بمشاركة السيسي وبوتين.. انطلاق مراسم تركيب وعاء ضغط المفاعل للوحدة النووية الأولى بمحطة الضبعة    الإصلاح والنهضة: تحذير السيسي من المال السياسي يعكس موقفا صارما لحماية إرادة الناخبين    قطاع الدراسات العليا بجامعة عين شمس ينظم ورشة عمل بالتعاون مع بنك المعرفة    سعر الدولار يفاجئ الجنيه بارتفاع كبير.. شوف بكام    محافظ قنا يبحث مع اللجنة التنفيذية للمشروعات "الخضراء والذكية" إطلاق مبادرة "قنا تتحول للأخضر" لدعم الاقتصاد الدوار والطاقة النظيفة    «الإنتاج الحربي» تتعاون مع «ستارك السويسرية» لتصنيع المحركات الكهربائية    محافظ أسيوط: إزالة 12 حالة تعدي على أراضي زراعية وبناء مخالف    بسبب تراجع الانتاج المحلى…ارتفاع جديد فى أسعار اللحوم بالأسواق والكيلو يتجاوز ال 500 جنيه    السياحة العالمية تستعد لانتعاشة تاريخية: 2.1 تريليون دولار إيرادات متوقعة في 2025    وزير الإسكان يستقبل محافظ بورسعيد لبحث استعدادت التعامل مع الأمطار    قائد بالجيش السوداني يدعو إلى المشاركة في الاستنفار الوطني    الدفاع الروسية: قواتنا استهدفت منشآت البنية التحتية للطاقة والسكك الحديدية التي تستخدمها القوات الأوكرانية    رئيس الأركان يعود إلى أرض الوطن عقب مشاركته فى فعاليات معرض "دبى الدولى للطيران 2025"    مجلس الشيوخ الأمريكي يوافق على قانون للإفراج عن ملفات إبستين    جلوب سوكر 2025.. رونالدو ينافس بنزيما على جائزة الأفضل في الشرق الأوسط    مصرع 8 أشخاص جراء الفيضانات والانهيارات الأرضية فى فيتنام    30 ألف مشجع في المدرجات.. الأهلي وشبيبة القبائل في مواجهة مرتقبة    صلاح ينافس على جائزتي الأفضل في العالم من جلوب سوكر    القادسية الكويتي: كهربا مستمر مع الفريق حتى نهاية الموسم    الزمالك يستقر على موعد سفر فريق الكرة لجنوب أفريقيا    أحمد عيد يقترب من الأهلي رغم منافسة الزمالك    هشام يكن: أطالب حسام حسن بضم عبد الله السعيد.. وغير مقتنع بمحمد هاني ظهير أيمن    السبت.. إجراء القرعة الإلكترونية لاختيار حجاج الجمعيات الأهلية لموسم 1447ه – 2026م    الطقس اليوم الأربعاء 19 نوفمبر 2025.. ارتفاع الحرارة وتحذير من شبورة كثيفة صباحًا    مصرع 6 عناصر شديدة الخطورة عقب تبادل إطلاق النيران مع الشرطة بالبحيرة    مقتل 6 عناصر شديدى الخطورة وضبط مخدرات ب105 ملايين جنيه فى ضربة أمنية    ضبط 3 متهمين بقتل شاب لخلافات بين عائلتين بقنا    مصرع 3 شباب في تصادم مروع بالشرقية    وزارة الصحة تغلق 11 مركزًا غير مرخص لعلاج الإدمان بحدائق الأهرام    ياسمين رئيس تنضم لمسلسل «اسأل روحك» في رمضان 2026    نجاح كبير لمعرض رمسيس وذهب الفراعنة فى طوكيو وتزايد مطالب المد    كارثة طبيعية يُعيد اكتشاف كمال أبو رية بعد 40 عاما من مشواره الفني    تعرف على أهم أحكام الصلاة على الكرسي في المسجد    وكيل صحة البحر الأحمر يتفقد مستشفى الغردقة العام    «الصحة»: فيروس «ماربورج» ينتقل عبر «خفافيش الفاكهة».. ومصر خالية تماما منه    مهرجان مراكش السينمائى يكشف عن أعضاء لجنة تحكيم الدورة ال 22    حريق هائل يلتهم أكثر من 170 مبنى جنوب غرب اليابان وإجلاء 180 شخصا    منال عوض تترأس الاجتماع ال23 لصندوق حماية البيئة وتستعرض موازنة 2026 وخطط