تنسيق المرحلة الأولى 2025.. أمكان الحصول على خدمة التنسيق الإلكترونى    أمين "مستقبل وطن" بأسيوط يُهدد في مؤتمر جماهيري: "إحنا دولة مش حزب واللي هيقف ضدنا مالوش حاجة عند الدولة"    تنسيق الجامعات 2025.. "التعليم العالي" تعلن القوائم المُحدثة للمؤسسات المُعتمدة    هل رفض شيخ الأزهر عرضا ماليا ضخما من السعودية؟.. بيان يكشف التفاصيل    الوقار الأعلى.. أسعار الأسماك اليوم في مطروح الجمعة 25 يوليو 2025    مصر ترحب بإعلان الرئيس الفرنسي اعتزام بلاده الاعتراف بالدولة الفلسطينية    "حماس" و"الجهاد الإسلامي": نحرص على مواصلة المفاوضات للتوصل لاتفاق دائم لوقف إطلاق النار    مدير الوكالة الدولية الذرية: على إيران أن تكون شفافة بشأن منشآتها النووية    تسجل 44 درجة.. بيان مهم يحذر من ذروة الموجة شديدة الحرارة وموعد انكسارها    القبض على شاب أنهى حياة والده بسبب خلافات أسرية بالمنيا    وزارة الداخلية تواصل حملاتها المكثفة لضبط الأسواق والتصدى الحاسم لمحاولات التلاعب بأسعار الخبز الحر    منة عدلي القيعي تروي معاناتها مع المرض خلال تحضيرات زفافها (فيديو)    إصابة عضو بلدية الضهيرة بجنوب لبنان بإطلاق نار إسرائيلي    ريبيرو يحاضر لاعبي الأهلي قبل مباراة البنزرتي    تقارير: الفتح يستهدف ضم مهاجم الهلال    عبد الحميد معالي ينضم لمعسكر الزمالك بالعاصمة الإدارية    سعر الذهب يرتفع 10 جنيهات اليوم الجمعة وعيار 21 يسجل 4630 جنيها للجرام    إزالة 196 حالة تعدٍ على أراضي أملاك الدولة بأسوان خلال 20 يومًا - صور    حفر 3 آبار لتوفير المياه لري الأراضي الزراعية بقرية مير الجديدة في أسيوط    تنفيذ 85 ألف حكم قضائي وضبط 318 قضية مخدرات خلال 24 ساعة    بعد تكرار الحوادث.. الجيزة تتحرك ضد الإسكوتر الكهربائي للأطفال: يُهدد أمن وسلامة المجتمع    الداخلية تنفي شائعات الاحتجاجات داخل مراكز الإصلاح والتأهيل    مصرع عنصر شديد الخطورة عقب تبادل إطلاق النيران مع القوات بأسيوط    واشنطن تدعو إلى وقف فوري للاشتباكات بين تايلاند وكمبوديا    انطلاق مهرجان «ليالينا في العلمين» بمشاركة واسعة من قطاعات «الثقافة»    بعض الليالي تترك أثرا.. إليسا تعلق على حفلها في موسم جدة 2025    بطابع شكسبير.. جميلة عوض بطلة فيلم والدها | خاص    عرض أفلام تسجيلية وندوة ثقافية بنادي سينما أوبرا دمنهور ضمن فعاليات تراثك ميراثك    شقيقة مسلم: «معمله سحر.. واتجوز مراته غصب عننا»    حكم الصلاة خلف الإمام الذي يصلي جالسًا بسبب المرض؟.. الإفتاء تجيب    «إدارة الوقت مفتاح بناء الإنسان الناجح».. موضوع خطبة الجمعة اليوم    «التأمين الشامل» توقع عقد اتفاق تقديم خدمات مع كيانات طبية بالإسكندرية (تفاصيل)    ملحمة طبية.. إنقاذ شاب عشريني بعد حادث مروّع بالمنوفية (صور)    تقنية حديثة.. طفرة في تشخيص أمراض القلب خاصة عند الأطفال    في عمر ال76.. سيدة أسوانية تمحو أميتها وتقرأ القرآن لأول مرة (فيديو وصور)    مسئولو جهاز العاشر من رمضان يتفقدون تنفيذ مدرسة النيل الدولية وامتداد الموقف الإقليمي    انخفاض أسعار الحديد وارتفاع الأسمنت اليوم بالأسواق (موقع رسمي)    وزير الخارجية يسلم رسالة خطية من الرئيس السيسي إلى نظيره السنغالي    الليلة.. الستاند أب