما غدوا أبناء تلك البلاد.
يتأمّل أبو نبيل «نبيهة»، ويلحظ تحوُّلها، فيسأل نفسه: «وإذا عادت نبيهة إلى الجورة، هل يعود النَّرجس إلى عينيها!؟». يشير هذا السؤال إلى فَقْد المهاجر فرحه وتألُّقه، كما يشير إلى تميُّز لغة إميلي نصرالله، فهي لغة تقرب، في كثير من الحالات، من الشعر، وفي الحالات جميعها هي لغة جميلة، تبدو عفويَّة، لكنَّها مصنوعة بعناية، وهذه هي الميزة الرابعة، من المزايا التي تمثِّل خصوصيَّةً أدب هذه الأديبة.
والواضح أنَّ هذه اللُّغة إيحائية، وخصوصاً في العناوين، ف «طيور أيلول» ترمز إلى المهاجرين الذين يغادرون أرضهم عندما تصفرُّ شمس الخريف، و «شجرة الدِّفلى» القادرة على التكيُّف والاخضرار الدائم، الملوَّن بالزَّهر، ترمز إلى المرأة الجنوبيَّة السَّاعية إلى تحقيق ذاتها. ولدى إميلي اهتمام بكتابة تجربة هذا السعي وتحرُّر المرأة، و «الإقلاع عكس الزَّمن» يرمز إلى الرِّحلة المفضية إلى التعلُّق بالوطن، و «الجمر الغافي» يرمز إلى ذلك الشَّوق الكامن في داخل ذات المهاجر، والذي لا يلبث أن يتَّقد. كما أن اختيار الأديبة للأسماء دالٌّ بوضوح على هويَّة الشخصيَّات، مثلما نرى في اختيار اسم «رضوان - أبي نبيل» للفلَّاح الذي أقلع عكس الزَّمن.
والميزة الخامسة هي أنَّ هذه اللغة الجميلة التي تنسج بنية قصصيَّة متميِّزة، مشوِّقة، تنطق بوضوح وبساطة، بمنظومة قيم تربوية إنسانية عليا، وهذا ما جعل كثراً من المربِّين، في المدارس الرَّسميَّة والخاصَّة، يختارون نصوصاً، من هذه الرواية أو تلك، من رواياتها، ويدرجونها في كتب القراءة. إضافة الى أنَّ كثراً منهم اختاروا بعض رواياتها، وقرَّروها كتباً للمطالعة. وأعتقد أنَّ أيَّ طالب من طلَّاب «الزَّمن اللبناني الجميل» لم ينس «طيور أيلول». والجدير ذكره، في هذا الشَّأن، أنَّ «الهيئة الوطنيَّة للأونيسكو» أطلقت، في 28/4/2015، هذه الرِّواية للمكفوفين، مطبوعة بطريقة «البرايل».
تبدو إميلي نصرالله كأنَّها انسحبت إلى الظِّل، غير أنَّها كانت في النُّور تعطي وتبدع، في حياتها، وتبقى- بعد وفاتها- في سجلِّ الخالدين، أديبةً من كبار الأدباء الذين تُرجمت آثارهم إلى أكثر من لغة عالميَّة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.