موعد إجازة المولد النبوي الشريف 2025 بحسب أجندة رئاسة الجمهورية    عيار 21 الآن.. أسعار الذهب اليوم في مصر الأحد 17 أغسطس 2025 بعد خسارة 1.7% عالميًا    حياة كريمة.. 4 آبار مياه شرب تقضى على ضعفها بقرية الغريزات ونجوعها بسوهاج    اليوم، البورصة المصرية تطلق رسميا أول تطبيق لها على الهواتف المحمولة    السيسي يوجه بزيادة الإنفاق على الحماية الاجتماعية والصحة والتعليم    سعر صرف الدولار مقابل الجنيه المصري بعد هبوطه عالميًا    وزير الإسكان يتفقد مشروع "سكن لكل المصريين" و"كوبري C3" بالعلمين الجديدة    زلزال يضرب مدينة الأغواط الجزائرية    استئناف إدخال شاحنات المساعدات إلي قطاع غزة    خالد الغندور يكشف ردًا مفاجئًا من ناصر ماهر بشأن مركزه في الزمالك    مشيرة إسماعيل تكشف كواليس تعاونها مع عادل إمام: «فنان ملتزم جدًا في عمله»    100 عام على ميلاد هدى سلطان ست الحسن    للتخلص من الملوثات التي لا تستطيع رؤيتها.. استشاري يوضح الطريق الصحيحة لتنظيف الأطعمة    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الأحد 17 أغسطس 2025    الأهلي يعلن تفاصيل إصابة محمد علي بن رمضان لاعب الفريق    10 صور لتصرف غريب من حسام عبد المجيد في مباراة الزمالك والمقاولون العرب    خروج يانيك فيريرا من مستشفى الدفاع الجوى بعد إجرائه بعض الفحوصات الطبية    تامر عبد الحميد يوجه انتقادات قوية للزمالك بعد التعادل مع المقاولون العرب    مصرع سيدة وإصابة 9 آخرين فى حادث مرورى بين سيارة أجرة وتروسيكل بالإسكندرية    فرح يتحوّل إلى جنازة.. مصرع 4 شباب وإصابة آخرين خلال زفة عروسين بالأقصر    كانوا في زفة عريس.. مصرع وإصابة 6 أشخاص إثر حادث مروع بالأقصر    7 شهداء فى غارة على ساحة المستشفى المعمدانى بمدينة غزة    وزير خارجية روسيا يبحث مع نظيريه التركي والمجري نتائج قمة ألاسكا    صربيا تشتعل، متظاهرون يشعلون النار بالمباني الحكومية ومقر الحزب الحاكم في فالييفو (فيديو)    وكيل صحة سوهاج يصرف مكافأة تميز لطبيب وممرضة بوحدة طب الأسرة بروافع القصير    رويترز: المقترح الروسي يمنع أوكرانيا من الانضمام للناتو ويشترط اعتراف أمريكا بالسيادة على القرم    مصرع شابين وإصابة آخر في حادث انقلاب دراجة بخارية بأسوان    أبطال واقعة "الليلة بكام"، قرار جديد ضد المتهمين بمطاردة طبيبة وأسرتها بالشرقية    موعد ومكان تشييع جنازة مدير التصوير تيمور تيمور ويسرا تعتذر عن عدم الحضور    تدق ناقوس الخطر، دراسة تكشف تأثير تناول الباراسيتامول أثناء الحمل على الخلايا العصبية للأطفال    8 ورش فنية في مهرجان القاهرة التجريبي بينها فعاليات بالمحافظات    في تبادل إطلاق النيران.. مصرع تاجر مخدرات بقنا    رابط نتيجة تقليل الاغتراب.. موعد بدء تنسيق المرحلة الثالثة 2025 والكليات والمعاهد المتاحة فور اعتمادها    ملف يلا كورة.. تعثر الزمالك.. قرار فيفا ضد الأهلي.. وإصابة بن رمضان    الداخلية تكشف حقيقة مشاجرة أمام قرية