رئيس جامعة مصر للمعلوماتية: فرص لطلابنا للعمل في 250 شركة يابانية    مهرجان أنغام الصباح تستقبل اليوم الثاني لمهرجان «طرب الأول».. صور    أسعار اشتراكات قطارات السكة الحديد للطلاب    عقب التجديد لحسن عبدالله.. تفاصيل أول اجتماع للرئيس السيسي مع محافظ البنك المركزي    رسائل السيسي ل رئيسي وزراء وجهاز أمن الدولة القطري.. فيديو    نيابة عن رئيس الجمهورية: رئيس الوزراء يتوجه إلى اليابان للمشاركة في قمة "تيكاد 9"    جوارديولا: عدد اللاعبين في مانشستر سيتي ليس صحيا.. أنتظر رحيل المزيد    الداخلية تكشف ملابسات واقعة سرقة أحذية من داخل مسجد بالجيزة وتضبط الجاني    قانون التعليم الجديد.. نهضة تعليمية في مسار التحديث والتطوير المهني    المسلماني وهاني أحمد زويل يزيحان الستار عن استديو زويل    الأعلى للإعلام يعلن انطلاق الدورة التدريبية رقم "61 " للصحفيين الأفارقة من 18 دولة    نائب وزير الصحة يعقد اجتماعًا لتطوير منظومة المخازن الاستراتيجية والتموين الطبي    نص القرار الجمهورى بالتجديد ل"حسن عبد الله" محافظًا للبنك المركزى    الخارجية الفلسطينية تدين قرار الاحتلال الإسرائيلي التعسفي بحق الدبلوماسيين الأستراليين    تعليم الوادي يعلن مواعيد المقابلات الشخصية للمتقدمين لشغل الوظائف القيادية    برشلونة يرفض ضم نجم إنتر ميلان    يتضمن 20 أغنية.. التفاصيل الكاملة لألبوم هيفاء وهبي الجديد    أسامة السعيد: الموقف المصرى تجاه القضة الفلسطينية راسخ ورفض للتهجير    «أحمديات»: غياب ضمير العشرة    تعديل موعد انطلاق بطولة أفريقيا لأندية كرة اليد بالمغرب    كشف ملابسات قيام سائق "توك توك" بالسير عكس الإتجاه بالإسكندرية    إصلاحات شاملة لطريق مصر - أسوان الزراعي الشرقي في إسنا    تمكين الشباب.. رئيس جامعة بنها يشهد فعاليات المبادرة الرئاسية «كن مستعدا»    تووليت وكايروكي يحيون ختام مهرجان العلمين الجديدة (أسعار التذاكر والشروط)    تعرف على الفيلم الأضعف في شباك تذاكر السينما الأحد (تفاصيل)    «ربنا يرجعك لينا بالسلامة».. هالة صدقي توجه رسالة مؤثرة ل أنغام بسبب أزمتها الصحية    «بيطري قناة السويس» تُطلق برامج دراسات عليا جديدة وتفتح باب التسجيل    هل المولد النبوي الشريف عطلة رسمية في السعودية؟    البحوث الفلكية : غرة شهر ربيع الأول 1447ه فلكياً الأحد 24 أغسطس    الرقابة المالية: 3.5 مليون مستفيد من تمويل المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر حتى يونيو 2025    هل يتم تعديل مواعيد العمل الرسمية من 5 فجرًا إلى 12 ظهرًا ؟.. اقتراح جديد في البرلمان    تحذير رسمي.. عبوات «مجهولة» من «Mounjaro 30» للتخسيس تهدد صحة المستهلكين (تفاصيل)    هام وعاجل من التعليم قبل بدء الدراسة: توجيهات للمديريات    الليلة.. عروض فنية متنوعة ضمن ملتقى السمسمية بالإسماعيلية    "العدل": على دول العالم دعم الموقف المصري الرافض لتهجير الفلسطينيين من أرضهم    حبس المتهمين بالتخلص من جثة صديقهم أثناء التنقيب عن الآثار في الشرقية    الصحة العالمية تقدم أهم النصائح لحمايتك والاحتفاظ ببرودة جسمك في الحر    "كان واقف على الباب".. مصرع شاب سقط من قطار الصعيد بسوهاج    "بعد أزمته الأخيرة مع الأهلي".. 