محافظ مطروح يبحث مع وزير الإسكان استقرار مياه الشرب وتطوير مشروعات البنية التحتية    بعد بيانها الأخير.. ماذا يعني إعلان الأمم المتحدة المجاعة في غزة؟    الحرس الوطني الأمريكي يحشد قواته للانتشار في 19 ولاية    باكستان ترسل 100 طن من المساعدات الإنسانية إلى غزة    بعد خسارة السوبر السعودي.. عقدة رونالدو مستمرة مع النصر    النيابة تطلب تحريات غرق 6 فتيات وإصابة 24 أخريات بشاطئ أبو تلات في الإسكندرية    قصر ثقافة الأنفوشي يستضيف جولة جديدة لاكتشاف المواهب في «كورال وأوركسترا مصر الوطني» بقيادة سليم سحاب    جامعة كفر الشيخ تطلق قافلة طبية توعوية شاملة لقرية الرغامة    فحص 578 مواطنا ضمن قوافل طبية مجانية بالبحيرة    «هذا لا يقلقني».. تصريح مفاجئ من تشابي ألونسو عن برشلونة    الجندي يشدد على ضرورة تطوير أساليب إعداد وإخراج المحتوى العلمي لمجمع البحوث الإسلاميَّة    زلزال بقوة 6 درجات يضرب المحيط الهادئ قبالة سواحل السلفادور وجواتيمالا    غدا.. قصور الثقافة تطلق ملتقى دهب العربي الأول للرسم والتصوير بمشاركة 20 فنانا    صلاح عبد العاطي: إسرائيل تماطل في المفاوضات ومصر تكثف جهودها لوقف إطلاق النار    داعية: سيدنا النبي لم يكن عابسًا وكان مُتبَلِّجَ الوجه    الوفديون يتوافدون على ضريح سعد زغلول قبل احتفالية ذكرى رحيل زعماءه التاريخيين    توجيهات بالتنسيق مع إحدى الشركات لإقامة ملعب قانونى لكرة القدم بمركز شباب النصراب في أسوان    حالة الطقس في محافظة الفيوم غدا الأحد 24-8-2025    بحوث الصحراء.. دعم فني وإرشادي لمزارعي التجمعات الزراعية في سيناء    تفعيل البريد الموحد لموجهي اللغة العربية والدراسات الاجتماعية بالفيوم    إزالة لمزرعة سمكية مخالفة بجوار "محور 30" على مساحة 10 أفدنة بمركز الحسينية    15 صورة.. البابا تواضروس يدشن كنيسة الشهيد مارمينا بفلمنج شرق الإسكندرية    إسماعيل يوسف مديرا لشؤون الكرة في الاتحاد الليبي    إسلام جابر: لم أتوقع انتقال إمام عاشور للأهلي.. ولا أعرف موقف مصطفى محمد من الانتقال إليه    إسلام جابر: تجربة الزمالك الأفضل في مسيرتي.. ولست نادما على عدم الانتقال للأهلي    مصر القومي: الاعتداء على السفارات المصرية امتداد لمخططات الإخوان لتشويه صورة الدولة    "عبد الغفار" يتابع استعدادات "المؤتمر العالمي للسكان والصحة والتنمية البشرية -3"    وزارة النقل تناشد المواطنين عدم اقتحام المزلقانات أو السير عكس الاتجاه أثناء غلقها    «لازم إشارات وتحاليل للسائقين».. تامر حسني يناشد المسؤولين بعد حادث طريق الضبعة    «عامل وفني ومدرس».. إتاحة 267 فرصة عمل بالقليوبية (تفاصيل)    وزير العمل يتفقد وحدتي تدريب متنقلتين قبل تشغيلهما غدا بالغربية    «المركزي لمتبقيات المبيدات» ينظم ورشة عمل لمنتجي ومصدري الطماطم بالشرقية    وفاة سهير مجدي .. وفيفي عبده تنعيها    تم تصويره بالأهرامات.. قصة فيلم Fountain of Youth بعد ترشحه لجوائز LMGI 2025    مؤسسة فاروق حسني تطلق الدورة ال7 لجوائز الفنون لعام 2026    قلق داخلي بشأن صديق بعيد.. برج الجدي اليوم 23 أغسطس    منال عوض تناقش استعدادات