كوميديان محمد حلمي وشلة الإسكندرانية في ضيافة منى الشاذلي    أسعار البيض اليوم الجمعة 25 يوليو 2025    إلكترونيا.. رابط التقديم لكلية الشرطة لهذا العام    عالم أزهري يدعو الشباب لاغتنام خمس فرص في الحياة    لتنمية وعي الإنسان.. جامعة قناة السويس تنظم تدريبًا حول الذكاء العاطفي    رونالدو يصل معسكر النصر في النمسا    مواعيد مباريات الجمعة 25 يوليو - الأهلي ضد البنزرتي.. والسوبر الأردني    «100 يوم صحة» تقدم 14 مليونا و556 ألف خدمة طبية مجانية خلال 9 أيام    نجم الزمالك السابق يوجه رسالة خاصة ل عبد الله السعيد    موجة حارة شديدة تتسبب بحرائق في تونس    شديد الحرارة والعظمى 44.. حالة الطقس في السعودية اليوم الجمعة    طريقة عمل بلح الشام، باحترافية شديدة وبأقل التكاليف    رسميا.. قائمة بالجامعات الأهلية والخاصة 2025 في مصر (الشروط والمصاريف ونظام التقسيط)    بعد عمي تعبان.. فتوح يوضح حقيقة جديدة مثيرة للجدل "فرح أختي"    تدهور الحالة الصحية للكاتب صنع الله إبراهيم من جديد ودخوله الرعاية المركزة    الآلاف يحيون الليلة الختامية لمولد أبي العباس المرسي بالإسكندرية.. فيديو    سعاد صالح: القوامة ليست تشريفًا أو سيطرة وإذلال ويمكن أن تنتقل للمرأة    وسيط كولومبوس كرو ل في الجول: صفقة أبو علي تمت 100%.. وهذه حقيقة عرض الأخدود    تفاصيل صفقة الصواريخ التي أعلنت أمريكا عن بيعها المحتمل لمصر    دعاء يوم الجمعة.. كلمات مستجابة تفتح لك أبواب الرحمة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد عبد النبي: لا أفكر في المحظورات بقدر تفكيري في فانتازيا الحياة
نشر في صوت البلد يوم 04 - 03 - 2017

يقدّم الروائي المصري محمد عبد النبي في روايته التي وصلت للقائمة القصيرة في الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) «في غرفة العنكبوت» الصادرة عن دار العين، حياة كاملة لنموذج من المثليين المصريين، الذين يلقى القبض عليهم ويوضعون في السجن، وقد بنى عبد النبي عمله بعد حادثة (كوين بوت) التي كُتب عنها الكثير في الصحافة المصرية.
يأتي عمل عبد النبي هذا بعد روايته الأولى «رجوع الشيخ»، وأعمالٍ قصصية، وترجمات كثيرة.. غير أنه يرى أنه حاول أن يكون عمله هذا بسيطا وبعيدا عن تعقيدات الأساليب السردية التي قدّمها في روايته الأولى. عن البوكر، وعمله هذا، وحياة الكتابة لديه، كان لنا معه هذا الحوار:
- ما الذي دفعك لاختيار موضوع المثلية في مجتمع مغلق، ربما يشكل تهديدا على من يتحدث فيه.. وكيف اقتربت من الحادثة واقعيا ومتخيلا؟
ليس هناك سبب محدد قاطع يمكن الرجوع إليه باطمئنان عند تحديد الدافع وراء كتابة عمل ما، أو اختيار موضوع ما، ربما تتشابك في سياق واحد دوافع عديدة، بعضها ظاهرة وبعضها خفية. جزء من المسألة أن أبناء المجتمع الواحد لا يعرفون بعضهم بعضا، نظرا للأسوار الاجتماعية التي تُبنى بينهم، أسوار تكرسها السلطة ويغذيها التفاوت الطبقي وحتّى الأديان– في صورتها الجامدة– تحميها، فضلا عن الميول الجنسية المختلفة. لكن بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني، وفي أثنائها تحديدا، وضحَ للجميع أننا لم نكن نعرف بعضنا بعضا بما فيه الكفاية، وأننا نعيش معا من دون أن نتكلم ونتواصل إلا مع أشباهنا فقط.
