منافس الأهلي.. بورتو يسابق الزمن لضم فيجا قبل انطلاق مونديال الأندية    7 لاعبين مهددون بالرحيل عن ريال مدريد    أحمد الفيشاوي يثير الجدل مجددًا بظهوره ب«حلق» في أحدث إطلالة على إنستجرام    من مدريد إلى نيويورك..فى انتظار ولادة صعبة لحل الدولتين    باريس سان جيرمان ينهي عقدة تاريخية لأندية فرنسا أوروبيًا    بعد رحيله عن الأهلي.. هل طلب سامي قمصان ضم ميشيل يانكون لجهاز نادي زد؟    لاعبان سابقان.. الزمالك يفاضل بين ثلاثي الدوري لضم أحدهم (تفاصيل)    معاكسة فتاة ببنها تنتهى بجثة ومصاب والأمن يسيطر ويضبط المتهمين    متحدث الصحة: نضع خطة طوارئ متكاملة خلال إجازة العيد.. جاهزية كل المستشفيات    ديستربتيك: استثمرنا 65% من محفظتنا فى شركات ناشئة.. ونستعد لإطلاق صندوق جديد خلال عامين    مطالب برلمانية للحكومة بسرعة تقديم تعديل تشريعى على قانون مخالفات البناء    البلشي يرفض حبس الصحفيين في قضايا النشر: حماية التعبير لا تعني الإفلات من المحاسبة    القومي لحقوق الإنسان يكرم مسلسل ظلم المصطبة    الحبس والغرامة للمتهمين باقتطاع فيديوهات للإعلامية ريهام سعيد وإعادة نشرها    «سيبتك» أولى مفاجآت ألبوم حسام حبيب لصيف 2025    مدير فرع هيئة الرعاية الصحية بالإسماعيلية يستقبل وفدا من الصحة العالمية    رئيس النحالين العرب: 3 جهات رقابية تشرف على إنتاج عسل النحل المصري    وزير الصحة: تجاوزنا أزمة نقص الدواء باحتياطي 3 أشهر.. وحجم التوسع بالمستشفيات مش موجود في العالم    بحثًا عن الزمن المفقود فى غزة    مصطفى كامل وأنوشكا ونادية مصطفى وتامر عبد المنعم فى عزاء والد رئيس الأوبرا    20 صورة.. مستشار الرئيس السيسي يتفقد دير مارمينا في الإسكندرية    موعد أذان مغرب السبت 4 من ذي الحجة 2025.. وبعض الآداب عشر ذي الحجة    بعد نجاح مسابقته السنويَّة للقرآن الكريم| الأزهر يطلق «مسابقة السنَّة النبويَّة»    ماذا على الحاج إذا فعل محظورًا من محظورات الإحرام؟.. الدكتور يسري جبر يجيب    الهمص يتهم الجيش الإسرائيلي باستهداف المستشفيات بشكل ممنهج في قطاع غزة    الإخوان في فرنسا.. كيف تُؤسِّس الجماعة حياةً يوميةً إسلاميةً؟.. خطة لصبغ حياة المسلم فى مجالات بعيدة عن الشق الدينى    المجلس القومي لحقوق الإنسان يكرم أبطال مسلسل ظلم المصطبة    وزارة الزراعة تنفي ما تردد عن بيع المبنى القديم لمستثمر خليجي    برونو يحير جماهير مانشستر يونايتد برسالة غامضة    القاهرة الإخبارية: القوات الروسية تمكنت من تحقيق اختراقات في المواقع الدفاعية الأوكرانية    "أوبك+": 8 أعضاء سيرفعون إنتاج النفط في يوليو ب411 ألف برميل يوميا    قواعد تنسيق العام الجديد.. اعرف تفاصيل اختبارات القدرات    ما حكم بيع جزء من الأضحية؟    