حلمى عبد الباقي عن إحالته لمجلس تأديب: ما يحدث محاولة للإطاحة بي والحق سيظهر    الأمانة العامة لمجلس النواب تبدأ في استقبال النواب الجدد اعتبارا من 4 يناير    رئيس جامعة العريش يتابع سير امتحانات الفصل الدراسي الأول بمختلف الكليات    «التعليم» تكشف مستهدفات العام الدراسي المقبل واستكمال مسيرة التطوير    البورصة المصرية تربح 2.1 مليار جنيه بختام تعاملات الثلاثاء 30 ديسمبر 2025    30 ديسمبر 2025.. أسعار الذهب ترتفع 25 جنيها إضافية وعيار 21 يسجل 5945 جنيها    الإمارات تصدر بيانًا يوضح حقيقة دورها في اليمن    رئيس مجلس الشيوخ يستقبل سفير البحرين    الرئيس الإيراني يتوعد برد "قاس ومؤسف" على تهديدات ترامب    الإسماعيلية تستعد لتنفيذ اختبارات المشروع القومي للموهبة والبطل الأوليمبي    نجم الزمالك السابق: منتخب مصر يستطيع التعامل مع أي منافس    بيراميدز يخطف حامد حمدان من الأهلي    تأجيل دعوى الحجر على الدكتورة نوال الدجوي    فرح كروان مشاكل يتحول لساحة معركة.. تحرش وضرب وضبط 18 متهماً بالقليوبية    «تعليم القاهرة»: الذكاء الاصطناعي خطوة حقيقية لبناء جيل قادر على مواكبة المستقبل الرقمي    نقل جونج ميونج للمستشفى عقب تعرضه لوعكة صحية أثناء تصوير مسلسله الجديد    «الزراعة»: تحصين أكثر من 1.35 مليون طائر خلال نوفمبر 2025    إصابة 8 أشخاص إثر انقلاب ميكروباص على طريق القاهرة- أسيوط الصحراوي الغربي بالفيوم    بمناسبة احتفالات رأس السنة.. مد ساعات عمل مترو الخط الثالث وقطار العاصمة    دينامو زغرب يضم عبد الرحمن فيصل بعد فسخ عقده مع باريس سان جيرمان    مهرجان المنصورة الدولي لسينما الأطفال يكشف عن بوستر دورته الأولى    قادة أوروبيون يبحثون ملف حرب أوكرانيا    رئيس الوزراء يتفقد عددا من أقسام مستشفى جامعة الجيزة الجديدة    مستشفيات جامعة بني سويف: استقبلنا أكثر من 1.25 مليون حالة خلال عام 2025    تزامنا مع زيارة نتنياهو.. البنتاجون يعلن عن صفقة "إف-15" لإسرائيل    وزير الداخلية يعقد اجتماعا مع القيادات الأمنية عبر تقنية (الفيديو كونفرانس)    وزير الثقافة يُطلق «بيت السرد» بالعريش ويدعو لتوثيق بطولات حرب أكتوبر| صور    محافظ المنوفية يوجه بفتح مقر جديد للمركز التكنولوجي لاستقبال طلبات المواطنين    وزارة العدل تقرر نقل مقرات 7 لجان لتوفيق المنازعات في 6 محافظات    شاحنات مساعدات تغادر معبر رفح البري إلى كرم سالم لتسليمها للجهات الفلسطينية    معهد الأورام يستقبل وفدا من هيئة الهلال الأحمر الإماراتي لدعم المرضى    أسباب تأجيل إقالة أحمد عبد الرؤوف فى الزمالك.. اعرف التفاصيل    محافظ المنوفية يضع حجر الأساس لإنشاء دار المناسبات الجديدة بحي شرق شبين الكوم    ضبط قضايا تهريب ومخالفات مرورية خلال حملات أمن المنافذ    مهرجان أسوان لأفلام المرأة يعلن عن برنامج تدريبي للشباب بأسيوط    محمد يوسف: حسام حسن يثق في إمام عاشور.. وكنت أنتظر مشاركته ضد أنجولا    معبد الكرنك يشهد أولى الجولات الميدانية لملتقى ثقافة وفنون الفتاة والمرأة    الإحصاء: 2.6٪ زيادة في أعداد الطلاب المقيدين بالتعليم العالي عام 2024 / 2025    حازم الجندى: إصلاح الهيئات الاقتصادية يعيد توظيف أصول الدولة    فيديو.. متحدث الأوقاف يوضح أهداف برنامج «صحح قراءتك»    الصحة تنفذ المرحلة الأولى من خطة تدريب مسؤولي الإعلام    أوكرانيا: مقتل وإصابة 1220 عسكريا روسيا خلال 24 ساعة    رئيس جامعة الجيزة الجديدة: تكلفة مستشفى الجامعة تقدر بنحو 414 مليون دولار    حكام مباريات غداً الأربعاء في كأس عاصمة مصر    بنك مصر يخفض أسعار الفائدة على عدد من شهاداته الادخارية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 30-12-2025 في محافظة الأقصر    اليوم.. طقس شديد البرودة ليلا وشبورة كثيفة نهارا والعظمي بالقاهرة 20 درجة    «التضامن» تقر توفيق أوضاع جمعيتين في محافظة القاهرة    مساعد وزير الخارجية الفلسطيني الأسبق: تهديد ترامب لحماس رسالة سياسية أكثر منها عسكرية    «هتحبس ليه؟ فرحي باظ وبيتي اتخرب».. أول تعليق من كروان مشاكل بعد أنباء القبض عليه    لهذا السبب| الناشط علاء عبد الفتاح يقدم اعتذار ل بريطانيا "إيه الحكاية!"    التموين تعلن اعتزامها رفع قيمة الدعم التمويني: 50 جنيه لا تكفي    إصابة منصور هندى عضو نقابة المهن الموسيقية فى حادث تصادم    جد الطفل المختطف: جدة حفيدي الآن بمركز الشرطة لتتسلمه    بيان ناري من جون إدوارد: وعود الإدارة لا تنفذ.. والزمالك سينهار في أيام قليلة إذا لم نجد الحلول    ما أهم موانع الشقاء في حياة الإنسان؟.. الشيخ خالد الجندي يجيب    هل تجوز الصلاة خلف موقد النار أو المدفأة الكهربائية؟.. الأزهر للفتوى يجيب    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 29-12-2025 في محافظة الأقصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كوابيس مرحة .. الواقع السريري للإنسان بعقده ورموزه
نشر في صوت البلد يوم 11 - 12 - 2016

عندما يعنون وليد سليمان نصوص مجموعته القصصية الجديدة ب "كوابيس مرحة"، فنحن نستشف منذ البداية بأنه سيرسم ملامح شخصيات هذه النصوص وأحداثها عبر السخرية السوداء.