ربما يكون هذا أحد الدوافع الظاهرة لاختيار موضوع المثلية الجنسية، وربما يكون لقائي ببعض الناشطين ممن عاصروا قضية «الكوين بوت» سببا آخر، وربما لكتابة قصة حُب غير معتادة ولم تُكتب من قبل (بهذه الطريقة) في السرد العربي. لم نعد في مجتمع مغلق، صحيح أنه ليس مجتمعا متحررا وناضجا بما يكفي، لكنه ليس مغلقا بكل تأكيد، فالانفتاح على العالم لم يعد خيارا نملك أن نأخذه أو نرفضه، بل أقرب إلى ضرورة للبقاء.
مسائل مثل المثلية الجنسية تُطرح في الإعلام وفي الأعمال الفنية بين الحين والآخر، لكن المشكلة غالبا تكون في طريقة الطرح نفسها، التي تتراوح بين الإدانة الصريحة والإشفاق والدعوة لعلاج المثليين، إلى آخر تلك المواقف المتحفظة والمغلوطة من وجهة نظري. لهذا لم أر تهديدا واضحا في تناول هذا الموضوع، ما دمت قررت أن أكتب نصا جادا وجميلا وبعيدا عن الابتذال، بالعكس كان التخوّف داخليا، وهو ألاّ أستطيع أن أكتب بحرية كافية في طرحي للموضوع وأن أستسلم لتوقعات القارئ المحافظ من ناحية اللغة أو الأسلوب أو طريقة التناول، لذلك فقد كان الرقيب الداخلي هو مَن يجب تجاوزه وليس الخارجي.
لجأت إلى قضية (الكوين بوت) كخلفية لعالم هاني محفوظ، ولتقديم صور واضحة عن طريقة تعامل السُلطة مع المثليين، واستغلالهم اجتماعيا وسياسيا، والتضحية بهم أحيانا في صراعات بعيدة عنهم. اعتمدت على وقائع حقيقية كما تُبنى الأحلام على أحداث يومنا، أي دون تقيّد حرفي مئة في المئة، إلاّ في الأمور التي تسند رؤيتي وحكايتي، في ما عدا ذلك سمحت للخيال أن يملأ كل الفجوات، وكان الأساس عندي هو شخصيتي الرئيسة هاني محفوظ، مشاعره وأفكاره وتفاصيل سجنه وحياته قبل السجن وبعده، لذلك كان الخيال هو البناء، لكن الوقائع كانت هي الأساس التحتي الذي قام عليه البناء.
- هل يمكن أن تكون هذه الرواية تمردا على الأطر الاجتماعية التي يسجن الكثير من الكتاب أنفسهم داخلها؟ وما الذي يمنعنا من التحدث عن خفايانا بصراحة يمكن أن تحوّلها بمرور الزمن إلى سياقات طبيعية نتقبلها نحن ونسعى من خلال ذلك لتقبل المجتمع لها؟
لا أستطيع أن أتصوّر عملا فنيا، وأدبيا على الخصوص، لا تكون فيه درجة من التمرد على الأطر الاجتماعية. قد لا يكون هذا هدفا في حد ذاته، لكن الفن بطبيعته ثائر ورافض للمتعارف عليه والمألوف، يسبق المصلحين والمجددين والثوار برؤيته الإنسانية الواسعة التي لا تسجنها عقائد جامدة. أسباب كثيرة قد تمنع البعض من طرح بعض الموضوعات الشائكة التي لم تعد خفايا بالمعنى التام منها الرغبة في قول المقبول والمتوقع والمطمئن، لكسب رضا القراء بدرجاتهم وأنواعهم، وطبعا خشية الاصطدام بالسلطة الأبوية والنقدية بأشكالها. لن أكون متفائلا إلى حد أن أقول إن الأعمال الفنية قد تدفع المجتمع لتقبل بعض الاختلافات، بوصفها أمورا «طبيعية»، فهذه مسيرة طويلة تساهم في قطعها عوامل عديدة من حراك اجتماعي ونضال وتشريعات وتجديد الخطاب والتوعية، لكن الفن يظل قادرا على الإشارة للطريق من بعيد، وسحر الدراما تحديدا ينبع في جزء منه بأن نجد أنفسنا في موضع أشخاص آخرين غيرنا، ونتخيل أوضاعهم ونتورّط في مشاعرهم وأفكارهم، وهذه هي الخطوة الأولى نحو تقبّل الآخر أيا كان.