10 معلومات عن الحكم محمد معروف (صور)    القوات الإسرائيلية تعتقل 33 عاملاً فلسطينيا جنوب القدس    الشيخ خالد الجندي: مخالفة قواعد المرور معصية شرعًا و"العمامة" شرف الأمة    اليوم.. الأهلي يتسلم الدفعة الأولى من قيمة صفقة وسام أبو علي    في يومها الثالث.. انتظام امتحانات الدور الثانى للثانوية العامة بالغربية    الرئيس السيسي يوجه بتعزيز الموارد الدولارية وتمكين القطاع الخاص لجذب الاستثمارات ودعم النمو الاقتصادي    موقع واللا الإسرائيلي: كاتس سينظر خطة لمشاركة 80 ألف جندي في احتلال غزة    رضا عبدالعال: خوان ألفينا سيعوض زيزو في الزمالك.. وبنتايج مستواه ضعيف    أيمن الرمادي ينتقد دونجا ويطالب بإبعاده عن التشكيل الأساسي للزمالك    أسعار البيض اليوم الإثنين 18 أغسطس في عدد من المزارع المحلية    «الديهي»: حملة «افتحوا المعبر» مشبوهة واتحدي أي إخواني يتظاهر أمام سفارات إسرائيل    «متحدث الصحة» ينفي سرقة الأعضاء: «مجرد أساطير بلا أساس علمي»    مدرب نانت: مصطفى محمد يستحق اللعب بجدارة    انطلاق امتحانات الدور الثاني للشهادة الثانوية الأزهرية بشمال سيناء (صور)    قوات الاحتلال تعتقل 12 فلسطينيا من محافظة بيت لحم    وزارة التعليم: قبول تحويل الطلاب من المعاهد الأزهرية بشرط مناظرة السن    إصابة 14 شخصا فى تصادم ميكروباص وربع نقل على طريق أسوان الصحراوى    الخارجية الفلسطينية ترحب بقرار أستراليا منع عضو بالكنيست من دخول أراضيها 3 سنوات    استقرار أسعار النفط مع انحسار المخاوف بشأن الإمدادات الروسية    سامح حسين يعلن وفاة نجل شقيقه عن عمر 4 سنوات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأدب والهوية
نشر في صوت البلد يوم 08 - 03 - 2017

إنه لأمر مثير أن نرى هذا الانشداه، وهذه الرغبة الغالبة عند الأدباء العرب المعاصرين، في وصول أعمالهم إلى الأمم الأخرى بوساطة الترجمة، بل هذا الافتخار الرنان الطنان بأن أعمال هذا الأديب أو ذاك قد ترجمت إلى كذا لغات، وكأن الترجمة قيمة معيار، بل قيمة مجاوزة للقيمة الكامنة والقائمة في اللغة الأصلية، اللغة العربية.
ولا أحد يعيب هذه الرغبة في الترجمة إلى أكثر لغات العالم، فذاك مما يخلق جسور التواصل والتفاهم والتكامل بين شعوب الأرض كلها، ما يجعلها تعرف أقدار الإنسان ومصائره في عالمنا المعاصر. كما أنه لا أحد يغض من قيمة أديب احتفت به لغات أخرى فاستضافته في فضاءات أرضها، بل إن ذلك لما يدعو إلى الإعجاب به، ولكن العيب كل العيب – هو في اعتبار الترجمة معيارا أعلى للقيمة والأهمية واعتبار كثرة اللغات المترجم إليها معيارا لمجد العمل الأدبي وفرادته.