محافظ القليوبية يوجه بسرعة الانتهاء من رصف وتطوير محور مصرف الحصة    ب حملة توقيعات.. «الصحفيين»: 5 توصيات ل تعديل المادة 12 من «تنظيم الصحافة والإعلام» (تفاصيل)    استعدادًا لعيد الأضحى| تفتيش نقاط الذبيح ومحال الجزارة بالإسماعيلية    محافظ أسيوط ووزير الموارد المائية والري يتفقدان قناطر أسيوط الجديدة ومحطتها الكهرومائية    تكشف خطورتها.. «الصحة العالمية» تدعو الحكومات إلى حظر جميع نكهات منتجات التبغ    وزير الخارجية يبحث مع عضو لجنة الخدمات العسكرية ب"الشيوخ الأمريكي" سبل دعم الشراكة الاستراتيجية    مصادرة 37 مكبر صوت من التكاتك المخالفة بحملة بشوارع السنبلاوين في الدقهلية    حظك اليوم السبت 31 مايو 2025 وتوقعات الأبراج    لماذا سيرتدي إنتر القميص الثالث في نهائي دوري أبطال أوروبا؟    تفاصيل ما حدث في أول أيام امتحانات الشهادة الإعدادية بالمنوفية    "حياة كريمة" تبدأ تنفيذ المسح الميداني في المناطق المتضررة بالإسكندرية    بدر عبد العاطى وزير الخارجية ل"صوت الأمة": مصر تعكف مصر على بذل جهود حثيثة بالشراكة مع قطر أمريكا لوقف الحرب في غزة    وزير التربية والتعليم يبحث مع منظمة "يونيسف" وضع خطط لتدريب المعلمين على المناهج المطورة وطرق التدريس    استخراج حجر بطارية ألعاب من مريء طفل ابتلعه أثناء اللعب.. صور    أفضل الأدعية المستجابة عند العواصف والرعد والأمطار    رئيس الإنجيلية يستهل جولته الرعوية بالمنيا بتنصيب القس ريموند سمعان    ماذا قالت وكالة الطاقة الذرية في تقريرها عن أنشطة إيران؟    مصدر كردي: وفد من الإدارة الذاتية الكردية يتجه لدمشق لبحث تطبيق اتفاق وقّعته الإدارة الذاتية مع الحكومة السورية قبل نحو 3 أشهر    "نفرح بأولادك"..إلهام شاهين توجه رسالة ل أمينة خليل بعد حفل زفافها (صور)    قبل وقفة عرفة.. «اليوم السابع» يرصد تجهيزات مشعر عرفات "فيديو"    عمرو الدجوى يقدم بلاغا للنائب العام يتهم بنات عمته بالاستيلاء على أموال الأسرة    عيد الأضحى 2025.. محافظ الغربية يؤكد توافر السلع واستعداد المستشفيات لاستقبال العيد    سحب 700 رخصة لعدم تركيب الملصق الإلكتروني خلال 24 ساعة    لمكافحة التلاعب بأسعار الخبز.. ضبط 4 طن دقيق مدعم بالمحافظات    سويلم: الأهلي تسلم الدرع في الملعب وحسم اللقب انتهى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأدب والهوية
نشر في صوت البلد يوم 08 - 03 - 2017

إنه لأمر مثير أن نرى هذا الانشداه، وهذه الرغبة الغالبة عند الأدباء العرب المعاصرين، في وصول أعمالهم إلى الأمم الأخرى بوساطة الترجمة، بل هذا الافتخار الرنان الطنان بأن أعمال هذا الأديب أو ذاك قد ترجمت إلى كذا لغات، وكأن الترجمة قيمة معيار، بل قيمة مجاوزة للقيمة الكامنة والقائمة في اللغة الأصلية، اللغة العربية.
ولا أحد يعيب هذه الرغبة في الترجمة إلى أكثر لغات العالم، فذاك مما يخلق جسور التواصل والتفاهم والتكامل بين شعوب الأرض كلها، ما يجعلها تعرف أقدار الإنسان ومصائره في عالمنا المعاصر. كما أنه لا أحد يغض من قيمة أديب احتفت به لغات أخرى فاستضافته في فضاءات أرضها، بل إن ذلك لما يدعو إلى الإعجاب به، ولكن العيب كل العيب – هو في اعتبار الترجمة معيارا أعلى للقيمة والأهمية واعتبار كثرة اللغات المترجم إليها معيارا لمجد العمل الأدبي وفرادته.