- ربما لا يشكل موضوع الرواية في سياق الروايات الفائزة بجائزة البوكر موضوعا مقترحا لمثل هذه الجائزة، فأغلب الأعمال التي حصلت عليها تدور حول الأقليات، أو المناطق ذات الصراع السياسي والعسكري، أو ما شابه ذلك.. إلى أي مدى تمكنت في هذا العمل من الاقتراب لمزاج لجنة الجائزة؟ وكيف؟
قد أتفق معك على أن ثمّة ميل أو مزاج عام في أغلب الروايات الفائزة بجائزة البوكر، التي لا أدّعي أنني قرأتها جميعها، ربما يكون هذا الميل أقرب إلى تناول أسئلة الهوية والتاريخ والصراعات السياسية والعسكرية، إلى آخره. ورغم هذا فهذا الميل يتراوح من سنة إلى أخرى، ولا يعد وصفة مضمونة، فهناك استثناءات على الدوام، كما أن اللجنة تتغيّر، ولا يضمن أحد مزاجها لأنها مجهولة. كان مجرد التقدم برواية تتحدث بوضوع عن المثلية العاطفية في مصر مغامرة، لكن الرهان كان في الأساس من جديد على طريقة الحكي والطرح والتناول. بصرف النظر عن الجائزة كان من بين طموحاتي في أثناء العمل على الرواية أن أقدم للقارئ حكاية بسيطة، ذات قوام متماسك، حتى إن لجأت إلى تكسير خط الزمن في بعض الأحيان، لكي لا تقف التقنيات حائلا بينه وبين التورط في عالم أشخاصي وأزمتهم. كان رهاني الأساسي على توريط القارئ البسيط، وليس إغواء لجنة التحكيم بموضوع شائك.
- ما التقنيات التي حاولت تقديمها سرديا في هذا العمل، خصوصا أنك خارج من معطف القصة القصيرة أولا، ومن الترجمة الأدبية ثانيا؟
روايتي الأولى «رجوع الشيخ» كانت أقرب إلى مهرجان تقنيات، لعبت فيها بطرق السرد، كما لا أظن أنني سألعب بعد ذلك أبدا، وقلت لنفسي إنني سأقع في كل الأخطاء التي أعرفها أو لا أعرفها، بحثا عن شجاعة التجريب، وقد كان، أعجبت البعض ولم تعجب البعض الآخر، كالعادة. كانت الرحلة مختلفة تماما، مع روايتي الثانية «في غرفة العنكبوت»، كان الهدف هو الحرفة التي تخفي نفسها بنفسها، وأن تكون الصدارة للحكاية والمشاهد والشخصية الرئيسية، هاني محفوظ، والإنصات إلى صوته هو، فجاءت حيلة كتابة سيرته في دفاتر كوسيلة علاجية وفي الوقت نفسه طريقة للتأمل أحيانا في مغزى الكتابة وقوتها وقدرتها على التحرير وتجاوز العقبات النفسية والاغتراب الاجتماعي.
بمعنى ما، كنت أستبعد كل حيلة أو تقنية لا تفيد الدراما الأساسية أو تثقلها بلا داع. ما استعنت به من تجربتي البسيطة في القصة القصيرة هو الاستبعاد والحذف، فاستغنيت عن مقاطع وربما فصول كاملة بعد كتابتها للحفاظ على الرشاقة والتوتر في حركة السرد، أمّا الترجمة فتعلمت منها الحرص على اختيار المفردة المناسبة للسياق دون استسهال أو تراخ، وأيضا توخي سلاسة الجملة مهما طالت وامتدت.