والأهم من ذلك أن نعرف حقيقة الأدب الناجح الراجح في ميزان النقد والتلقي الأدبيين. فكثير مما نتداوله الآن، في ثقافتنا العربية المعاصرة باعتباره حقائق نقدية لا يصمد في اختبار علم النقد للحقائق. من ذلك ما يقال عن الأدب والهوية، فالأدب مرتبط بالهوية، إذ لا يكون هذا الأدب إلا أدب هوية ما. وما ازدهرت آداب الأمم الراقية إلا عند ارتباطها بالهوية التي طلعت منها وانغرست في تربتها عند هذا الأديب أو ذاك. ومما يرتقي بهذه الهوية اللغة التي تتوسلها في التواصل الإنساني بكل أشكاله ومنه التواصل الثقافي الأدبي، بيد أن اعتماد لغة ما في التعبير عن الهوية لا يعني أن تلك اللغة هي أرقى لغات المعمورة، فرقي اللغات إنما يرتهن بحال الحضارة في حالَيْ هبوطها وصعودها، ولغات الأرض كلها، مما استطاعت البقاء والحفاظ على ذاتها في التداول والتواصل، إنما استطاعت ذلك لتمسك مستعمليها بها، تمسك التعلق والعناية والتطوير، ما يحقق لهذه اللغة الاستمرارية في الوجود وفي ألق هذا الوجود. فالأدب يرتبط بالهوية، لأنه بها يكون أدبا، ولأن الهوية ترتبط بما يعبر عنها باللغة (وأحيانا باللغات) التي يستعملها أولئك الذين ينتمون لهذه الهوية. وقديما عرف أبو البقاء الكفوي في معجم الكليات، الهويةَ قائلا «الأمر المتعقل من حيث إنه مقول في جواب (ما هو ) يسمى ماهية، ومن حيث ثبوته في الخارج يسمى حقيقة، ومن حيث امتيازه عن الأغيار يسمى هوية»، إذ الهوية في هذا التعريف كامنة، أساسا، في الامتياز عن الأغيار، أي في امتلاك ما به تتميز الأمة عن الأمة الأخرى، والشخص عن الشخص الآخر، فالقيمة التي هي الامتياز عن الأغيار أو الآخرين هي التي ترادف الهوية، فما الذي يجعل أدبنا كاشفا هويتنا؟ سيكون الجواب الأول المنحدر من تعريف الكفوي للهوية، هو ذاك الأدب الذي يميزنا عن غيرنا، وغيرنا في هذا الزمان كثير، لأن تنافس أهل كوكب الأرض على امتلاك هاته الأرض، بكل ما يدل على هذا الامتلاك من سيطرة وقوة وتحكم وتوجيه للحياة الإنسانية ولسياستها واجتماعها وثقافتها وكل ما يحقق مدنيتها وحضارتها. إن الأمم في تنافس حضاري دائم، وميادين هذا التنافس عديدة، من أقواها التنافس على السيطرة الثقافية، ولذلك فإن ما توليه الدول القوية من أهمية للثقافة قد لا يضاهيه ميدان آخر، والثقافة هي التي يتم توظيفها في التعليم، والتعليم هو ميدان الميادين منه تنبجس كل قوى السيطرة على الحاضر وعلى المستقبل، وأساس التعليم اللغة وهذه اللغة تكتسب بالأدب الجميل.
إن الأدب هو الذي يغرس في الأذهان تمثلاتنا وتصوراتنا عن الهوية. وأمة ينتظر أدباؤها أن تأتيهم التزكية والرفعة والقيمة من الأمم الأخرى، بعد أن يترجم أدبهم إلى لغات تلك الأمم هم أدباء يعانون من (النقص الحضاري)، فكيف نتجاوز نقصنا الحضاري؟ لا نستطيع تجاوز هذا النقص إلا بإذكاء القوة في أدبنا، وجعله أدبا يضاهي أرقى الآداب المسيطرة في الحياة الثقافية لعالمنا المعاصر، ونحن نستطيع ذلك إذا تصالحنا مع أنفسنا، وعرفنا أن القيمة التي يوليها الأديب لنفسه ولأدب أمته، هي الخطوة الأولى في ارتياد آفاق الآداب العالمية كلها، وهذه القيمة إنما تتحقق بما نبثه في الأدب الذي نكتبه من قوة الصدق في الكشف عن معاناة إنسان الأمة التي ننتمي إليها. ولقد يكون من سوء حظ الأديب أو من حسنه أن أمتنا، من بين أمم أخرى كثيرة تحيا صراع الوجود الحضاري، بكل تجلياته في الإبقاء على الهوية أساسا وبدءا، وفي منح هذه الهوية ما به تبقى وتزدهر وتشارك في الحياة الحضارية لعالمنا المعاصر. وقد تكون هذه الإنجازات الحاملة لقوة هويتنا وأدبنا مما يسوء الكثيرين، وأن الحياة تجود لغيرنا بلا عمل ولا تمنح لنا شيئا إلا بعد عمل وكدح في هذا العمل. إن الحياة في قانونها لا تكون ولا تبقى إلا لمن يوجدها ويعمل على بقائها، والأدب مما يعمل على بقاء الحياة واستمرارها.