دعم المشروعات البيئية    صيانة عاجلة لقضبان السكة الحديد بشبرا الخيمة بعد تداول فيديوهات تُظهر تلفًا    أفضل مشروبات طبيعية لرفع المناعة للأسرة، وصفات بسيطة تعزز الصحة طوال العام    ندوات تدريبية لتصحيح المفاهيم وحل المشكلات السلوكية للطلاب بمدارس سيناء    هنا الزاهد توجه رسالة دعم لصديقها الفنان تامر حسني    «اليعسوب» يعرض لأول مرة في الشرق الأوسط ضمن مهرجان القاهرة السينمائي.. اليوم    أبناء القبائل: دعم كامل لقواتنا المسلحة    إطلاق أول برنامج دولي معتمد لتأهيل مسؤولي التسويق العقاري في مصر    جيمس يشارك لأول مرة هذا الموسم ويقود ليكرز للفوز أمام جاز    وزير الري يؤكد استعداد مصر للتعاون مع فرنسا في تحلية المياه لأغراض الزراعة    صحة البحر الأحمر تنظم قافلة طبية مجانية شاملة بقرية النصر بسفاجا لمدة يومين    المنتخبات المتأهلة إلى كأس العالم 2026 بعد صعود ثلاثي أمريكا الشمالية    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 19نوفمبر 2025 فى المنيا    بعد انسحاب "قنديل" بالثالثة.. انسحاب "مهدي" من السباق الانتخابي في قوص بقنا    شهر جمادي الثاني وسر تسميته بهذا الاسم.. تعرف عليه    ما هي أكثر الأمراض النفسية انتشارًا بين الأطفال في مصر؟.. التفاصيل الكاملة عن الاضطرابات النفسية داخل مستشفيات الصحة النفسية    أبرزهم أحمد مجدي ومريم الخشت.. نجوم الفن يتألقون في العرض العالمي لفيلم «بنات الباشا»    آسر نجل الراحل محمد صبري: أعشق الزمالك.. وأتمنى أن أرى شقيقتي رولا أفضل مذيعة    دينا محمد صبري: كنت أريد لعب كرة القدم منذ صغري.. وكان حلم والدي أن أكون مهندسة    داعية: حديث "اغتنم خمسًا قبل خمس" رسالة ربانية لإدارة العمر والوقت(فيديو)    مواقيت الصلاه اليوم الثلاثاء 18نوفمبر 2025 فى المنيا....اعرف صلاتك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف يُمكنُ الروائي بروست أن يُغير حياتك؟
نشر في صوت البلد يوم 23 - 02 - 2017

استلهام حياة مشاهير الفكر والأدب في الأعمال السردية أصبح مدار اهتمام الروائيين الحاليين. فالأحداثُ المُتخيلة تمتزج في هذا النوع من الروايات مع وقائع حياة مَنْ ظَلَ تأثيرهُ مُتجذراً في مسيرة الفكر البشري. وهنا نُشيرُ إلى إرفين د.بالوم الذي عالج تاريخ أوروبا مُنطلقاً من سيرة الفيلسوف الألماني نيتشة في رواية بديعة عنوانها «عندما بكى نيتشة». غير أنَّ الكاتب السويسري المقيم في بريطانيا آلان دوبوتون يجمعُ في مؤلفه «كيف يمكن بروست أن يغيَّرَ حياتك» (دار التنوير، ترجمة يزن الحاج)، بين أُسلوب الاستقصاء الصحافي والسرد الروائي والتوثيق التاريخي، إضافة إلى ما يستخلصُه من خلال تأمل آراء بروست وأفكاره.
لايختلفُ أسلوب آلان دوبوتون في هذا العمل عما سلكهُ في كتابه «عزاءات الفلسفة»، حيث يحاول ربط مُعطيات فلسفية وأدبية بأُمور حياتية، فيجوبُ في حيثيات الظروف التي عاشها مارسيل بروست كإنسان عبر رصد علاقته بنفسه وبالآخرين، ومنْ ثُمَّ يسْتديرُ إلى انشغالاته الأدبية، بدءاً من تجاربه الأولى في كتابة المسرح ومروراً بتأليف الجزء الأول من روايته، وصولاً إلى إنهاء عمله المُضني الذي يُعتبرُ علامة فارقة في الأدب الروائي عقب الحرب العالمية الأُولى، «البحث عن الزمن المفقود".