استضافة مؤتمر الأطراف ال24 لحماية بيئة البحر الأبيض المتوسط من التلوث    موعد إجازة المولد النبوي 2025.. أجندة الإجازات الرسمية المتبقية للموظفين    كيف تكون مستجابا للدعاء؟.. واعظة بالأزهر توضح    مصر ترحب بخارطة الطريق الأممية لتسوية الأزمة الليبية    "قصص متفوتكش".. رسالة غامضة من زوجة النني الأولى.. ومقاضاة مدرب الأهلي السابق بسبب العمولات    الموت يغيب عميد القضاء العرفي الشيخ يحيى الغول الشهير ب "حكيم سيناء" بعد صراع مع المرض    الداخلية تكشف ملابسات اعتداء "سايس" على قائد دراجة نارية بالقاهرة    رئيس «الرعاية الصحية»: تقديم أكثر من 2.5 مليون خدمة طبية بمستشفيات الهيئة في جنوب سيناء    طقس الإمارات اليوم.. غيوم جزئية ورياح مثيرة للغبار على هذه المناطق    8 وفيات نتيجة المجاعة وسوء التغذية في قطاع غزة خلال ال24 ساعة الماضية    نور القلوب يضىء المنصورة.. 4 من ذوى البصيرة يبدعون فى مسابقة دولة التلاوة    محاضرة فنية وتدريبات خططية في مران الأهلي استعدادًا للمحلة    مصر تستضيف النسخة الأولى من قمة ومعرض "عالم الذكاء الاصطناعي" فبراير المقبل    حملة مكبرة لإزالة إشغالات الباعة الجائلين والتعديات على الطريق بمدينة أبوتيج بأسيوط    تحرير 125 محضرًا للمحال المخالفة لمواعيد الغلق الرسمية    "يونيسيف" تطالب إسرائيل بالوفاء بالتزاماتها والسماح بدخول المساعدات بالكميات اللازمة لغزة    الأوقاف: «صحح مفاهيمك» تتوسع إلى مراكز الشباب وقصور الثقافة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 23-8-2025 في محافظة قنا    إعلام فلسطينى: مصابون من منتظرى المساعدات شمال رفح الفلسطينية    تنسيق الجامعات 2025| مواعيد فتح موقع التنسيق لطلاب الشهادات المعادلة    «مياه الأقصر» تسيطر على بقعة زيت فى مياه النيل دون تأثر المواطنين أو إنقطاع الخدمة    سعر الأرز والسكر والسلع الأساسية في الأسواق اليوم السبت 23 أغسطس 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فيلم " تشرشل " أصغر من الزعيم وينستون تشرشل
نشر في صوت البلد يوم 31 - 07 - 2017

أحدث الأفلام التي ظهرت عن شخصية رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل، الفيلم البريطاني الجديد “تشرشل” (Churchill (2017 الذي أخرجه الأسترالي جوناثان تيبليتزكي، وفيه ينضم الممثل الأسكتلندي بريان كوكس إلى صف العمالقة الذين قاموا بدور تشرشل من قبل.
جاء عرض فيلم “تشرشل” في السادس من يونيو الماضي، وهو تاريخ محفور في الذاكرة البريطانية، بل وذاكرة العالم، ففي ذلك التاريخ من عام 1944 بدأت أكبر عملية عبور بحري وإنزال جوي متزامنين في التاريخ العسكري، شنتها قوات الحلفاء التي انطلقت من الشاطئ البريطاني إلى نورماندي الواقعة في شمال فرنسا المحتلة من قبل الألمان النازيين.
وهذه العملية هي أساس “الدراما” النفسية التي تتردد أصداؤها في هذا الفيلم، فليس من الممكن اعتبار “تشرشل” فيلما حربيا، فهو فقير للغاية في هذه الناحية، ولا يحاول مخرجه، ربما لضعف الميزانية التي توفرت له، أن يعرض ولو في لقطات عابرة سريعة، صورا “متخيلة” لعملية عسكرية بهذا الحجم.