سياحية بمطروح    رئيس جامعة المنيا يبحث التعاون الأكاديمي مع المستشار الثقافي لسفارة البحرين    لأول مرة بجامعة المنيا.. إصدار 20 شهادة معايرة للأجهزة الطبية بمستشفى الكبد والجهاز الهضمي    رئيس الأوبرا: واجهنا انتقادات لتقليص أيام مهرجان القلعة.. مش بأيدينا وسامحونا عن أي تقصير    توقعات الأبراج حظك اليوم الأحد 17 أغسطس 2025.. مفاجآت الحب والمال والعمل لكل برج    تعليق مثير فليك بعد فوز برشلونة على مايوركا    المصرية للاتصالات تنجح في إنزال الكابل البحري "كورال بريدج" بطابا لأول مرة لربط مصر والأردن.. صور    أول يوم «ملاحق الثانوية»: تداول امتحانات «العربي» و«الدين» على «جروبات الغش الإلكتروني»    شهداء ومصابون في غارة للاحتلال وسط قطاع غزة    «أوحش من كدا إيه؟».. خالد الغندور يعلق على أداء الزمالك أمام المقاولون    مي عمر على البحر ونسرين طافش بفستان قصير.. 10 لقطات لنجوم الفن خلال 24 ساعة    كيف تتعاملين مع الصحة النفسية للطفل ومواجهة مشكلاتها ؟    هل يجوز إخراج الزكاة في بناء المساجد؟.. أمين الفتوى يجيب    بريطانيا تحاكم عشرات الأشخاص لدعمهم حركة «فلسطين أكشن»    «زي النهارده».. وفاة البابا كيرلس الخامس 17 أغسطس 1927    "عربي مكسر".. بودكاست على تليفزيون اليوم السابع مع باسم فؤاد.. فيديو    يسري جبر يوضح ضوابط أكل الصيد في ضوء حديث النبي صلى الله عليه وسلم    عاوزه ألبس الحجاب ولكني مترددة؟.. أمين الفتوى يجيب    حزن ودعوات| المئات يشيعون جثمان «شهيد العلم» في قنا    القائد العام للقوات المسلحة: المقاتل المصري أثبت جدارته لصون مقدرات الوطن وحماية حدوده    وزير الأوقاف: مسابقة "دولة التلاوة" لاكتشاف أصوات ذهبية تبهر العالم بتلاوة القرآن الكريم    الشيخ خالد الجندي: الإسلام دين شامل ينظم شؤون الدنيا والآخرة ولا يترك الإنسان للفوضى    الإصلاح والنهضة يواصل تلقي طلبات الترشح لعضوية مجلس النواب عبر استمارة إلكترونية    وزير الري يتابع موقف التعامل مع الأمطار التي تساقطت على جنوب سيناء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



متتاليات الرؤى واختلافاتها المتواترة في وصية الصلوي
نشر في صوت البلد يوم 27 - 05 - 2017

يعدّ هاني الصلوي تجربة مائزة في الشعر اليمني فالعربي فالحديث، فهو يذهبْ بالنص الشعري إلى فضاءات أخرى بعيدًا عن التقليد وعن الصور الرتيبة. إذ يشكل هذا الشاعر مدرسة حداثية متفردة تتيح للدارس والمتلقي على حدٍ سواء فرصة الاستمتاع والتلذذ بعبق النص واهتزازاته0
خير نموذج تمكن دراسته من نصوص الشاعر للبرهنة على ما قررناه آنفًا أو رصدناه "سيان" هو نص "وصية بليس كمثل قالوا البنات" المنشور في مجموعته السابعة "الأخيرة"، وأعني مجموعته "رقبة مسالمة تخرج من تحت أظافري" المنشورة 2016. حيث يشكل النص ملحمة من القلق الوجودي والمتناقضات: الحياة، الموت، الزمن والمكان وتذبذب الرؤى وهذا التذبذب يولّد خلخلة في ذهنية المتلقي لكسر نمطية تلقي النص.