يتضمنُ الكتابُ آراء الأُدباء المُعاصرين لبروست، ومنهم أندريه جيد وفرجينيا وولف. إضافة الى تصوير ماكان يعانيه بروست من مرض مزمن (الربو) الذي قيّد حريته وأرغمه على ملازمة السرير وتحمل عذاب نوباته الخانقة. وقد حدد المرض ايضاً طريقة لباس بروست، إذ كان يظهر في المُناسبات مرتدياً أكثر من معطف. وإن عجز الأطباء عن مُعالجة مرضه حدا ببروست إلى زعزعة ثقته بالطب. يقولُ «الإيمان بالطب هو قمة الحماقة وعدم الإيمان به حماقة أكبر»، وإلى جانب ذلك يَشْرَحُ المؤلفُ العلاقة بين العباقرة والمعاناة ويؤكدُ قدرة بروست في استيعاب محنته مع المرض. وهو يُشيرُ في هذا السياق إلى سعي الفلاسفة وراء السعادة، غير أن التجارب تكشفُ أنَّ تطوير مُقاربة فعالة للبؤس تَبزُ فعلياً قيمة أي مسعى يوتوبي وراء السعادة.
يشرعُ الكاتبُ بالدخول إلى عالم بروست من خلال سؤال طرحتهُ «لانتر إنسيغان» (صحيفة مُتخصصة بالأخبار الاستقصائية) على نخبة من مشاهير الفن والأدب في أوروبا حول ردود فعلهم إذا تلقوا خبراً بأنَّ نهاية العالم قد أزفت؟. تتباين وجهات النظر حول هذا الموضوع، وكان بروست من الذين قد استجوبتهم الصحيفة في شأن فرضية وقوع الكارثة، وأجاب حينها بأن «وجود خطر يهدد حياتنا قد تزيدُ الحياة روعة لأننا نصبح أكثر تعلقاً بها، وتتبدى بالتالي أبعادها الجمالية المُبهمة ونرجو إرجاء تحقيق هذه الفرضية إلى أن نُنجز بعض مشاريعنا مثل زيارة متحف اللوفر والبوح بحبنا العارم لآنسة فلانة».
من خلال إجابته تُستشفُ رؤية بروست لعنصر الزمن الذي لا يرى فيه الإنسان خصماً إلا في لحظة اقتراب غيابه على مسرح الحياة. ومن ثُم يتنقلُ آلان دوبوتون إلى مايمكن وصفه بعقدة مهنة الأب في حياة بروست. كان والده طبيباً ذائع الصيت في فرنسا، وقد ألّف أيضاً كتباً عن إرشادات صحية ونال وسام جوقة الشرف برتبة فارس. لذا رغبُ مارسيل بروست في عمل يضارع أهمية ما يقوم به والده، وهو يخاطب خادمته مرة قائلا: «آه ياسيليستي لو كان أن أتأكدُ من أنني سأفعل بكتبي ماكان يفعله والدي مع المرضى». كأن بروست توقع بحدسه دور الرواية في مُعالجة المرضى في المستقبل حيث كثُرت التقاريرُ والدراسات أخيراً عن جدوى الرواية في علاج المرضى، ولم يقبلْ مارسيل بروست فكرة الالتزام بوظيفة معينة، مع أنَّه اختبر العمل الوظيفي في مجالات مختلفة من دون ان يستمر طويلاً بها، ويقول: "في أشدَّ لحظات حياتي لم أكنْ أتخيل أمراً أشد فظاعة من مكتب المُحاماة"
مقلب آخر من حياة بروست هو علاقته بأمه. فهو كان يشعر بالعجز عن فعل أي شيء من دونها، إذ ينقلُ صاحبُ «عزاءات الفلسفة» كلام بروست عن محاولات الأم لتعليم ابنها على أن يعيش في غيابها. وعندما سُئل بروست عن معنى التعاسة فأجاب أن «أنفصل عن أمي تماماً». ومن ثُمَّ يذكرُ المؤلف قرار بروست طبع روايته على نفقته بعدما رفض أندريه جيد نشرها في دار غاليمار. لقد بدا أسلوب بروست غير مألوف، كما أن إضافة الشروحات إلى عمله تزيد صعوبة قراءته. فهو أبدع لغة جديدة وتراكيب مختلفة في صياغة الجمل المطولة، بحيث لم يستسغ أومبلو (مدير دار نشر) عمل بروست، وكذلك جاك مادلين، قارىء في إحدى دور النشر الفرنسية، حين كتب في تقريره عقب الانتهاء من قراءة «البحث عن الزمن المفقود»: «ليس لدى المرء دليل ولو دليل واحد لفهم مايدور هنا. مامغزى كل هذا؟ مامعناه؟ أين سيقود؟».