عد تنازلي
يبدو من غير الموفق أن يكون عنوان الفيلم هو "تشرشل"، مما يوحي أنه فيلم من نوع أفلام السيرة الشخصية Biopic، بينما الحقيقة أنه يركز على مرحلة محددة ومحدودة في حياة بطله، أو بالأحرى أيام معدودة، وهو يواجه أكبر تحد واجهه خلال مسيرته الطويلة في العمل والحياة وكان حينئذ في التاسعة والستين من عمره، ومضى بعد ذلك، أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ليعيش حتى بلغ الثمانين.
يبدأ الفيلم وتشرشل يقف على شاطئ البحر (غالبا بحر المانش-القنال الإنكليزي) بعد أن بدأ قبل أربعة أيام، العد التنازلي لعملية غزو فرنسا، الرجل يتأمل مياه البحر.. تتطاير قبعته الشهيرة في الهواء وتسبح على صفحة الماء، يدفع الموج مياه البحر تجاه قدمي تشرشل، يتطلع إليها في فزع ليراها وقد اصطبغت بالدم، هذه الرؤية المفزعة تعكس الحالة الذهنية لتشرشل.
والفيلم بأكمله تصوير متخيل من قبل كاتبي السيناريو الأستراليين، لما يمكن أن يكون قد دار في ذهن ذلك الزعيم السياسي المحنك، وما كان يؤرقه في الواقع، لعدة أشهر قبل بدء العملية، وإن كان الفيلم يكثف هذه المشاعر المضطربة في بضعة أيام.
وتتناقض الصورة الداخلية التي يعرضها الفيلم لتشرشل مع الصورة الشائعة عنه، أي صورة الزعيم القوي المتماسك الذي يتمتع بالشجاعة والإقدام والقدرة على قيادة جيش بلاده إلى جانب القوة الأميركية الجبارة، نحو تحقيق النصر، ورفض أي تراجع أو تردد أو استسلام أمام زحف الجيوش الألمانية التي نجحت في احتلال أوروبا بأسرها وكانت تهدد أيضا الشواطئ البريطانية.
تشرشل الذي نراه هنا ضعيف، متردد، يعاني من شعورين متناقضين: أولا خشيته على "الأولاد" اليافعين من الجنود الشباب الذين قد يُقتل منهم عشرون ألفا على الأقل في الصدمة الأولى لهذه العملية الجبارة، وثانيا رغبته في الوقت نفسه في أن يتمتع بصورة الزعيم السياسي القادر على القيادة وتحقيق النصر.
إنه في تردده وتراجعه ورغبته في وقف العملية وسحب القوات ولو مؤقتا، يبدو خلال اجتماعه الأول (في الفيلم) مع أيزنهاور قائد قوات الحلفاء في أوروبا، ومونتغمري قائد القوات الأرضية البريطانية، رجلا مشتتا، واهنا، يعاني بشدة من أزمة ضمير تجعله لا يستطيع أن يتحمل المسؤولية (التاريخية) عن مقتل هذه الأعداد الضخمة من الجنود، بل ويغيب عنده الفارق بين دوره كسياسي، وبين دور العسكريين، مما يدفع أيزنهاور إلى أن يؤكد له مرة وراء مرة، أن وظيفة الجنود هي القتال والموت إن اقتضى الأمر، ولكنها ليست وظيفته.
ومستندا إلى موقف الملك جورج السادس الذي كان متعاطفا مع مخاوف تشرشل كما نرى في الفيلم، يصر تشرشل على إلغاء العملية، لكن العجلة تكون قد دارت بالفعل ولا مجال لسحب القوات من مواقعها الأمامية، وتبدو المواجهة مع القادة العسكريين مهينة لشخصية تشرشل إلى أقصى حد، لكنه الخيال السينمائي المباح. ويمكن للمرء بالطبع أن يتخيل ماذا يمكن أن يوجه من اتهامات بالتشويه والإهانة، وربما أيضا معاداة الوطن، لو تم تصوير شخصية زعيم سياسي عربي خاض معركة عسكرية مع العدو، على هذا النحو، وهو ما يغيب تماما على سبيل المثال، من فيلم مثل “السادات” لمحمد خان، أما هنا فنحن نرى المواجهة بين تشرشل والقادة العسكريين الذين يصرون على أن يضربوا برغبته عرض الحائط، رغم أنه “القائد الأعلى”، بل ويوبخونه ويستخدمون في مخاطبته اسمه مجردا كما يفعل أيزنهاور ومونتغمري في الفيلم طبعا!