من القراءة الأولية للنص نجد المرحلة الظاهرية "التي ما تلبث أن تتكشف" ترتبط بشكل وثيق بالمؤثرات الخارجية كشكل النص البصري وهندسته التركيبية وعنوانه، سوف ابتعد عن العتبات النصية والقراءة البصرية للنص والتعالق النصي واكتفي بتحليل الخطاب وبنيوية النص ويكفي القول هنا إن النص بشكله البصري وتشكيل البياض يمثل لوحة متزاحمة بالسواد.
العنوان "وصية ليس كمثل قالوا البنات" مغاير تماما لجميع العناوين المألوفة لدى أغلبية الشعراء وهي عادة يتفرد بها الصلوي في عنونة قصائده ومجموعاته الشعرية. فالعنوان جملة تحمل بين طياتها حالة وجودية تبدو مكررة، فكلمة وصية تدل على وجود مرحلة فراق آتية بعدها إما موت تام أو ابتعاد الموصي مكانيا عن المُوصَى، وإضافة عبارة "ليس كمثل قالوا البنات" إلى وصية هذه الإضافة كسرت حدة الإيحاء الدلالي لتلك المفردة وأوجدت شحنة دلالية زمكانية أوحت بالعودة إلى مرحلة الطفولة والمراهقة بوصفهما زمنا وإلى المهد "موطن الشاعر الأول" بوصفه مكانا.
يستهل الشاعر النص بالتسويف "سوف أترك لكِ حينما أنفق تجاعيدي كلها" حيث لم يتطرق الشاعر إلى الموت بصورة مباشرة، وأشار إلى تقادم العمر الذي يأتي الموت كنهاية حتمية لذلك التقادم متحدثا عن التجاعيد الدالة على الزمن المعاش وهو مرحلة زمنية ليست بالقصيرة. "لتوزيعيها على المنحدرين من النهر" النهر الذي يرمز للحياة والتجدد والاستمراية، النهر المرتبط بالتعميد بالمفهوم الديني في التراث المسيحي، "المنحدرون من النهر" نهر الشاعر الذي جعله أصلاً وجذرا لتلك السلالة.بدأ الشاعر بتفصيل تجاعيده "سنوات عمره" و توزيعها ثم أسند لكل واحدة شكلا ولونا وحالة، "الحادة" التي ستكون سكيناً تقطع أيادي لصوص العسل "المدببة للنحيفات" خوفاً على أجسادهن من الاصطكاك "السهلة للمصطافين، المحمرة للغرقى، المحدثة للجدات، الملساء لعازف البيانو المكتئب القصية للمطلقات، القهوية لأبناء الفأرة سهام، اللواتي سيتبعنني إلى اللحد للمشيعين، البدائل لأشجار السنف والبنج البلدي، المستعجلة للخيالة".
حرص الشاعر على اختيار شكل ولون وحالة كل تجعيدة (مرحلة عمرية) وأسند لكل تجعيدة ما يوافقها فمثلا السهلة للمصطافين، المصطافون الذين يعيشون حالة ترف ويحبون الحياة السهلة، المحمرة للغرقى بوصفها وجبة ساخنة تذهب عنهم عناء الغرق وبرودة الماء، المحدثة للجدات اللواتي يطمحن بعودتهن إلى سن الشباب أو البقاء أحياء لفترة أطول، القصية للمطلقات ليمنحهن زاوية قصية بعيدا عن الظلم الاجتماعي، القهوية لأبناء الفأرة سهام الذين كثيرا ما ترسلهم سهام إلى بيت الشاعر في طفولته يقترضون بعض القهوة ومتطلبات المطبخ.
لوّن الشاعر تجاعيد هذه المرحلة بلون القهوة "سنوات غبراء" تدل على القحط والتصحر وأرفق لفظة الفأرة على جارته والتي تتصرف كالفأر الذي لا يترك شيئا إلا وقضمه.