يشيرُ صاحب الكتاب إلى أن جميع الناشرين الآخرين تشاطروا الآراء ذاتها، ولكن ما إن مضت السنوات حتى تأسّف هؤلاء الأشخاص على اعتراضهم وموقفهم السلبي حيال رواية مارسيل بروست، الذي استمتع بالندم وباعتذارات تدفقت عليه.
إضافة إلى نبوغه في التأليف وتشخيص دوافع السلوك الإنساني، كان يروق لبروست، وفق دوبون، تحليل الأعمال الفنية. فهو يبحث في الواقع عن ملامح مشابهة للوجوه التي يراها في اللوحات الفنية. وهو يهتم الى توعية المشاهد لما تختزنه تلك الأعمال من أبعاد جمالية وما تستجليه لمزايا الحياة البسيطة، وذلك لاينفصل عن رؤيته لمفهوم الحرمان بحيث ما تتوصل إليه في قراءتك لطروحات بروست أن لذة الحرمان تفوق متعة الامتلاك. وهذا ما يتجسد في تباين الحالة الاقتصادية بين الدوقة وألبرتين، فالأولى لاتتمتعُ بما تحصلُ عليه نظراً لثرائها بينما الثانية تتلذذ برغبة الوصول إلى درسدن، كما أن اهتمامها بالفساتين والقبعات أكبر. هذا التصور يلقي بظلاله على تعامل مارسيل بروست مع المرأة. هو يفضل المرأة التي تلقي بالرجل إلى دوامة الشك.
وعلى رغم ذكائه لإنشاء شبكة من الأصدقاء وتواصله مع الطبقة الارستقراطية، لم يحبّذ بروست فكرة أن يقضي وقته في المُناسبات الاجتماعية، ويرى أن الوقت الذي نستقطعه من العمل من أجل ساعة للحديث مع شخص معين ليس إلا مبادلة للواقع بشيء غير موجود.
رفض بروست النمطية في التفكير واقتنع بقدرة الإنسان على استقاء الأفكار العظيمة من خلال المتابعة لما هو يومي وما يُنشرُ على صفحات الجرائد. فلولا تقصي فلوبير أخبار الصُحف وقراءته خبر انتحار زوجة شابة لما كتب مدام بوفاري. ومابرح بروست مُتابعاً جريدة لوفيغارو مقارناً بين ما يقرأه من أخبار مأساوية بملاحم تارخية، وهو اتفق مع الفيلسوف الألماني كانط حول ضرورة استقلال العقل. ومثلما يؤكدُ كانط خطورة توكيل غيرك على أن يُفكر بدلاً منك، كذلك بروست يعتقدُ بأن تحويل وظيفة الكتب من التنبهية إلى أن تكون بديلاً لنشاطنا الفكري نوع من العبودية الثقافية.
استلهام حياة مشاهير الفكر والأدب في الأعمال السردية أصبح مدار اهتمام الروائيين الحاليين. فالأحداثُ المُتخيلة تمتزج في هذا النوع من الروايات مع وقائع حياة مَنْ ظَلَ تأثيرهُ مُتجذراً في مسيرة الفكر البشري. وهنا نُشيرُ إلى إرفين د.بالوم الذي عالج تاريخ أوروبا مُنطلقاً من سيرة الفيلسوف الألماني نيتشة في رواية بديعة عنوانها «عندما بكى نيتشة». غير أنَّ الكاتب السويسري المقيم في بريطانيا آلان دوبوتون يجمعُ في مؤلفه «كيف يمكن بروست أن يغيَّرَ حياتك» (دار التنوير، ترجمة يزن الحاج)، بين أُسلوب الاستقصاء الصحافي والسرد الروائي والتوثيق التاريخي، إضافة إلى ما يستخلصُه من خلال تأمل آراء بروست وأفكاره.