في عام 1957 كتب الأديب ورجل الفكر الديني المعروف عبدالله كنون (المغربي) مقالة عن وحدة الأدب العربي باسطا بكل ما عرف عنه من فصاحة الأدب، عوامل هذه الوحدة والأسباب التي تقف وراءها، من لغة وجغرافيا (ثقافية) وتاريخ مشترك (مصير)، وكانت مقالته هذه هي مما خاطب به محفل اتحاد الكتاب والأدباء العرب المجتمع في القاهرة، والزمان- يومئذ- زمان المد القومي على ما هو معروف عند الجميع، لم يكن مبتغى عبدالله كنون إلا الإشارة الدالة إلى قوة الأدب العربي وأهميته في ربط الجسور ومد خطوط التواصل بين الشعوب العربية، وإن كان هذا الأديب قد عرف عنه اهتمامه ب(النبوغ المغربي في الأدب العربي)، وهو لا يجعل أدب هوية ما، سبيلا إلى التميز بقدر ما هو أدب مغايرة تغني وتقوي وترفد بروافد الغنى والقوة والعظمة التي يحق للأدب العربي أن يتغنى بها بين أقرانه من الآداب الأخرى التي ما تنفك تتغنى بأمجادها القديمة والجديدة.
ما يجعل خطاب الهوية يظهر من جديد وكأنه خطاب اللحظة الراهنة، ما نراه من إرادة المحو التي ترافق الهيمنة في منظومة السيطرة العالمية المسماة (عولمة). إن الآداب العظيمة هي النابعة من التراث المحلي بكل ما يحفل به هذا التراث من ظواهر إنسانية وحيوات فذة مثيرة، تشد الأنظار إليها، مثلما تحفز على الاهتمام والمعالجة الأدبية. إن الآداب الإنسانية كلها منذ أقدم العصور إلى زماننا هذا، تنطوي على هذا السر الكبير، سر المغايرة التي تسم الآداب المحلية في بلدان العالم المختلفة. لكن هذه الآداب وهي تجلو هوية بعينها، لا تنسى انتسابها الكبير إلى شجرة الحياة الإنسانية المفعمة ببراعم وأوراق هذه الحياة النضرة دوما، لأنها حياة تمجد كل حقائق الحياة بالقدر الذي تعمل على إبقاء حياة الإنسان واستمرارها في الكون الذي يحيا فيه.
إن الآداب، دون كثير من العلوم تهتم بإنسانية الإنسان وبما يبث القوة في هذه الإنسانية ويبقيها متوهجة دائما. فما الذي يجعلنا نقرأ أدب الأقدمين ونتطارح الكلام حوله، إلا ما نجد فيه من حياة متوثبة تخالجنا ونحن نحيا هذه الحياة الجديدة أو التي نتصور أنها جديدة. إن الإنسانية، في كل عهد أو زمان تحيا الحياة برؤى ونظريات وعقائد وتصورات آتية مما سبق ذاك العهد وهي في الآن نفسه، تفرش الطريق لما سيتلو من حياة في الزمن الآتي، وإن الآداب،عند الأمم كلها، ترافق رحلات الحياة هاته فتصورها وتتأملها وتكتب عنها باختلاف حينا وتناظر حينا آخر، وفي كليهما (الاختلاف والتناظر) تكمن رغبة الإنسان اللاعجة في التواصل والانتشار والذيوع، ما يسم كل أمة وكل أدب أمة. والآن، أضحى مصير الأدب بيد الأدباء لا كما كان دائما- بل أخطر مما كان لأن التواصل الإنساني يتطور تطورا مدهشا وإن التعويل على الأدب في التواصل لن ينقطع ما دامت اللغة هي جسر الإنسان إلى هذا التواصل وما دام الأدب هو الوعاء الذهبي لهذه اللغة. إن أدباء العربية سيصلون إلى العالمية عندما يستحوذ على قارئ أعمالهم الأدبية جيشان الرغبة في تعلم اللغة الأصلية لهذا الأدب لقراءة ذاك العمل الفريد المجيد بلغته العربية الأصلية، مثلما هو الحال الآن، عندنا في الثقافة العربية، فكثير منا ممن يحب ماركيز يرغب في قراءته باللغة الإسبانية ومن يحب بروست يرغب في قراءته باللغة الفرنسية، ومن يحب توماس مان يتمنى لو يقرأه باللغة الألمانية، ومن يحب فيرجينيا وولف يرغب في قراءتها باللغة الإنكليزية، ومن يحب محمود درويش من محبي الشعر في الثقافات الأجنبية يتمنى قراءته باللغة العربية. وعندما أقرأ سليم بركات شاعرا وروائيا أقول دائما إن قارئه في لغته الأصل العربية سيحبه أكثر من أي قارئ وإن اتفق كل قرائه على محبته.