هذه المواجهات المتكررة تعكس من ناحية أخرى كيف أصبح تشرشل في قبضة أصحاب اليد العليا في الحرب، أي الأميركيين الذين يمثلهم القائد الأعلى لقوات الحلفاء أيزنهاور، وكيف خرج الأمر من بين يدي تشرشل وأصبح في قبضة الجيش الأميركي، يقرر قائده ما سيحدث.
ويصور الفيلم تشرشل أسيرا لتجربته المباشرة في الحرب العالمية الأولى (حرب الخنادق)، وخشيته من استخدام الألمان الغازات السامة وشبح معركة غاليبولي التي مني فيها الحلفاء بهزيمة قاسية أمام الأتراك.
وبعد أن يخضع تشرشل للأمر الواقع، ويقبل على مضض “المذبحة” القادمة -كما يتخيل- يدفعه شعوره بالذنب لأن يصر على أن يكون في مقدمة القوات التي تعبر البحر بالزوارق والسفن الحربية جنبا إلى جنب مع الملك الذي يتصور أنه يؤيده في رغبته الجامحة، لكن هذه الرغبة التي يعلنها للقادة العسكريين لا تجلب له سوى المزيد من التوبيخ والإهانات، بل سرعان ما يخذله الملك نفسه ويفصح له في لقاء مباشر بينهما، كيف أن الحكمة السياسية تقتضي قيادة الشعب في تلك المواجهة المصيرية من داخل الوطن.. فالجبهة الداخلية بنفس أهمية الجبهة الخارجية وأن عليه أن يترك العمليات العسكرية للعسكريين.
ويصور الفيلم كذلك تشرشل وهو يعاني من أجل كتابة خطابه الذي سيزف فيه للشعب بدء عملية لتحرير أوروبا: كيف يقسو على مساعدته الشابة التي تطبع كلمات خطابه على الآلة الكاتبة، ويعكس عليها اضطرابه الداخلي وخشيته على مصير الجنود، ثم تكشف له هي أيضا أن خطيبها يقود مدمرة تتقدم القوات البحرية، ويكشف المشهد انعكاس مخاوف تشرشل على الروح المعنوية للفتاة التي ترمز إلى أبناء الشعب.
مشاعر متضاربة
يستعين تشرشل بالخمر تسكينا لشعوره بالألم، لكن زوجته كليمونتين (التي تقوم بدورها ميراندا ريتشارسون) تقول له بقسوة إن الخمر لن ينفعه، وأنه يجب أن يتماسك وأن يستدعي من داخله قوته الكامنة كزعيم يمتلك القدرة العبقرية على قيادة شعبه في تلك اللحظة، إنها تصل حتى إلى درجة أن تصفعه على وجهه لكي تدفعه لاستعادة صوابه.
الإطار الضيق للحدث في الفيلم ينحصر في تصوير المعاناة الداخلية لزعيم عظيم في لحظة صدام دموي عنيف قادم قد يغير التاريخ، ولكنه يمكن أيضا أن ينقلب ليصبح هزيمة قاسية.
وهذا التردد "الهاملتي" بين ما يفرضه الواجب، وبين المشاعر الطبيعية، يجعل الفيلم أقرب إلى مسرح الشخصية الواحدة التي تصبح الشخصيات المحيطة بها مجرد عوامل مساعدة لتفجير أزمتها أو محاولة احتوائها، وهنا يقع العبء الأكبر في الفيلم على عاتق الممثل بريان كوكس، الذي يعبر عن الشخصية أفضل تعبير، سواء في طريقة مشيته أو نظراته وتأملاته أو صراخه وانفجارات غضبه، إنه ينتقل في الأداء من القسوة على النفس، إلى القسوة على الآخرين، ثم نراه في جولاته المنفردة الحائرة على الشاطئ وهو يصحو من غفوته داخل السيارة على مجموعة من الأطفال يشيرون له بعلامة النصر الشهيرة التي ترتبط بشخصيته.