والأهم من ذلك أن نعرف حقيقة الأدب الناجح الراجح في ميزان النقد والتلقي الأدبيين. فكثير مما نتداوله الآن، في ثقافتنا العربية المعاصرة باعتباره حقائق نقدية لا يصمد في اختبار علم النقد للحقائق. من ذلك ما يقال عن الأدب والهوية، فالأدب مرتبط بالهوية، إذ لا يكون هذا الأدب إلا أدب هوية ما. وما ازدهرت آداب الأمم الراقية إلا عند ارتباطها بالهوية التي طلعت منها وانغرست في تربتها عند هذا الأديب أو ذاك. ومما يرتقي بهذه الهوية اللغة التي تتوسلها في التواصل الإنساني بكل أشكاله ومنه التواصل الثقافي الأدبي، بيد أن اعتماد لغة ما في التعبير عن الهوية لا يعني أن تلك اللغة هي أرقى لغات المعمورة، فرقي اللغات إنما يرتهن بحال الحضارة في حالَيْ هبوطها وصعودها، ولغات الأرض كلها، مما استطاعت البقاء والحفاظ على ذاتها في التداول والتواصل، إنما استطاعت ذلك لتمسك مستعمليها بها، تمسك التعلق والعناية والتطوير، ما يحقق لهذه اللغة الاستمرارية في الوجود وفي ألق هذا الوجود. فالأدب يرتبط بالهوية، لأنه بها يكون أدبا، ولأن الهوية ترتبط بما يعبر عنها باللغة (وأحيانا باللغات) التي يستعملها أولئك الذين ينتمون لهذه الهوية. وقديما عرف أبو البقاء الكفوي في معجم الكليات، الهويةَ قائلا «الأمر المتعقل من حيث إنه مقول في جواب (ما هو ) يسمى ماهية، ومن حيث ثبوته في الخارج يسمى حقيقة، ومن حيث امتيازه عن الأغيار يسمى هوية»، إذ الهوية في هذا التعريف كامنة، أساسا، في الامتياز عن الأغيار، أي في امتلاك ما به تتميز الأمة عن الأمة الأخرى، والشخص عن الشخص الآخر، فالقيمة التي هي الامتياز عن الأغيار أو الآخرين هي التي ترادف الهوية، فما الذي يجعل أدبنا كاشفا هويتنا؟ سيكون الجواب الأول المنحدر من تعريف الكفوي للهوية، هو ذاك الأدب الذي يميزنا عن غيرنا، وغيرنا في هذا الزمان كثير، لأن تنافس أهل كوكب الأرض على امتلاك هاته الأرض، بكل ما يدل على هذا الامتلاك من سيطرة وقوة وتحكم وتوجيه للحياة الإنسانية ولسياستها واجتماعها وثقافتها وكل ما يحقق مدنيتها وحضارتها. إن الأمم في تنافس حضاري دائم، وميادين هذا التنافس عديدة، من أقواها التنافس على السيطرة الثقافية، ولذلك فإن ما توليه الدول القوية من أهمية للثقافة قد لا يضاهيه ميدان آخر، والثقافة هي التي يتم توظيفها في التعليم، والتعليم هو ميدان الميادين منه تنبجس كل قوى السيطرة على الحاضر وعلى المستقبل، وأساس التعليم اللغة وهذه اللغة تكتسب بالأدب الجميل.
إن الأدب هو الذي يغرس في الأذهان تمثلاتنا وتصوراتنا عن الهوية. وأمة ينتظر أدباؤها أن تأتيهم التزكية والرفعة والقيمة من الأمم الأخرى، بعد أن يترجم أدبهم إلى لغات تلك الأمم هم أدباء يعانون من (النقص الحضاري)، فكيف نتجاوز نقصنا الحضاري؟ لا نستطيع تجاوز هذا النقص إلا بإذكاء القوة في أدبنا، وجعله أدبا يضاهي أرقى الآداب المسيطرة في الحياة الثقافية لعالمنا المعاصر، ونحن نستطيع ذلك إذا تصالحنا مع أنفسنا، وعرفنا أن القيمة التي يوليها الأديب لنفسه ولأدب أمته، هي الخطوة الأولى في ارتياد آفاق الآداب العالمية كلها، وهذه القيمة إنما تتحقق بما نبثه في الأدب الذي نكتبه من قوة الصدق في الكشف عن معاناة إنسان الأمة التي ننتمي إليها. ولقد يكون من سوء حظ الأديب أو من حسنه أن أمتنا، من بين أمم أخرى كثيرة تحيا صراع الوجود الحضاري، بكل تجلياته في الإبقاء على الهوية أساسا وبدءا، وفي منح هذه الهوية ما به تبقى وتزدهر وتشارك في الحياة الحضارية لعالمنا المعاصر. وقد تكون هذه الإنجازات الحاملة لقوة هويتنا وأدبنا مما يسوء الكثيرين، وأن الحياة تجود لغيرنا بلا عمل ولا تمنح لنا شيئا إلا بعد عمل وكدح في هذا العمل. إن الحياة في قانونها لا تكون ولا تبقى إلا لمن يوجدها ويعمل على بقائها، والأدب مما يعمل على بقاء الحياة واستمرارها.