هوية الأدب في أدبيته، وأدب هوية ما يعمل دائما على إظهار الشرط الإنساني الذي يكاد يكون واحدا، رغم اختلافات تجلياته من بلد إلى بلد في هذه المعمورة الذي نسكنه.
......
٭ قاص وناقد مغربي
إنه لأمر مثير أن نرى هذا الانشداه، وهذه الرغبة الغالبة عند الأدباء العرب المعاصرين، في وصول أعمالهم إلى الأمم الأخرى بوساطة الترجمة، بل هذا الافتخار الرنان الطنان بأن أعمال هذا الأديب أو ذاك قد ترجمت إلى كذا لغات، وكأن الترجمة قيمة معيار، بل قيمة مجاوزة للقيمة الكامنة والقائمة في اللغة الأصلية، اللغة العربية.
ولا أحد يعيب هذه الرغبة في الترجمة إلى أكثر لغات العالم، فذاك مما يخلق جسور التواصل والتفاهم والتكامل بين شعوب الأرض كلها، ما يجعلها تعرف أقدار الإنسان ومصائره في عالمنا المعاصر. كما أنه لا أحد يغض من قيمة أديب احتفت به لغات أخرى فاستضافته في فضاءات أرضها، بل إن ذلك لما يدعو إلى الإعجاب به، ولكن العيب كل العيب – هو في اعتبار الترجمة معيارا أعلى للقيمة والأهمية واعتبار كثرة اللغات المترجم إليها معيارا لمجد العمل الأدبي وفرادته.
والأهم من ذلك أن نعرف حقيقة الأدب الناجح الراجح في ميزان النقد والتلقي الأدبيين. فكثير مما نتداوله الآن، في ثقافتنا العربية المعاصرة باعتباره حقائق نقدية لا يصمد في اختبار علم النقد للحقائق. من ذلك ما يقال عن الأدب والهوية، فالأدب مرتبط بالهوية، إذ لا يكون هذا الأدب إلا أدب هوية ما. وما ازدهرت آداب الأمم الراقية إلا عند ارتباطها بالهوية التي طلعت منها وانغرست في تربتها عند هذا الأديب أو ذاك. ومما يرتقي بهذه الهوية اللغة التي تتوسلها في التواصل الإنساني بكل أشكاله ومنه التواصل الثقافي الأدبي، بيد أن اعتماد لغة ما في التعبير عن الهوية لا يعني أن تلك اللغة هي أرقى لغات المعمورة، فرقي اللغات إنما يرتهن بحال الحضارة في حالَيْ هبوطها وصعودها، ولغات الأرض كلها، مما استطاعت البقاء والحفاظ على ذاتها في التداول والتواصل، إنما استطاعت ذلك لتمسك مستعمليها بها، تمسك التعلق والعناية والتطوير، ما يحقق لهذه اللغة الاستمرارية في الوجود وفي ألق هذا الوجود. فالأدب يرتبط بالهوية، لأنه بها يكون أدبا، ولأن الهوية ترتبط بما يعبر عنها باللغة (وأحيانا باللغات) التي يستعملها أولئك الذين ينتمون لهذه الهوية. وقديما عرف أبو البقاء الكفوي في معجم الكليات، الهويةَ قائلا «الأمر المتعقل من حيث إنه مقول في جواب (ما هو ) يسمى ماهية، ومن حيث ثبوته في الخارج يسمى حقيقة، ومن حيث امتيازه عن الأغيار يسمى هوية»، إذ الهوية في هذا التعريف كامنة، أساسا، في الامتياز عن الأغيار، أي في امتلاك ما به تتميز الأمة عن الأمة الأخرى، والشخص عن الشخص الآخر، فالقيمة التي هي الامتياز عن الأغيار أو الآخرين هي التي ترادف الهوية، فما الذي يجعل أدبنا كاشفا هويتنا؟ سيكون الجواب الأول المنحدر من تعريف الكفوي للهوية، هو ذاك الأدب الذي يميزنا عن غيرنا، وغيرنا في هذا الزمان كثير، لأن تنافس أهل كوكب الأرض على امتلاك هاته الأرض، بكل ما يدل على هذا الامتلاك من سيطرة وقوة وتحكم وتوجيه للحياة الإنسانية ولسياستها واجتماعها وثقافتها وكل ما يحقق مدنيتها وحضارتها. إن الأمم في تنافس حضاري دائم، وميادين هذا التنافس عديدة، من أقواها التنافس على السيطرة الثقافية، ولذلك فإن ما توليه الدول القوية من أهمية للثقافة قد لا يضاهيه ميدان آخر، والثقافة هي التي يتم توظيفها في التعليم، والتعليم هو ميدان الميادين منه تنبجس كل قوى السيطرة على الحاضر وعلى المستقبل، وأساس التعليم اللغة وهذه اللغة تكتسب بالأدب الجميل.
إن الأدب هو الذي يغرس في الأذهان تمثلاتنا وتصوراتنا عن الهوية. وأمة ينتظر أدباؤها أن تأتيهم التزكية والرفعة والقيمة من الأمم الأخرى، بعد أن يترجم أدبهم إلى لغات تلك الأمم هم أدباء يعانون من (النقص الحضاري)، فكيف نتجاوز نقصنا الحضاري؟ لا نستطيع تجاوز هذا النقص إلا بإذكاء القوة في أدبنا، وجعله أدبا يضاهي أرقى الآداب المسيطرة في الحياة الثقافية لعالمنا المعاصر، ونحن نستطيع ذلك إذا تصالحنا مع أنفسنا، وعرفنا أن القيمة التي يوليها الأديب لنفسه ولأدب أمته، هي الخطوة الأولى في ارتياد آفاق الآداب العالمية كلها، وهذه القيمة إنما تتحقق بما نبثه في الأدب الذي نكتبه من قوة الصدق في الكشف عن معاناة إنسان الأمة التي ننتمي إليها. ولقد يكون من سوء حظ الأديب أو من حسنه أن أمتنا، من بين أمم أخرى كثيرة تحيا صراع الوجود الحضاري، بكل تجلياته في الإبقاء على الهوية أساسا وبدءا، وفي منح هذه الهوية ما به تبقى وتزدهر وتشارك في الحياة الحضارية لعالمنا المعاصر. وقد تكون هذه الإنجازات الحاملة لقوة هويتنا وأدبنا مما يسوء الكثيرين، وأن الحياة تجود لغيرنا بلا عمل ولا تمنح لنا شيئا إلا بعد عمل وكدح في هذا العمل. إن الحياة في قانونها لا تكون ولا تبقى إلا لمن يوجدها ويعمل على بقائها، والأدب مما يعمل على بقاء الحياة واستمرارها.
في عام 1957 كتب الأديب ورجل الفكر الديني المعروف عبدالله كنون (المغربي) مقالة عن وحدة الأدب العربي باسطا بكل ما عرف عنه من فصاحة الأدب، عوامل هذه الوحدة والأسباب التي تقف وراءها، من لغة وجغرافيا (ثقافية) وتاريخ مشترك (مصير)، وكانت مقالته هذه هي مما خاطب به محفل اتحاد الكتاب والأدباء العرب المجتمع في القاهرة، والزمان- يومئذ- زمان المد القومي على ما هو معروف عند الجميع، لم يكن مبتغى عبدالله كنون إلا الإشارة الدالة إلى قوة الأدب العربي وأهميته في ربط الجسور ومد خطوط التواصل بين الشعوب العربية، وإن كان هذا الأديب قد عرف عنه اهتمامه ب(النبوغ المغربي في الأدب العربي)، وهو لا يجعل أدب هوية ما، سبيلا إلى التميز بقدر ما هو أدب مغايرة تغني وتقوي وترفد بروافد الغنى والقوة والعظمة التي يحق للأدب العربي أن يتغنى بها بين أقرانه من الآداب الأخرى التي ما تنفك تتغنى بأمجادها القديمة والجديدة.