"اللواتي سيتبعنني إلى اللحد للمشيعين" وهب تلك التجاعيد الأخيرة للمشيعين الذين في العادة سيتحدثون عنه بنميمة أثناء الجنازة كأنه لم يترك لهم شيئاً عقوبة على النميمة.
إن استخدام الشاعر للفظة التجاعيد - ووصفها - بدلا عن السنين وإسناد كل مرحلة عمرية "تجعيدة" لفئات المنحدرين من النهر جعلت للنص هندسة تخيلية تشير إلى عدم عفوية النص ونعد ذلك ميزةً لا عيباً، كما أن الشاعر استخدم بلا وعي أسلوب الدالة الجيبية sin x في الرياضيات وتأخذ شكل الموجة المنطلقة من القيمة الصفرية إلى أعلى نقطة وهي الواحد ثم تعود إلى الصفر وتنحدر إلى أدنى قيمة، هذه الانقلابات تشير إلى الإيقاع في النص الذي حدث على مستوى الدلالة لا اللفظ.
للنص جانب نفسي يتمثل بحالة القلق من الموت قد لا يكون موتا حقيقيا مما يعني أن مناخ النص يشير لفترة كتابته وهي فترة زمكانية كان الشاعر شبه منفي عن مكان إقامته المعتادة، بمعنى أن هنالك اغترابًأ قسريًا. هذا التوجس داخل النص أبرز رغبة الشاعر بالعودة إلى المهد أو اللحد، واستدعى كل مراحله العمرية ك "فلاش باك" ليرى من خلاله بوصفه محتضراً كل مراحله وأحداثه القديمة.
ويمكن تفكيك النص إلى أربعة محاور هي:
1. تشظي الذات الشاعرة التي اعتمدت الحوار مع الآخر والمنحدرين من النهر وكل الشخوص في النص.
2. العودة إلى الماضي والصراع مع الحاضر والمستقبل والرؤية المكانية التي تتداخل مع تلك الأزمنة.
3. التناقضات والنفي وعدم التأكد وهو مبدأ فلسفي كأنه يمثل نظرية الشك الديكارتية ويمكن ملاحظة ذلك من خلال التضادات اللفظية والدلالية.
4. التسويف والحركة الدراماتيكية التي تشكلها الأفعال في النص كأفعال الأمر والماضي.
في النص هنالك وحدات دلالية وقضايا وأفكار عن الموت والحياة عن الماضي والمستقبل والحاضر، هنالك صور وتراكيب تمثل متوالية هندسية تتعاقب لرسم مدى واسعاُ للمتلقي وخلق بيئة تجعل القارئ جزءًا من النص فيتعايش مع كل تلك المراحل.
نستطيع القول إن معجم الشاعر هاني الصلوي اللغوي وحقوله الدلالية وأسلوبه المميز في بناء النص ينم عن وعي كامل بالحداثة ودراستها بعمق، كما أن استخدامه لفعل الأمر بتلك الحرفية، فإنه يدل على وعي الشاعر بمدى تأثير هذا الفعل بعد "سوف" على دينمائية النص:
"سوف أدع انفي على برتقالة البيت للمراقبة"
يستخدم الشاعر الانزياح الدلالي للفضولي الذي يدس أنفه في كل شيء فيصبح الأنف كبيرًا بحجم برتقالة، أو وضعه على مقبض الباب الكروي الذي يخذ شكل البرتقالة ويراقب من خلف ثقب الباب.. سوف أترك قفاي لتضليل الشرطة ودعاة الموت الرحيم وشهادة وفاتي مفردة قفاي ويقصد بها المؤخرة تدل على انحراف وشذوذ الشرطة والأطباء وكتاب المحاكم الذين لم يحترموا عملهم ومهنهم التي يجب أن تكون خدمية.