- في مقال لك، أشرت إلى ما سميته (لعبة الكتابة) وكيفية الاشتغال عليها.. هل فعلا تمثل الكتابة بالنسبة لك لعبة؟ وما طقوس هذه اللعبة؟ وكيف تفكر في إتقانها؟
ليس المقصود بالكتابة كلعبة هو الاستهانة بها، كأنها رمية نرد أو طريقة للتسلية في أوقات الفراغ، بل المقصود أساسا هو الممارسة مع الاستمتاع، تماما كما يستغرق الأطفال في ألعابهم وعوالمهم المتخيلة، ويتعاملون معها بمنتهى الجدية، ربما يكون علينا نحن أيضا الاستغراق واللعب بمنتهى الجدية.
ولن تكون لأي لعبة متعة أو معنى دون قواعد ما، لكن المختلف مع لعبة الكتابة أن تلك القواعد قد تتغير من كاتب إلى آخر ومن نص إلى آخر، نعيد اكتشافها ونعيد صياغتها مرة بعد أخرى. أنا من المهتمين بالقراءة عن الكتابة كممارسة وقواعد وتقنيات وأسرار، أتعلم من تلك الكتابات قدر الإمكان، لكني عند الممارسة أحاول امتحانها في التجربة العملية، بحيث لا تكون مجرد أصنام، فعفوية اللعب شرط ضروري.ولا طقوس عندي، وربما تكون ممارسة اللعبة نفسها هي الطقس الأساسي، ولا أطمح لإتقانها بقدر ما أرجو مواصلة الاستمتاع بها بصرف النظر عن نتائج المباريات ونقاط التحكيم.
- وصول عملك هذا للقائمة القصيرة ربما سيضعك في زوايا حرجة وأنت تقدم أعمالا جديدة مستقبلا.. ما الذي تفكّر فيه؟ وما المحظورات التي ستفتح طلاسمها في رواياتك المقبلة؟
أراهن على قدرتي على النسيان، فأن تجلس لتكتب هو أن تجلس لتنسى، تنسى عالمك الخاص وشروطك الراهنة، سواء كنت معروفا أم مجهولا، تنسى ما قبل عن كتابتك سابقا من مدح أو خلافه، تنسى النشر والناشرين والقراء والجوائز، وبقدر ما ينجح الكاتب في وضع هذا كله جانبا بقدر ما يتحرر ويكتشف ويغامر. أخشى طبعا من أن ينتظر مني الآخرون إعادة إنتاج ما قرأوه لي وأعجبهم، لكني أراهن على قدرتهم هم أيضا على النسيان والاستعداد نفسه للمغامرة والاكتشاف، لذلك ليس عندي الآن أي محظورات أفكّر فيها وأحاول النبش وراءها، بقدر ما أفكّر في الحكايات الخرافية والفانتازيا، وأعمل على قصص تستلهم تلك العوالم، ربما لأن جرعة الواقع في رواية العنكبوت كانت زائدة أشعر الآن بحاجتي لأن أذهب في الاتجاه العكسي، دون وعود كبيرة غير الاستمتاع باللعب طبعا.
يقدّم الروائي المصري محمد عبد النبي في روايته التي وصلت للقائمة القصيرة في الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) «في غرفة العنكبوت» الصادرة عن دار العين، حياة كاملة لنموذج من المثليين المصريين، الذين يلقى القبض عليهم ويوضعون في السجن، وقد بنى عبد النبي عمله بعد حادثة (كوين بوت) التي كُتب عنها الكثير في الصحافة المصرية.