في عام 1957 كتب الأديب ورجل الفكر الديني المعروف عبدالله كنون (المغربي) مقالة عن وحدة الأدب العربي باسطا بكل ما عرف عنه من فصاحة الأدب، عوامل هذه الوحدة والأسباب التي تقف وراءها، من لغة وجغرافيا (ثقافية) وتاريخ مشترك (مصير)، وكانت مقالته هذه هي مما خاطب به محفل اتحاد الكتاب والأدباء العرب المجتمع في القاهرة، والزمان- يومئذ- زمان المد القومي على ما هو معروف عند الجميع، لم يكن مبتغى عبدالله كنون إلا الإشارة الدالة إلى قوة الأدب العربي وأهميته في ربط الجسور ومد خطوط التواصل بين الشعوب العربية، وإن كان هذا الأديب قد عرف عنه اهتمامه ب(النبوغ المغربي في الأدب العربي)، وهو لا يجعل أدب هوية ما، سبيلا إلى التميز بقدر ما هو أدب مغايرة تغني وتقوي وترفد بروافد الغنى والقوة والعظمة التي يحق للأدب العربي أن يتغنى بها بين أقرانه من الآداب الأخرى التي ما تنفك تتغنى بأمجادها القديمة والجديدة.
ما يجعل خطاب الهوية يظهر من جديد وكأنه خطاب اللحظة الراهنة، ما نراه من إرادة المحو التي ترافق الهيمنة في منظومة السيطرة العالمية المسماة (عولمة). إن الآداب العظيمة هي النابعة من التراث المحلي بكل ما يحفل به هذا التراث من ظواهر إنسانية وحيوات فذة مثيرة، تشد الأنظار إليها، مثلما تحفز على الاهتمام والمعالجة الأدبية. إن الآداب الإنسانية كلها منذ أقدم العصور إلى زماننا هذا، تنطوي على هذا السر الكبير، سر المغايرة التي تسم الآداب المحلية في بلدان العالم المختلفة. لكن هذه الآداب وهي تجلو هوية بعينها، لا تنسى انتسابها الكبير إلى شجرة الحياة الإنسانية المفعمة ببراعم وأوراق هذه الحياة النضرة دوما، لأنها حياة تمجد كل حقائق الحياة بالقدر الذي تعمل على إبقاء حياة الإنسان واستمرارها في الكون الذي يحيا فيه.
إن الآداب، دون كثير من العلوم تهتم بإنسانية الإنسان وبما يبث القوة في هذه الإنسانية ويبقيها متوهجة دائما. فما الذي يجعلنا نقرأ أدب الأقدمين ونتطارح الكلام حوله، إلا ما نجد فيه من حياة متوثبة تخالجنا ونحن نحيا هذه الحياة الجديدة أو التي نتصور أنها جديدة. إن الإنسانية، في كل عهد أو زمان تحيا الحياة برؤى ونظريات وعقائد وتصورات آتية مما سبق ذاك العهد وهي في الآن نفسه، تفرش الطريق لما سيتلو من حياة في الزمن الآتي، وإن الآداب،عند الأمم كلها، ترافق رحلات الحياة هاته فتصورها وتتأملها وتكتب عنها باختلاف حينا وتناظر حينا آخر، وفي كليهما (الاختلاف والتناظر) تكمن رغبة الإنسان اللاعجة في التواصل والانتشار والذيوع، ما يسم كل أمة وكل أدب أمة. والآن، أضحى مصير الأدب بيد الأدباء لا كما كان دائما- بل أخطر مما كان لأن التواصل الإنساني يتطور تطورا مدهشا وإن التعويل على الأدب في التواصل لن ينقطع ما دامت اللغة هي جسر الإنسان إلى هذا التواصل وما دام الأدب هو الوعاء الذهبي لهذه اللغة. إن أدباء العربية سيصلون إلى العالمية عندما يستحوذ على قارئ أعمالهم الأدبية جيشان الرغبة في تعلم اللغة الأصلية لهذا الأدب لقراءة ذاك العمل الفريد المجيد بلغته العربية الأصلية، مثلما هو الحال الآن، عندنا في الثقافة العربية، فكثير منا ممن يحب ماركيز يرغب في قراءته باللغة الإسبانية ومن يحب بروست يرغب في قراءته باللغة الفرنسية، ومن يحب توماس مان يتمنى لو يقرأه باللغة الألمانية، ومن يحب فيرجينيا وولف يرغب في قراءتها باللغة الإنكليزية، ومن يحب محمود درويش من محبي الشعر في الثقافات الأجنبية يتمنى قراءته باللغة العربية. وعندما أقرأ سليم بركات شاعرا وروائيا أقول دائما إن قارئه في لغته الأصل العربية سيحبه أكثر من أي قارئ وإن اتفق كل قرائه على محبته.