انحني بذكاء مفرطة
تجلدي كما يليق بوصية
إرقصي في العزاء
كل فعل أمر هنا يقابله مغايرة للفعل.. قولي لهم: عاش يحب أيوب طارش عبسي وجبريل والثلاثة الكوكباني هذا السطر يخبرنا بالكثير كأنه يفصح عن حالة الشاعر السياسية والدينية والعاطفية، فأيوب طارش يمثل لوناً غنائياً عاطفيا ووطنيا ويمثل تركيبة سكانية كبيرة في اليمن وهو من نفس مدينة الشاعر، الثلاثة الكوكباني يمثلون لوناً غنائيا آخر ومنطقة جغرافية وسكانية مختلفة، أي أن ايوب والثلاثة يمثلون اليمن بكل اختلافته.
أما جبريل والذي أفضل أن يقصد به الشاعر" جبريل حامل الرسالات فيدل كل ذلك على أن الشاعر يريد القول: أحب هذا الوطن بكل تنوعاته وأحب الفن وأؤمن بكل الرسالات السماوية.
ظل الشاعر يحب ذلك الوطن لايقاسمه شريك إلى أن انفجرت امرأة في قلبه عجز الحكماء عن شفطها منه.." انفجرت امرأة في قلبه".
صورة مدهشة في غاية الانسجام تدل على الانفجار العظيم الذي يشبه الانفجار الكوني Big Bang وتشكل الكون آنذاك لكن هنا تكّون الكون الآخر الذي أراده الشاعر، فالمرأة سر الحياة والقلب مكمن الحب والرجل المكمل لهما، ثلاثية الديمومة والتي تعني بالنزوع الانساني، فقد استطاع الشاعر أن يقولبها بقالب جميل ليستبعد أن تذهب تلك الصيرورة حيث عجز الحكماء عن شفطها منه.
عني معجم الصلوي باليومي وهو يرافق الأحداث المعاصرة بدليل هذه المفردات: الانفجارات، شفط الدهون، الشظايا، الإرهاب، الرصاص الحي،.. ثم يدخل الشاعر في محور العودة إلى الماضي:
شب وهو يرعى القيقب ألقمته العزلة
افتتح حياته يكمن لأعقاب السجائر يشتري بها فضول العذارى.
أحداث غالبا ما مرّ بها الجميع لكن الشاعر استخدم تلك الصور والمجازات لرسم تلك المرحلة بحلوها ومرها منتقلًا إلى مرحلة التناقضات:
العدل ألا تلتفتي أبدا ... حب مستحيل
الوردة ألا تبلغي العطر
النشيد ألا يصل الصوت
فمي ألا اكون ثرثارًا
الحلاج أن أحتاج مزرعة للدلافين
الحصان سيرها راجلة
الكتب للأرصفة
حملّيهم أبناء النهر دمي واطلبي الثأر "أخبريهم أنه جنى على نفسه بالتطير وهو يجني الزهايمر في الأساطير والملاحم.. مات فولد فمات فمات فمات فمات فمات َ.. فعاش.
يختم الصلوي نصه بثنائية الموت والحياة وهي الصيرورة الأبدية التي جعلت من النص وحدة عضوية تراجيدية ابتداءً بالعنوان إلى أن انتهت فعاش. يمكننا إذن القول في الختام: إن الشاعر الصلوي خلق نصاً ابداعياً صب فيه كل خبرته الكتابية والإبداعية لرسم لوحة رائعة قلما نجد مثلها ومثل من يستطيع تلوينها بكل التفاصيل.