يأتي عمل عبد النبي هذا بعد روايته الأولى «رجوع الشيخ»، وأعمالٍ قصصية، وترجمات كثيرة.. غير أنه يرى أنه حاول أن يكون عمله هذا بسيطا وبعيدا عن تعقيدات الأساليب السردية التي قدّمها في روايته الأولى. عن البوكر، وعمله هذا، وحياة الكتابة لديه، كان لنا معه هذا الحوار:
- ما الذي دفعك لاختيار موضوع المثلية في مجتمع مغلق، ربما يشكل تهديدا على من يتحدث فيه.. وكيف اقتربت من الحادثة واقعيا ومتخيلا؟
ليس هناك سبب محدد قاطع يمكن الرجوع إليه باطمئنان عند تحديد الدافع وراء كتابة عمل ما، أو اختيار موضوع ما، ربما تتشابك في سياق واحد دوافع عديدة، بعضها ظاهرة وبعضها خفية. جزء من المسألة أن أبناء المجتمع الواحد لا يعرفون بعضهم بعضا، نظرا للأسوار الاجتماعية التي تُبنى بينهم، أسوار تكرسها السلطة ويغذيها التفاوت الطبقي وحتّى الأديان– في صورتها الجامدة– تحميها، فضلا عن الميول الجنسية المختلفة. لكن بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني، وفي أثنائها تحديدا، وضحَ للجميع أننا لم نكن نعرف بعضنا بعضا بما فيه الكفاية، وأننا نعيش معا من دون أن نتكلم ونتواصل إلا مع أشباهنا فقط.
ربما يكون هذا أحد الدوافع الظاهرة لاختيار موضوع المثلية الجنسية، وربما يكون لقائي ببعض الناشطين ممن عاصروا قضية «الكوين بوت» سببا آخر، وربما لكتابة قصة حُب غير معتادة ولم تُكتب من قبل (بهذه الطريقة) في السرد العربي. لم نعد في مجتمع مغلق، صحيح أنه ليس مجتمعا متحررا وناضجا بما يكفي، لكنه ليس مغلقا بكل تأكيد، فالانفتاح على العالم لم يعد خيارا نملك أن نأخذه أو نرفضه، بل أقرب إلى ضرورة للبقاء.
مسائل مثل المثلية الجنسية تُطرح في الإعلام وفي الأعمال الفنية بين الحين والآخر، لكن المشكلة غالبا تكون في طريقة الطرح نفسها، التي تتراوح بين الإدانة الصريحة والإشفاق والدعوة لعلاج المثليين، إلى آخر تلك المواقف المتحفظة والمغلوطة من وجهة نظري. لهذا لم أر تهديدا واضحا في تناول هذا الموضوع، ما دمت قررت أن أكتب نصا جادا وجميلا وبعيدا عن الابتذال، بالعكس كان التخوّف داخليا، وهو ألاّ أستطيع أن أكتب بحرية كافية في طرحي للموضوع وأن أستسلم لتوقعات القارئ المحافظ من ناحية اللغة أو الأسلوب أو طريقة التناول، لذلك فقد كان الرقيب الداخلي هو مَن يجب تجاوزه وليس الخارجي.
لجأت إلى قضية (الكوين بوت) كخلفية لعالم هاني محفوظ، ولتقديم صور واضحة عن طريقة تعامل السُلطة مع المثليين، واستغلالهم اجتماعيا وسياسيا، والتضحية بهم أحيانا في صراعات بعيدة عنهم. اعتمدت على وقائع حقيقية كما تُبنى الأحلام على أحداث يومنا، أي دون تقيّد حرفي مئة في المئة، إلاّ في الأمور التي تسند رؤيتي وحكايتي، في ما عدا ذلك سمحت للخيال أن يملأ كل الفجوات، وكان الأساس عندي هو شخصيتي الرئيسة هاني محفوظ، مشاعره وأفكاره وتفاصيل سجنه وحياته قبل السجن وبعده، لذلك كان الخيال هو البناء، لكن الوقائع كانت هي الأساس التحتي الذي قام عليه البناء.