هوية الأدب في أدبيته، وأدب هوية ما يعمل دائما على إظهار الشرط الإنساني الذي يكاد يكون واحدا، رغم اختلافات تجلياته من بلد إلى بلد في هذه المعمورة الذي نسكنه.
......
٭ قاص وناقد مغربي
إنه لأمر مثير أن نرى هذا الانشداه، وهذه الرغبة الغالبة عند الأدباء العرب المعاصرين، في وصول أعمالهم إلى الأمم الأخرى بوساطة الترجمة، بل هذا الافتخار الرنان الطنان بأن أعمال هذا الأديب أو ذاك قد ترجمت إلى كذا لغات، وكأن الترجمة قيمة معيار، بل قيمة مجاوزة للقيمة الكامنة والقائمة في اللغة الأصلية، اللغة العربية.
ولا أحد يعيب هذه الرغبة في الترجمة إلى أكثر لغات العالم، فذاك مما يخلق جسور التواصل والتفاهم والتكامل بين شعوب الأرض كلها، ما يجعلها تعرف أقدار الإنسان ومصائره في عالمنا المعاصر. كما أنه لا أحد يغض من قيمة أديب احتفت به لغات أخرى فاستضافته في فضاءات أرضها، بل إن ذلك لما يدعو إلى الإعجاب به، ولكن العيب كل العيب – هو في اعتبار الترجمة معيارا أعلى للقيمة والأهمية واعتبار كثرة اللغات المترجم إليها معيارا لمجد العمل الأدبي وفرادته.
والأهم من ذلك أن نعرف حقيقة الأدب الناجح الراجح في ميزان النقد والتلقي الأدبيين. فكثير مما نتداوله الآن، في ثقافتنا العربية المعاصرة باعتباره حقائق نقدية لا يصمد في اختبار علم النقد للحقائق. من ذلك ما يقال عن الأدب والهوية، فالأدب مرتبط بالهوية، إذ لا يكون هذا الأدب إلا أدب هوية ما. وما ازدهرت آداب الأمم الراقية إلا عند ارتباطها بالهوية التي طلعت منها وانغرست في تربتها عند هذا الأديب أو ذاك. ومما يرتقي بهذه الهوية اللغة التي تتوسلها في التواصل الإنساني بكل أشكاله ومنه التواصل الثقافي الأدبي، بيد أن اعتماد لغة ما في التعبير عن الهوية لا يعني أن تلك اللغة هي أرقى لغات المعمورة، فرقي اللغات إنما يرتهن بحال الحضارة في حالَيْ هبوطها وصعودها، ولغات الأرض كلها، مما استطاعت البقاء والحفاظ على ذاتها في التداول والتواصل، إنما استطاعت ذلك لتمسك مستعمليها بها، تمسك التعلق والعناية والتطوير، ما يحقق لهذه اللغة الاستمرارية في الوجود وفي ألق هذا الوجود. فالأدب يرتبط بالهوية، لأنه بها يكون أدبا، ولأن الهوية ترتبط بما يعبر عنها باللغة (وأحيانا باللغات) التي يستعملها أولئك الذين ينتمون لهذه الهوية. وقديما عرف أبو البقاء الكفوي في معجم الكليات، الهويةَ قائلا «الأمر المتعقل من حيث إنه مقول في جواب (ما هو ) يسمى ماهية، ومن حيث ثبوته في الخارج يسمى حقيقة، ومن حيث امتيازه عن الأغيار يسمى هوية»، إذ الهوية في هذا التعريف كامنة، أساسا، في الامتياز عن الأغيار، أي في امتلاك ما به تتميز الأمة عن الأمة الأخرى، والشخص عن الشخص الآخر، فالقيمة التي هي الامتياز عن الأغيار أو الآخرين هي التي ترادف الهوية، فما الذي يجعل أدبنا كاشفا هويتنا؟ سيكون الجواب الأول المنحدر من تعريف الكفوي للهوية، هو ذاك الأدب الذي يميزنا عن غيرنا، وغيرنا في هذا الزمان كثير، لأن تنافس أهل كوكب الأرض على امتلاك هاته الأرض، بكل ما يدل على هذا الامتلاك من سيطرة وقوة وتحكم وتوجيه للحياة الإنسانية ولسياستها واجتماعها وثقافتها وكل ما يحقق مدنيتها وحضارتها. إن الأمم في تنافس حضاري دائم، وميادين هذا التنافس عديدة، من أقواها التنافس على السيطرة الثقافية، ولذلك فإن ما توليه الدول القوية من أهمية للثقافة قد لا يضاهيه ميدان آخر، والثقافة هي التي يتم توظيفها في التعليم، والتعليم هو ميدان الميادين منه تنبجس كل قوى السيطرة على الحاضر وعلى المستقبل، وأساس التعليم اللغة وهذه اللغة تكتسب بالأدب الجميل.
إن الأدب هو الذي يغرس في الأذهان تمثلاتنا وتصوراتنا عن الهوية. وأمة ينتظر أدباؤها أن تأتيهم التزكية والرفعة والقيمة من الأمم الأخرى، بعد أن يترجم أدبهم إلى لغات تلك الأمم هم أدباء يعانون من (النقص الحضاري)، فكيف نتجاوز نقصنا الحضاري؟ لا نستطيع تجاوز هذا النقص إلا بإذكاء القوة في أدبنا، وجعله أدبا يضاهي أرقى الآداب المسيطرة في الحياة الثقافية لعالمنا المعاصر، ونحن نستطيع ذلك إذا تصالحنا مع أنفسنا، وعرفنا أن القيمة التي يوليها الأديب لنفسه ولأدب أمته، هي الخطوة الأولى في ارتياد آفاق الآداب العالمية كلها، وهذه القيمة إنما تتحقق بما نبثه في الأدب الذي نكتبه من قوة الصدق في الكشف عن معاناة إنسان الأمة التي ننتمي إليها. ولقد يكون من سوء حظ الأديب أو من حسنه أن أمتنا، من بين أمم أخرى كثيرة تحيا صراع الوجود الحضاري، بكل تجلياته في الإبقاء على الهوية أساسا وبدءا، وفي منح هذه الهوية ما به تبقى وتزدهر وتشارك في الحياة الحضارية لعالمنا المعاصر. وقد تكون هذه الإنجازات الحاملة لقوة هويتنا وأدبنا مما يسوء الكثيرين، وأن الحياة تجود لغيرنا بلا عمل ولا تمنح لنا شيئا إلا بعد عمل وكدح في هذا العمل. إن الحياة في قانونها لا تكون ولا تبقى إلا لمن يوجدها ويعمل على بقائها، والأدب مما يعمل على بقاء الحياة واستمرارها.
في عام 1957 كتب الأديب ورجل الفكر الديني المعروف عبدالله كنون (المغربي) مقالة عن وحدة الأدب العربي باسطا بكل ما عرف عنه من فصاحة الأدب، عوامل هذه الوحدة والأسباب التي تقف وراءها، من لغة وجغرافيا (ثقافية) وتاريخ مشترك (مصير)، وكانت مقالته هذه هي مما خاطب به محفل اتحاد الكتاب والأدباء العرب المجتمع في القاهرة، والزمان- يومئذ- زمان المد القومي على ما هو معروف عند الجميع، لم يكن مبتغى عبدالله كنون إلا الإشارة الدالة إلى قوة الأدب العربي وأهميته في ربط الجسور ومد خطوط التواصل بين الشعوب العربية، وإن كان هذا الأديب قد عرف عنه اهتمامه ب(النبوغ المغربي في الأدب العربي)، وهو لا يجعل أدب هوية ما، سبيلا إلى التميز بقدر ما هو أدب مغايرة تغني وتقوي وترفد بروافد الغنى والقوة والعظمة التي يحق للأدب العربي أن يتغنى بها بين أقرانه من الآداب الأخرى التي ما تنفك تتغنى بأمجادها القديمة والجديدة.