ورغم الأداء البارع من جانب الممثل، تكمن المشكلة الرئيسية في ضعف صور الفيلم ومناظره ومحدودية الأماكن التي يدور فيها التصوير، وعدم القدرة على الإحاطة بالحدث الكبير كما كان ينبغي حتى في تصوير زيارة تشرشل للقوات الأمامية، فقد بدا المشهد هزيلا.
ويعاني الفيلم أيضا من تكرار الفكرة من خلال تكرار الحوار ومعانيه، أي التعبير عن تردد تشرشل واضطرابه وخشيته من عواقب العملية، كما تبدو حواراته في هذا السياق أقرب إلى “المونولوغ” في مسرح الغرفة ومونودرامات الشخصية الواحدة.
ورغم ما بذله بريان كوكس من جهد هائل في إكساب الشخصية مشاعرها الإنسانية إلاّ أن ضعف السيناريو وهشاشة بناء الشخصية ومحدودية الحدث، جعلته يغرد منفردا دون صدى حقيقي، وضاع بالتالي التأثير الفني الذي كان متوقعا للفيلم.
أحدث الأفلام التي ظهرت عن شخصية رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل، الفيلم البريطاني الجديد “تشرشل” (Churchill (2017 الذي أخرجه الأسترالي جوناثان تيبليتزكي، وفيه ينضم الممثل الأسكتلندي بريان كوكس إلى صف العمالقة الذين قاموا بدور تشرشل من قبل.
جاء عرض فيلم “تشرشل” في السادس من يونيو الماضي، وهو تاريخ محفور في الذاكرة البريطانية، بل وذاكرة العالم، ففي ذلك التاريخ من عام 1944 بدأت أكبر عملية عبور بحري وإنزال جوي متزامنين في التاريخ العسكري، شنتها قوات الحلفاء التي انطلقت من الشاطئ البريطاني إلى نورماندي الواقعة في شمال فرنسا المحتلة من قبل الألمان النازيين.
وهذه العملية هي أساس “الدراما” النفسية التي تتردد أصداؤها في هذا الفيلم، فليس من الممكن اعتبار “تشرشل” فيلما حربيا، فهو فقير للغاية في هذه الناحية، ولا يحاول مخرجه، ربما لضعف الميزانية التي توفرت له، أن يعرض ولو في لقطات عابرة سريعة، صورا “متخيلة” لعملية عسكرية بهذا الحجم.
عد تنازلي
يبدو من غير الموفق أن يكون عنوان الفيلم هو "تشرشل"، مما يوحي أنه فيلم من نوع أفلام السيرة الشخصية Biopic، بينما الحقيقة أنه يركز على مرحلة محددة ومحدودة في حياة بطله، أو بالأحرى أيام معدودة، وهو يواجه أكبر تحد واجهه خلال مسيرته الطويلة في العمل والحياة وكان حينئذ في التاسعة والستين من عمره، ومضى بعد ذلك، أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ليعيش حتى بلغ الثمانين.
يبدأ الفيلم وتشرشل يقف على شاطئ البحر (غالبا بحر المانش-القنال الإنكليزي) بعد أن بدأ قبل أربعة أيام، العد التنازلي لعملية غزو فرنسا، الرجل يتأمل مياه البحر.. تتطاير قبعته الشهيرة في الهواء وتسبح على صفحة الماء، يدفع الموج مياه البحر تجاه قدمي تشرشل، يتطلع إليها في فزع ليراها وقد اصطبغت بالدم، هذه الرؤية المفزعة تعكس الحالة الذهنية لتشرشل.
والفيلم بأكمله تصوير متخيل من قبل كاتبي السيناريو الأستراليين، لما يمكن أن يكون قد دار في ذهن ذلك الزعيم السياسي المحنك، وما كان يؤرقه في الواقع، لعدة أشهر قبل بدء العملية، وإن كان الفيلم يكثف هذه المشاعر المضطربة في بضعة أيام.