أحمد الفلاحي شاعر وأكاديمي يمني
يعدّ هاني الصلوي تجربة مائزة في الشعر اليمني فالعربي فالحديث، فهو يذهبْ بالنص الشعري إلى فضاءات أخرى بعيدًا عن التقليد وعن الصور الرتيبة. إذ يشكل هذا الشاعر مدرسة حداثية متفردة تتيح للدارس والمتلقي على حدٍ سواء فرصة الاستمتاع والتلذذ بعبق النص واهتزازاته0
خير نموذج تمكن دراسته من نصوص الشاعر للبرهنة على ما قررناه آنفًا أو رصدناه "سيان" هو نص "وصية بليس كمثل قالوا البنات" المنشور في مجموعته السابعة "الأخيرة"، وأعني مجموعته "رقبة مسالمة تخرج من تحت أظافري" المنشورة 2016. حيث يشكل النص ملحمة من القلق الوجودي والمتناقضات: الحياة، الموت، الزمن والمكان وتذبذب الرؤى وهذا التذبذب يولّد خلخلة في ذهنية المتلقي لكسر نمطية تلقي النص.
من القراءة الأولية للنص نجد المرحلة الظاهرية "التي ما تلبث أن تتكشف" ترتبط بشكل وثيق بالمؤثرات الخارجية كشكل النص البصري وهندسته التركيبية وعنوانه، سوف ابتعد عن العتبات النصية والقراءة البصرية للنص والتعالق النصي واكتفي بتحليل الخطاب وبنيوية النص ويكفي القول هنا إن النص بشكله البصري وتشكيل البياض يمثل لوحة متزاحمة بالسواد.
العنوان "وصية ليس كمثل قالوا البنات" مغاير تماما لجميع العناوين المألوفة لدى أغلبية الشعراء وهي عادة يتفرد بها الصلوي في عنونة قصائده ومجموعاته الشعرية. فالعنوان جملة تحمل بين طياتها حالة وجودية تبدو مكررة، فكلمة وصية تدل على وجود مرحلة فراق آتية بعدها إما موت تام أو ابتعاد الموصي مكانيا عن المُوصَى، وإضافة عبارة "ليس كمثل قالوا البنات" إلى وصية هذه الإضافة كسرت حدة الإيحاء الدلالي لتلك المفردة وأوجدت شحنة دلالية زمكانية أوحت بالعودة إلى مرحلة الطفولة والمراهقة بوصفهما زمنا وإلى المهد "موطن الشاعر الأول" بوصفه مكانا.
يستهل الشاعر النص بالتسويف "سوف أترك لكِ حينما أنفق تجاعيدي كلها" حيث لم يتطرق الشاعر إلى الموت بصورة مباشرة، وأشار إلى تقادم العمر الذي يأتي الموت كنهاية حتمية لذلك التقادم متحدثا عن التجاعيد الدالة على الزمن المعاش وهو مرحلة زمنية ليست بالقصيرة. "لتوزيعيها على المنحدرين من النهر" النهر الذي يرمز للحياة والتجدد والاستمراية، النهر المرتبط بالتعميد بالمفهوم الديني في التراث المسيحي، "المنحدرون من النهر" نهر الشاعر الذي جعله أصلاً وجذرا لتلك السلالة.بدأ الشاعر بتفصيل تجاعيده "سنوات عمره" و توزيعها ثم أسند لكل واحدة شكلا ولونا وحالة، "الحادة" التي ستكون سكيناً تقطع أيادي لصوص العسل "المدببة للنحيفات" خوفاً على أجسادهن من الاصطكاك "السهلة للمصطافين، المحمرة للغرقى، المحدثة للجدات، الملساء لعازف البيانو المكتئب القصية للمطلقات، القهوية لأبناء الفأرة سهام، اللواتي سيتبعنني إلى اللحد للمشيعين، البدائل لأشجار السنف والبنج البلدي، المستعجلة للخيالة".
حرص الشاعر على اختيار شكل ولون وحالة كل تجعيدة (مرحلة عمرية) وأسند لكل تجعيدة ما يوافقها فمثلا السهلة للمصطافين، المصطافون الذين يعيشون حالة ترف ويحبون الحياة السهلة، المحمرة للغرقى بوصفها وجبة ساخنة تذهب عنهم عناء الغرق وبرودة الماء، المحدثة للجدات اللواتي يطمحن بعودتهن إلى سن الشباب أو البقاء أحياء لفترة أطول، القصية للمطلقات ليمنحهن زاوية قصية بعيدا عن الظلم الاجتماعي، القهوية لأبناء الفأرة سهام الذين كثيرا ما ترسلهم سهام إلى بيت الشاعر في طفولته يقترضون بعض القهوة ومتطلبات المطبخ.