لايختلفُ أسلوب آلان دوبوتون في هذا العمل عما سلكهُ في كتابه «عزاءات الفلسفة»، حيث يحاول ربط مُعطيات فلسفية وأدبية بأُمور حياتية، فيجوبُ في حيثيات الظروف التي عاشها مارسيل بروست كإنسان عبر رصد علاقته بنفسه وبالآخرين، ومنْ ثُمَّ يسْتديرُ إلى انشغالاته الأدبية، بدءاً من تجاربه الأولى في كتابة المسرح ومروراً بتأليف الجزء الأول من روايته، وصولاً إلى إنهاء عمله المُضني الذي يُعتبرُ علامة فارقة في الأدب الروائي عقب الحرب العالمية الأُولى، «البحث عن الزمن المفقود".
يتضمنُ الكتابُ آراء الأُدباء المُعاصرين لبروست، ومنهم أندريه جيد وفرجينيا وولف. إضافة الى تصوير ماكان يعانيه بروست من مرض مزمن (الربو) الذي قيّد حريته وأرغمه على ملازمة السرير وتحمل عذاب نوباته الخانقة. وقد حدد المرض ايضاً طريقة لباس بروست، إذ كان يظهر في المُناسبات مرتدياً أكثر من معطف. وإن عجز الأطباء عن مُعالجة مرضه حدا ببروست إلى زعزعة ثقته بالطب. يقولُ «الإيمان بالطب هو قمة الحماقة وعدم الإيمان به حماقة أكبر»، وإلى جانب ذلك يَشْرَحُ المؤلفُ العلاقة بين العباقرة والمعاناة ويؤكدُ قدرة بروست في استيعاب محنته مع المرض. وهو يُشيرُ في هذا السياق إلى سعي الفلاسفة وراء السعادة، غير أن التجارب تكشفُ أنَّ تطوير مُقاربة فعالة للبؤس تَبزُ فعلياً قيمة أي مسعى يوتوبي وراء السعادة.
يشرعُ الكاتبُ بالدخول إلى عالم بروست من خلال سؤال طرحتهُ «لانتر إنسيغان» (صحيفة مُتخصصة بالأخبار الاستقصائية) على نخبة من مشاهير الفن والأدب في أوروبا حول ردود فعلهم إذا تلقوا خبراً بأنَّ نهاية العالم قد أزفت؟. تتباين وجهات النظر حول هذا الموضوع، وكان بروست من الذين قد استجوبتهم الصحيفة في شأن فرضية وقوع الكارثة، وأجاب حينها بأن «وجود خطر يهدد حياتنا قد تزيدُ الحياة روعة لأننا نصبح أكثر تعلقاً بها، وتتبدى بالتالي أبعادها الجمالية المُبهمة ونرجو إرجاء تحقيق هذه الفرضية إلى أن نُنجز بعض مشاريعنا مثل زيارة متحف اللوفر والبوح بحبنا العارم لآنسة فلانة».