- هل يمكن أن تكون هذه الرواية تمردا على الأطر الاجتماعية التي يسجن الكثير من الكتاب أنفسهم داخلها؟ وما الذي يمنعنا من التحدث عن خفايانا بصراحة يمكن أن تحوّلها بمرور الزمن إلى سياقات طبيعية نتقبلها نحن ونسعى من خلال ذلك لتقبل المجتمع لها؟
لا أستطيع أن أتصوّر عملا فنيا، وأدبيا على الخصوص، لا تكون فيه درجة من التمرد على الأطر الاجتماعية. قد لا يكون هذا هدفا في حد ذاته، لكن الفن بطبيعته ثائر ورافض للمتعارف عليه والمألوف، يسبق المصلحين والمجددين والثوار برؤيته الإنسانية الواسعة التي لا تسجنها عقائد جامدة. أسباب كثيرة قد تمنع البعض من طرح بعض الموضوعات الشائكة التي لم تعد خفايا بالمعنى التام منها الرغبة في قول المقبول والمتوقع والمطمئن، لكسب رضا القراء بدرجاتهم وأنواعهم، وطبعا خشية الاصطدام بالسلطة الأبوية والنقدية بأشكالها. لن أكون متفائلا إلى حد أن أقول إن الأعمال الفنية قد تدفع المجتمع لتقبل بعض الاختلافات، بوصفها أمورا «طبيعية»، فهذه مسيرة طويلة تساهم في قطعها عوامل عديدة من حراك اجتماعي ونضال وتشريعات وتجديد الخطاب والتوعية، لكن الفن يظل قادرا على الإشارة للطريق من بعيد، وسحر الدراما تحديدا ينبع في جزء منه بأن نجد أنفسنا في موضع أشخاص آخرين غيرنا، ونتخيل أوضاعهم ونتورّط في مشاعرهم وأفكارهم، وهذه هي الخطوة الأولى نحو تقبّل الآخر أيا كان.
- ربما لا يشكل موضوع الرواية في سياق الروايات الفائزة بجائزة البوكر موضوعا مقترحا لمثل هذه الجائزة، فأغلب الأعمال التي حصلت عليها تدور حول الأقليات، أو المناطق ذات الصراع السياسي والعسكري، أو ما شابه ذلك.. إلى أي مدى تمكنت في هذا العمل من الاقتراب لمزاج لجنة الجائزة؟ وكيف؟
قد أتفق معك على أن ثمّة ميل أو مزاج عام في أغلب الروايات الفائزة بجائزة البوكر، التي لا أدّعي أنني قرأتها جميعها، ربما يكون هذا الميل أقرب إلى تناول أسئلة الهوية والتاريخ والصراعات السياسية والعسكرية، إلى آخره. ورغم هذا فهذا الميل يتراوح من سنة إلى أخرى، ولا يعد وصفة مضمونة، فهناك استثناءات على الدوام، كما أن اللجنة تتغيّر، ولا يضمن أحد مزاجها لأنها مجهولة. كان مجرد التقدم برواية تتحدث بوضوع عن المثلية العاطفية في مصر مغامرة، لكن الرهان كان في الأساس من جديد على طريقة الحكي والطرح والتناول. بصرف النظر عن الجائزة كان من بين طموحاتي في أثناء العمل على الرواية أن أقدم للقارئ حكاية بسيطة، ذات قوام متماسك، حتى إن لجأت إلى تكسير خط الزمن في بعض الأحيان، لكي لا تقف التقنيات حائلا بينه وبين التورط في عالم أشخاصي وأزمتهم. كان رهاني الأساسي على توريط القارئ البسيط، وليس إغواء لجنة التحكيم بموضوع شائك.
- ما التقنيات التي حاولت تقديمها سرديا في هذا العمل، خصوصا أنك خارج من معطف القصة القصيرة أولا، ومن الترجمة الأدبية ثانيا؟
روايتي الأولى «رجوع الشيخ» كانت أقرب إلى مهرجان تقنيات، لعبت فيها بطرق السرد، كما لا أظن أنني سألعب بعد ذلك أبدا، وقلت لنفسي إنني سأقع في كل الأخطاء التي أعرفها أو لا أعرفها، بحثا عن شجاعة التجريب، وقد كان، أعجبت البعض ولم تعجب البعض الآخر، كالعادة. كانت الرحلة مختلفة تماما، مع روايتي الثانية «في غرفة العنكبوت»، كان الهدف هو الحرفة التي تخفي نفسها بنفسها، وأن تكون الصدارة للحكاية والمشاهد والشخصية الرئيسية، هاني محفوظ، والإنصات إلى صوته هو، فجاءت حيلة كتابة سيرته في دفاتر كوسيلة علاجية وفي الوقت نفسه طريقة للتأمل أحيانا في مغزى الكتابة وقوتها وقدرتها على التحرير وتجاوز العقبات النفسية والاغتراب الاجتماعي.