لوّن الشاعر تجاعيد هذه المرحلة بلون القهوة "سنوات غبراء" تدل على القحط والتصحر وأرفق لفظة الفأرة على جارته والتي تتصرف كالفأر الذي لا يترك شيئا إلا وقضمه.
"اللواتي سيتبعنني إلى اللحد للمشيعين" وهب تلك التجاعيد الأخيرة للمشيعين الذين في العادة سيتحدثون عنه بنميمة أثناء الجنازة كأنه لم يترك لهم شيئاً عقوبة على النميمة.
إن استخدام الشاعر للفظة التجاعيد - ووصفها - بدلا عن السنين وإسناد كل مرحلة عمرية "تجعيدة" لفئات المنحدرين من النهر جعلت للنص هندسة تخيلية تشير إلى عدم عفوية النص ونعد ذلك ميزةً لا عيباً، كما أن الشاعر استخدم بلا وعي أسلوب الدالة الجيبية sin x في الرياضيات وتأخذ شكل الموجة المنطلقة من القيمة الصفرية إلى أعلى نقطة وهي الواحد ثم تعود إلى الصفر وتنحدر إلى أدنى قيمة، هذه الانقلابات تشير إلى الإيقاع في النص الذي حدث على مستوى الدلالة لا اللفظ.
للنص جانب نفسي يتمثل بحالة القلق من الموت قد لا يكون موتا حقيقيا مما يعني أن مناخ النص يشير لفترة كتابته وهي فترة زمكانية كان الشاعر شبه منفي عن مكان إقامته المعتادة، بمعنى أن هنالك اغترابًأ قسريًا. هذا التوجس داخل النص أبرز رغبة الشاعر بالعودة إلى المهد أو اللحد، واستدعى كل مراحله العمرية ك "فلاش باك" ليرى من خلاله بوصفه محتضراً كل مراحله وأحداثه القديمة.
ويمكن تفكيك النص إلى أربعة محاور هي:
1. تشظي الذات الشاعرة التي اعتمدت الحوار مع الآخر والمنحدرين من النهر وكل الشخوص في النص.
2. العودة إلى الماضي والصراع مع الحاضر والمستقبل والرؤية المكانية التي تتداخل مع تلك الأزمنة.
3. التناقضات والنفي وعدم التأكد وهو مبدأ فلسفي كأنه يمثل نظرية الشك الديكارتية ويمكن ملاحظة ذلك من خلال التضادات اللفظية والدلالية.
4. التسويف والحركة الدراماتيكية التي تشكلها الأفعال في النص كأفعال الأمر والماضي.
في النص هنالك وحدات دلالية وقضايا وأفكار عن الموت والحياة عن الماضي والمستقبل والحاضر، هنالك صور وتراكيب تمثل متوالية هندسية تتعاقب لرسم مدى واسعاُ للمتلقي وخلق بيئة تجعل القارئ جزءًا من النص فيتعايش مع كل تلك المراحل.
نستطيع القول إن معجم الشاعر هاني الصلوي اللغوي وحقوله الدلالية وأسلوبه المميز في بناء النص ينم عن وعي كامل بالحداثة ودراستها بعمق، كما أن استخدامه لفعل الأمر بتلك الحرفية، فإنه يدل على وعي الشاعر بمدى تأثير هذا الفعل بعد "سوف" على دينمائية النص:
"سوف أدع انفي على برتقالة البيت للمراقبة"
يستخدم الشاعر الانزياح الدلالي للفضولي الذي يدس أنفه في كل شيء فيصبح الأنف كبيرًا بحجم برتقالة، أو وضعه على مقبض الباب الكروي الذي يخذ شكل البرتقالة ويراقب من خلف ثقب الباب.. سوف أترك قفاي لتضليل الشرطة ودعاة الموت الرحيم وشهادة وفاتي مفردة قفاي ويقصد بها المؤخرة تدل على انحراف وشذوذ الشرطة والأطباء وكتاب المحاكم الذين لم يحترموا عملهم ومهنهم التي يجب أن تكون خدمية.