ما يجعل خطاب الهوية يظهر من جديد وكأنه خطاب اللحظة الراهنة، ما نراه من إرادة المحو التي ترافق الهيمنة في منظومة السيطرة العالمية المسماة (عولمة). إن الآداب العظيمة هي النابعة من التراث المحلي بكل ما يحفل به هذا التراث من ظواهر إنسانية وحيوات فذة مثيرة، تشد الأنظار إليها، مثلما تحفز على الاهتمام والمعالجة الأدبية. إن الآداب الإنسانية كلها منذ أقدم العصور إلى زماننا هذا، تنطوي على هذا السر الكبير، سر المغايرة التي تسم الآداب المحلية في بلدان العالم المختلفة. لكن هذه الآداب وهي تجلو هوية بعينها، لا تنسى انتسابها الكبير إلى شجرة الحياة الإنسانية المفعمة ببراعم وأوراق هذه الحياة النضرة دوما، لأنها حياة تمجد كل حقائق الحياة بالقدر الذي تعمل على إبقاء حياة الإنسان واستمرارها في الكون الذي يحيا فيه.
إن الآداب، دون كثير من العلوم تهتم بإنسانية الإنسان وبما يبث القوة في هذه الإنسانية ويبقيها متوهجة دائما. فما الذي يجعلنا نقرأ أدب الأقدمين ونتطارح الكلام حوله، إلا ما نجد فيه من حياة متوثبة تخالجنا ونحن نحيا هذه الحياة الجديدة أو التي نتصور أنها جديدة. إن الإنسانية، في كل عهد أو زمان تحيا الحياة برؤى ونظريات وعقائد وتصورات آتية مما سبق ذاك العهد وهي في الآن نفسه، تفرش الطريق لما سيتلو من حياة في الزمن الآتي، وإن الآداب،عند الأمم كلها، ترافق رحلات الحياة هاته فتصورها وتتأملها وتكتب عنها باختلاف حينا وتناظر حينا آخر، وفي كليهما (الاختلاف والتناظر) تكمن رغبة الإنسان اللاعجة في التواصل والانتشار والذيوع، ما يسم كل أمة وكل أدب أمة. والآن، أضحى مصير الأدب بيد الأدباء لا كما كان دائما- بل أخطر مما كان لأن التواصل الإنساني يتطور تطورا مدهشا وإن التعويل على الأدب في التواصل لن ينقطع ما دامت اللغة هي جسر الإنسان إلى هذا التواصل وما دام الأدب هو الوعاء الذهبي لهذه اللغة. إن أدباء العربية سيصلون إلى العالمية عندما يستحوذ على قارئ أعمالهم الأدبية جيشان الرغبة في تعلم اللغة الأصلية لهذا الأدب لقراءة ذاك العمل الفريد المجيد بلغته العربية الأصلية، مثلما هو الحال الآن، عندنا في الثقافة العربية، فكثير منا ممن يحب ماركيز يرغب في قراءته باللغة الإسبانية ومن يحب بروست يرغب في قراءته باللغة الفرنسية، ومن يحب توماس مان يتمنى لو يقرأه باللغة الألمانية، ومن يحب فيرجينيا وولف يرغب في قراءتها باللغة الإنكليزية، ومن يحب محمود درويش من محبي الشعر في الثقافات الأجنبية يتمنى قراءته باللغة العربية. وعندما أقرأ سليم بركات شاعرا وروائيا أقول دائما إن قارئه في لغته الأصل العربية سيحبه أكثر من أي قارئ وإن اتفق كل قرائه على محبته.
هوية الأدب في أدبيته، وأدب هوية ما يعمل دائما على إظهار الشرط الإنساني الذي يكاد يكون واحدا، رغم اختلافات تجلياته من بلد إلى بلد في هذه المعمورة الذي نسكنه.
......
٭ قاص وناقد مغربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.