وتتناقض الصورة الداخلية التي يعرضها الفيلم لتشرشل مع الصورة الشائعة عنه، أي صورة الزعيم القوي المتماسك الذي يتمتع بالشجاعة والإقدام والقدرة على قيادة جيش بلاده إلى جانب القوة الأميركية الجبارة، نحو تحقيق النصر، ورفض أي تراجع أو تردد أو استسلام أمام زحف الجيوش الألمانية التي نجحت في احتلال أوروبا بأسرها وكانت تهدد أيضا الشواطئ البريطانية.
تشرشل الذي نراه هنا ضعيف، متردد، يعاني من شعورين متناقضين: أولا خشيته على "الأولاد" اليافعين من الجنود الشباب الذين قد يُقتل منهم عشرون ألفا على الأقل في الصدمة الأولى لهذه العملية الجبارة، وثانيا رغبته في الوقت نفسه في أن يتمتع بصورة الزعيم السياسي القادر على القيادة وتحقيق النصر.
إنه في تردده وتراجعه ورغبته في وقف العملية وسحب القوات ولو مؤقتا، يبدو خلال اجتماعه الأول (في الفيلم) مع أيزنهاور قائد قوات الحلفاء في أوروبا، ومونتغمري قائد القوات الأرضية البريطانية، رجلا مشتتا، واهنا، يعاني بشدة من أزمة ضمير تجعله لا يستطيع أن يتحمل المسؤولية (التاريخية) عن مقتل هذه الأعداد الضخمة من الجنود، بل ويغيب عنده الفارق بين دوره كسياسي، وبين دور العسكريين، مما يدفع أيزنهاور إلى أن يؤكد له مرة وراء مرة، أن وظيفة الجنود هي القتال والموت إن اقتضى الأمر، ولكنها ليست وظيفته.
ومستندا إلى موقف الملك جورج السادس الذي كان متعاطفا مع مخاوف تشرشل كما نرى في الفيلم، يصر تشرشل على إلغاء العملية، لكن العجلة تكون قد دارت بالفعل ولا مجال لسحب القوات من مواقعها الأمامية، وتبدو المواجهة مع القادة العسكريين مهينة لشخصية تشرشل إلى أقصى حد، لكنه الخيال السينمائي المباح. ويمكن للمرء بالطبع أن يتخيل ماذا يمكن أن يوجه من اتهامات بالتشويه والإهانة، وربما أيضا معاداة الوطن، لو تم تصوير شخصية زعيم سياسي عربي خاض معركة عسكرية مع العدو، على هذا النحو، وهو ما يغيب تماما على سبيل المثال، من فيلم مثل “السادات” لمحمد خان، أما هنا فنحن نرى المواجهة بين تشرشل والقادة العسكريين الذين يصرون على أن يضربوا برغبته عرض الحائط، رغم أنه “القائد الأعلى”، بل ويوبخونه ويستخدمون في مخاطبته اسمه مجردا كما يفعل أيزنهاور ومونتغمري في الفيلم طبعا!
هذه المواجهات المتكررة تعكس من ناحية أخرى كيف أصبح تشرشل في قبضة أصحاب اليد العليا في الحرب، أي الأميركيين الذين يمثلهم القائد الأعلى لقوات الحلفاء أيزنهاور، وكيف خرج الأمر من بين يدي تشرشل وأصبح في قبضة الجيش الأميركي، يقرر قائده ما سيحدث.
ويصور الفيلم تشرشل أسيرا لتجربته المباشرة في الحرب العالمية الأولى (حرب الخنادق)، وخشيته من استخدام الألمان الغازات السامة وشبح معركة غاليبولي التي مني فيها الحلفاء بهزيمة قاسية أمام الأتراك.