من خلال إجابته تُستشفُ رؤية بروست لعنصر الزمن الذي لا يرى فيه الإنسان خصماً إلا في لحظة اقتراب غيابه على مسرح الحياة. ومن ثُم يتنقلُ آلان دوبوتون إلى مايمكن وصفه بعقدة مهنة الأب في حياة بروست. كان والده طبيباً ذائع الصيت في فرنسا، وقد ألّف أيضاً كتباً عن إرشادات صحية ونال وسام جوقة الشرف برتبة فارس. لذا رغبُ مارسيل بروست في عمل يضارع أهمية ما يقوم به والده، وهو يخاطب خادمته مرة قائلا: «آه ياسيليستي لو كان أن أتأكدُ من أنني سأفعل بكتبي ماكان يفعله والدي مع المرضى». كأن بروست توقع بحدسه دور الرواية في مُعالجة المرضى في المستقبل حيث كثُرت التقاريرُ والدراسات أخيراً عن جدوى الرواية في علاج المرضى، ولم يقبلْ مارسيل بروست فكرة الالتزام بوظيفة معينة، مع أنَّه اختبر العمل الوظيفي في مجالات مختلفة من دون ان يستمر طويلاً بها، ويقول: "في أشدَّ لحظات حياتي لم أكنْ أتخيل أمراً أشد فظاعة من مكتب المُحاماة"
مقلب آخر من حياة بروست هو علاقته بأمه. فهو كان يشعر بالعجز عن فعل أي شيء من دونها، إذ ينقلُ صاحبُ «عزاءات الفلسفة» كلام بروست عن محاولات الأم لتعليم ابنها على أن يعيش في غيابها. وعندما سُئل بروست عن معنى التعاسة فأجاب أن «أنفصل عن أمي تماماً». ومن ثُمَّ يذكرُ المؤلف قرار بروست طبع روايته على نفقته بعدما رفض أندريه جيد نشرها في دار غاليمار. لقد بدا أسلوب بروست غير مألوف، كما أن إضافة الشروحات إلى عمله تزيد صعوبة قراءته. فهو أبدع لغة جديدة وتراكيب مختلفة في صياغة الجمل المطولة، بحيث لم يستسغ أومبلو (مدير دار نشر) عمل بروست، وكذلك جاك مادلين، قارىء في إحدى دور النشر الفرنسية، حين كتب في تقريره عقب الانتهاء من قراءة «البحث عن الزمن المفقود»: «ليس لدى المرء دليل ولو دليل واحد لفهم مايدور هنا. مامغزى كل هذا؟ مامعناه؟ أين سيقود؟».
يشيرُ صاحب الكتاب إلى أن جميع الناشرين الآخرين تشاطروا الآراء ذاتها، ولكن ما إن مضت السنوات حتى تأسّف هؤلاء الأشخاص على اعتراضهم وموقفهم السلبي حيال رواية مارسيل بروست، الذي استمتع بالندم وباعتذارات تدفقت عليه.
إضافة إلى نبوغه في التأليف وتشخيص دوافع السلوك الإنساني، كان يروق لبروست، وفق دوبون، تحليل الأعمال الفنية. فهو يبحث في الواقع عن ملامح مشابهة للوجوه التي يراها في اللوحات الفنية. وهو يهتم الى توعية المشاهد لما تختزنه تلك الأعمال من أبعاد جمالية وما تستجليه لمزايا الحياة البسيطة، وذلك لاينفصل عن رؤيته لمفهوم الحرمان بحيث ما تتوصل إليه في قراءتك لطروحات بروست أن لذة الحرمان تفوق متعة الامتلاك. وهذا ما يتجسد في تباين الحالة الاقتصادية بين الدوقة وألبرتين، فالأولى لاتتمتعُ بما تحصلُ عليه نظراً لثرائها بينما الثانية تتلذذ برغبة الوصول إلى درسدن، كما أن اهتمامها بالفساتين والقبعات أكبر. هذا التصور يلقي بظلاله على تعامل مارسيل بروست مع المرأة. هو يفضل المرأة التي تلقي بالرجل إلى دوامة الشك.
وعلى رغم ذكائه لإنشاء شبكة من الأصدقاء وتواصله مع الطبقة الارستقراطية، لم يحبّذ بروست فكرة أن يقضي وقته في المُناسبات الاجتماعية، ويرى أن الوقت الذي نستقطعه من العمل من أجل ساعة للحديث مع شخص معين ليس إلا مبادلة للواقع بشيء غير موجود.
رفض بروست النمطية في التفكير واقتنع بقدرة الإنسان على استقاء الأفكار العظيمة من خلال المتابعة لما هو يومي وما يُنشرُ على صفحات الجرائد. فلولا تقصي فلوبير أخبار الصُحف وقراءته خبر انتحار زوجة شابة لما كتب مدام بوفاري. ومابرح بروست مُتابعاً جريدة لوفيغارو مقارناً بين ما يقرأه من أخبار مأساوية بملاحم تارخية، وهو اتفق مع الفيلسوف الألماني كانط حول ضرورة استقلال العقل. ومثلما يؤكدُ كانط خطورة توكيل غيرك على أن يُفكر بدلاً منك، كذلك بروست يعتقدُ بأن تحويل وظيفة الكتب من التنبهية إلى أن تكون بديلاً لنشاطنا الفكري نوع من العبودية الثقافية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.