بمعنى ما، كنت أستبعد كل حيلة أو تقنية لا تفيد الدراما الأساسية أو تثقلها بلا داع. ما استعنت به من تجربتي البسيطة في القصة القصيرة هو الاستبعاد والحذف، فاستغنيت عن مقاطع وربما فصول كاملة بعد كتابتها للحفاظ على الرشاقة والتوتر في حركة السرد، أمّا الترجمة فتعلمت منها الحرص على اختيار المفردة المناسبة للسياق دون استسهال أو تراخ، وأيضا توخي سلاسة الجملة مهما طالت وامتدت.
- في مقال لك، أشرت إلى ما سميته (لعبة الكتابة) وكيفية الاشتغال عليها.. هل فعلا تمثل الكتابة بالنسبة لك لعبة؟ وما طقوس هذه اللعبة؟ وكيف تفكر في إتقانها؟
ليس المقصود بالكتابة كلعبة هو الاستهانة بها، كأنها رمية نرد أو طريقة للتسلية في أوقات الفراغ، بل المقصود أساسا هو الممارسة مع الاستمتاع، تماما كما يستغرق الأطفال في ألعابهم وعوالمهم المتخيلة، ويتعاملون معها بمنتهى الجدية، ربما يكون علينا نحن أيضا الاستغراق واللعب بمنتهى الجدية.
ولن تكون لأي لعبة متعة أو معنى دون قواعد ما، لكن المختلف مع لعبة الكتابة أن تلك القواعد قد تتغير من كاتب إلى آخر ومن نص إلى آخر، نعيد اكتشافها ونعيد صياغتها مرة بعد أخرى. أنا من المهتمين بالقراءة عن الكتابة كممارسة وقواعد وتقنيات وأسرار، أتعلم من تلك الكتابات قدر الإمكان، لكني عند الممارسة أحاول امتحانها في التجربة العملية، بحيث لا تكون مجرد أصنام، فعفوية اللعب شرط ضروري.ولا طقوس عندي، وربما تكون ممارسة اللعبة نفسها هي الطقس الأساسي، ولا أطمح لإتقانها بقدر ما أرجو مواصلة الاستمتاع بها بصرف النظر عن نتائج المباريات ونقاط التحكيم.
- وصول عملك هذا للقائمة القصيرة ربما سيضعك في زوايا حرجة وأنت تقدم أعمالا جديدة مستقبلا.. ما الذي تفكّر فيه؟ وما المحظورات التي ستفتح طلاسمها في رواياتك المقبلة؟
أراهن على قدرتي على النسيان، فأن تجلس لتكتب هو أن تجلس لتنسى، تنسى عالمك الخاص وشروطك الراهنة، سواء كنت معروفا أم مجهولا، تنسى ما قبل عن كتابتك سابقا من مدح أو خلافه، تنسى النشر والناشرين والقراء والجوائز، وبقدر ما ينجح الكاتب في وضع هذا كله جانبا بقدر ما يتحرر ويكتشف ويغامر. أخشى طبعا من أن ينتظر مني الآخرون إعادة إنتاج ما قرأوه لي وأعجبهم، لكني أراهن على قدرتهم هم أيضا على النسيان والاستعداد نفسه للمغامرة والاكتشاف، لذلك ليس عندي الآن أي محظورات أفكّر فيها وأحاول النبش وراءها، بقدر ما أفكّر في الحكايات الخرافية والفانتازيا، وأعمل على قصص تستلهم تلك العوالم، ربما لأن جرعة الواقع في رواية العنكبوت كانت زائدة أشعر الآن بحاجتي لأن أذهب في الاتجاه العكسي، دون وعود كبيرة غير الاستمتاع باللعب طبعا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.