انحني بذكاء مفرطة
تجلدي كما يليق بوصية
إرقصي في العزاء
كل فعل أمر هنا يقابله مغايرة للفعل.. قولي لهم: عاش يحب أيوب طارش عبسي وجبريل والثلاثة الكوكباني هذا السطر يخبرنا بالكثير كأنه يفصح عن حالة الشاعر السياسية والدينية والعاطفية، فأيوب طارش يمثل لوناً غنائياً عاطفيا ووطنيا ويمثل تركيبة سكانية كبيرة في اليمن وهو من نفس مدينة الشاعر، الثلاثة الكوكباني يمثلون لوناً غنائيا آخر ومنطقة جغرافية وسكانية مختلفة، أي أن ايوب والثلاثة يمثلون اليمن بكل اختلافته.
أما جبريل والذي أفضل أن يقصد به الشاعر" جبريل حامل الرسالات فيدل كل ذلك على أن الشاعر يريد القول: أحب هذا الوطن بكل تنوعاته وأحب الفن وأؤمن بكل الرسالات السماوية.
ظل الشاعر يحب ذلك الوطن لايقاسمه شريك إلى أن انفجرت امرأة في قلبه عجز الحكماء عن شفطها منه.." انفجرت امرأة في قلبه".
صورة مدهشة في غاية الانسجام تدل على الانفجار العظيم الذي يشبه الانفجار الكوني Big Bang وتشكل الكون آنذاك لكن هنا تكّون الكون الآخر الذي أراده الشاعر، فالمرأة سر الحياة والقلب مكمن الحب والرجل المكمل لهما، ثلاثية الديمومة والتي تعني بالنزوع الانساني، فقد استطاع الشاعر أن يقولبها بقالب جميل ليستبعد أن تذهب تلك الصيرورة حيث عجز الحكماء عن شفطها منه.
عني معجم الصلوي باليومي وهو يرافق الأحداث المعاصرة بدليل هذه المفردات: الانفجارات، شفط الدهون، الشظايا، الإرهاب، الرصاص الحي،.. ثم يدخل الشاعر في محور العودة إلى الماضي:
شب وهو يرعى القيقب ألقمته العزلة
افتتح حياته يكمن لأعقاب السجائر يشتري بها فضول العذارى.
أحداث غالبا ما مرّ بها الجميع لكن الشاعر استخدم تلك الصور والمجازات لرسم تلك المرحلة بحلوها ومرها منتقلًا إلى مرحلة التناقضات:
العدل ألا تلتفتي أبدا ... حب مستحيل
الوردة ألا تبلغي العطر
النشيد ألا يصل الصوت
فمي ألا اكون ثرثارًا
الحلاج أن أحتاج مزرعة للدلافين
الحصان سيرها راجلة
الكتب للأرصفة
حملّيهم أبناء النهر دمي واطلبي الثأر "أخبريهم أنه جنى على نفسه بالتطير وهو يجني الزهايمر في الأساطير والملاحم.. مات فولد فمات فمات فمات فمات فمات َ.. فعاش.
يختم الصلوي نصه بثنائية الموت والحياة وهي الصيرورة الأبدية التي جعلت من النص وحدة عضوية تراجيدية ابتداءً بالعنوان إلى أن انتهت فعاش. يمكننا إذن القول في الختام: إن الشاعر الصلوي خلق نصاً ابداعياً صب فيه كل خبرته الكتابية والإبداعية لرسم لوحة رائعة قلما نجد مثلها ومثل من يستطيع تلوينها بكل التفاصيل.
أحمد الفلاحي شاعر وأكاديمي يمني


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.