ما يجعل خطاب الهوية يظهر من جديد وكأنه خطاب اللحظة الراهنة، ما نراه من إرادة المحو التي ترافق الهيمنة في منظومة السيطرة العالمية المسماة (عولمة). إن الآداب العظيمة هي النابعة من التراث المحلي بكل ما يحفل به هذا التراث من ظواهر إنسانية وحيوات فذة مثيرة، تشد الأنظار إليها، مثلما تحفز على الاهتمام والمعالجة الأدبية. إن الآداب الإنسانية كلها منذ أقدم العصور إلى زماننا هذا، تنطوي على هذا السر الكبير، سر المغايرة التي تسم الآداب المحلية في بلدان العالم المختلفة. لكن هذه الآداب وهي تجلو هوية بعينها، لا تنسى انتسابها الكبير إلى شجرة الحياة الإنسانية المفعمة ببراعم وأوراق هذه الحياة النضرة دوما، لأنها حياة تمجد كل حقائق الحياة بالقدر الذي تعمل على إبقاء حياة الإنسان واستمرارها في الكون الذي يحيا فيه.
إن الآداب، دون كثير من العلوم تهتم بإنسانية الإنسان وبما يبث القوة في هذه الإنسانية ويبقيها متوهجة دائما. فما الذي يجعلنا نقرأ أدب الأقدمين ونتطارح الكلام حوله، إلا ما نجد فيه من حياة متوثبة تخالجنا ونحن نحيا هذه الحياة الجديدة أو التي نتصور أنها جديدة. إن الإنسانية، في كل عهد أو زمان تحيا الحياة برؤى ونظريات وعقائد وتصورات آتية مما سبق ذاك العهد وهي في الآن نفسه، تفرش الطريق لما سيتلو من حياة في الزمن الآتي، وإن الآداب،عند الأمم كلها، ترافق رحلات الحياة هاته فتصورها وتتأملها وتكتب عنها باختلاف حينا وتناظر حينا آخر، وفي كليهما (الاختلاف والتناظر) تكمن رغبة الإنسان اللاعجة في التواصل والانتشار والذيوع، ما يسم كل أمة وكل أدب أمة. والآن، أضحى مصير الأدب بيد الأدباء لا كما كان دائما- بل أخطر مما كان لأن التواصل الإنساني يتطور تطورا مدهشا وإن التعويل على الأدب في التواصل لن ينقطع ما دامت اللغة هي جسر الإنسان إلى هذا التواصل وما دام الأدب هو الوعاء الذهبي لهذه اللغة. إن أدباء العربية سيصلون إلى العالمية عندما يستحوذ على قارئ أعمالهم الأدبية جيشان الرغبة في تعلم اللغة الأصلية لهذا الأدب لقراءة ذاك العمل الفريد المجيد بلغته العربية الأصلية، مثلما هو الحال الآن، عندنا في الثقافة العربية، فكثير منا ممن يحب ماركيز يرغب في قراءته باللغة الإسبانية ومن يحب بروست يرغب في قراءته باللغة الفرنسية، ومن يحب توماس مان يتمنى لو يقرأه باللغة الألمانية، ومن يحب فيرجينيا وولف يرغب في قراءتها باللغة الإنكليزية، ومن يحب محمود درويش من محبي الشعر في الثقافات الأجنبية يتمنى قراءته باللغة العربية. وعندما أقرأ سليم بركات شاعرا وروائيا أقول دائما إن قارئه في لغته الأصل العربية سيحبه أكثر من أي قارئ وإن اتفق كل قرائه على محبته.
هوية الأدب في أدبيته، وأدب هوية ما يعمل دائما على إظهار الشرط الإنساني الذي يكاد يكون واحدا، رغم اختلافات تجلياته من بلد إلى بلد في هذه المعمورة الذي نسكنه.
......
٭ قاص وناقد مغربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.