وبعد أن يخضع تشرشل للأمر الواقع، ويقبل على مضض “المذبحة” القادمة -كما يتخيل- يدفعه شعوره بالذنب لأن يصر على أن يكون في مقدمة القوات التي تعبر البحر بالزوارق والسفن الحربية جنبا إلى جنب مع الملك الذي يتصور أنه يؤيده في رغبته الجامحة، لكن هذه الرغبة التي يعلنها للقادة العسكريين لا تجلب له سوى المزيد من التوبيخ والإهانات، بل سرعان ما يخذله الملك نفسه ويفصح له في لقاء مباشر بينهما، كيف أن الحكمة السياسية تقتضي قيادة الشعب في تلك المواجهة المصيرية من داخل الوطن.. فالجبهة الداخلية بنفس أهمية الجبهة الخارجية وأن عليه أن يترك العمليات العسكرية للعسكريين.
ويصور الفيلم كذلك تشرشل وهو يعاني من أجل كتابة خطابه الذي سيزف فيه للشعب بدء عملية لتحرير أوروبا: كيف يقسو على مساعدته الشابة التي تطبع كلمات خطابه على الآلة الكاتبة، ويعكس عليها اضطرابه الداخلي وخشيته على مصير الجنود، ثم تكشف له هي أيضا أن خطيبها يقود مدمرة تتقدم القوات البحرية، ويكشف المشهد انعكاس مخاوف تشرشل على الروح المعنوية للفتاة التي ترمز إلى أبناء الشعب.
مشاعر متضاربة
يستعين تشرشل بالخمر تسكينا لشعوره بالألم، لكن زوجته كليمونتين (التي تقوم بدورها ميراندا ريتشارسون) تقول له بقسوة إن الخمر لن ينفعه، وأنه يجب أن يتماسك وأن يستدعي من داخله قوته الكامنة كزعيم يمتلك القدرة العبقرية على قيادة شعبه في تلك اللحظة، إنها تصل حتى إلى درجة أن تصفعه على وجهه لكي تدفعه لاستعادة صوابه.
الإطار الضيق للحدث في الفيلم ينحصر في تصوير المعاناة الداخلية لزعيم عظيم في لحظة صدام دموي عنيف قادم قد يغير التاريخ، ولكنه يمكن أيضا أن ينقلب ليصبح هزيمة قاسية.
وهذا التردد "الهاملتي" بين ما يفرضه الواجب، وبين المشاعر الطبيعية، يجعل الفيلم أقرب إلى مسرح الشخصية الواحدة التي تصبح الشخصيات المحيطة بها مجرد عوامل مساعدة لتفجير أزمتها أو محاولة احتوائها، وهنا يقع العبء الأكبر في الفيلم على عاتق الممثل بريان كوكس، الذي يعبر عن الشخصية أفضل تعبير، سواء في طريقة مشيته أو نظراته وتأملاته أو صراخه وانفجارات غضبه، إنه ينتقل في الأداء من القسوة على النفس، إلى القسوة على الآخرين، ثم نراه في جولاته المنفردة الحائرة على الشاطئ وهو يصحو من غفوته داخل السيارة على مجموعة من الأطفال يشيرون له بعلامة النصر الشهيرة التي ترتبط بشخصيته.
ورغم الأداء البارع من جانب الممثل، تكمن المشكلة الرئيسية في ضعف صور الفيلم ومناظره ومحدودية الأماكن التي يدور فيها التصوير، وعدم القدرة على الإحاطة بالحدث الكبير كما كان ينبغي حتى في تصوير زيارة تشرشل للقوات الأمامية، فقد بدا المشهد هزيلا.
ويعاني الفيلم أيضا من تكرار الفكرة من خلال تكرار الحوار ومعانيه، أي التعبير عن تردد تشرشل واضطرابه وخشيته من عواقب العملية، كما تبدو حواراته في هذا السياق أقرب إلى “المونولوغ” في مسرح الغرفة ومونودرامات الشخصية الواحدة.
ورغم ما بذله بريان كوكس من جهد هائل في إكساب الشخصية مشاعرها الإنسانية إلاّ أن ضعف السيناريو وهشاشة بناء الشخصية ومحدودية الحدث، جعلته يغرد منفردا دون صدى حقيقي، وضاع بالتالي التأثير الفني الذي كان متوقعا للفيلم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.