والسخرية فن قديم وجد مع الرومان مثل هوراس وجوفينال، وملهاة ارسطو فانيس الساخرة من المجتمع الاغريقي في القرن الخامس، إلا أن السخرية هنا لا تتجه إلى الواقع مباشرة بل من خلال رموزه وخطوطه السريالية الغامضة التي تظهر على شكل أحلام مزعجة.
والكوابيس هي أحلام لا تنسى، أحلام الاختناق والتوتر في حالاته القصوى، بل هي قصص اللاوعي التي يتحول فيها النائم إلى مخرج ومصور وكاتب سيناريو وهو يمارس تكنيك التقطيع لأن القصص تبنى عبر مجموعة من المقاطع المتداخلة، تتداخل فيها الأزمنة والأمكنة، وقص الكوابيس هو نتاج صراع باطني وتصوير لما يعيشه الإنسان من قلق وجودي ونفسي.
والحقيقة أن القارئ - حتى وإن لم يكن متسلحا بالنظريات والمراجع التي تؤهله لفك طلاسم هذه الكوابيس - فهو يدرك أن الأزمات النفسية والاجتماعية والسياسية وما تتركه من شروخ وندبات ستكون من المواد التي تتعقب صور الواقع في الذاكرة القريبة والبعيدة أو الآن والهنا للمبدع، فقد أسهمت الحرب العالمية الثانية في ظهور أدب العبث مع صامويل بيكيت خاصة، والواقعية السحرية في أميركا اللاتينية.
وكتب تيم أوبراين الروائي الأميركي عن آثار الحرب على نفسيات الجنود الأميركيين في الفيتنام في روايته" الاشياء المحمولة"، وكتبت غادة السمان روايتها "كوابيس بيروت" أثناء الحرب اللبنانية في سبعينيات القرن الماضي، وكتب كافن باوروز عن كوابيس حرب العراق في روايته "طيور صفر" ترجمة أحمد فاضل، وقد كان جنديا ضمن سلاح المدفعية في بغداد، كما كتب الروائي المصري الشاب محمد ربيع رواية "عطارد" ليتحدث عن الكوابيس التي عرفها المجتمع المصري بعد الثورة في فترة مغموسة بالدم والقتل.
وليد سليمان القاص والمترجم التونسي الذي كتب "كوابيس مرحة" بعد سنوات من الثورة عرف فيها المجتمع التونسي حالات من العنف والتطرف فقد كان يغرف من نفس الإناء. ذلك أن المجتمع الذي لم يكن يعي أشكال العنف وظواهره وإسالة الدماء بطريقة فجة، فقد عاش فترات من الرعب الحقيقية وهو يفيق من صدمة تلو صدمة ليضعنا أمام سؤال الهسترة والهلوسة والثمالة وغياب الوعي. اذ لا يمكن تجاهل هذه الحالات التي تضغط على اللاوعي ليعيد تصويرها.
وليد سليمان وهو يحمل بين طياته هذا الواقع، يكتب عن آثاره النفسية على شخصياته القصصية، وكأنها غائبة تماما عن وجودها الحسي فتبدو في حالة إجهاد تليها حالة نشوة، بل هو يعود بنا إلى أفكار نيتشه في نقده للعقلانية واعتباره أن الثمالة هي التي تعود بنا إلى البدايات وإلى جوهر الطبيعة فتتغير طبيعة الأمور والأشياء تماما، فهو لا يحدثنا عن قصص من عالم الوعي بل من عالم اللاوعي، فيصور شخصياته في حالة ثمالة. فتضعنا القصة الأولى "المكالمة" مع بول اوستر، وتصدير لبول اوستر "من تكون؟ وإن كنت تعرف، فلماذا تكذب؟".
بعد الحديث عن إجهاد الراوي وشربه للويسكي وقراءة رواية بول أوستر، غالبه النعاس، فوجد نفسه يتحاور مع كاتب "ثلاثية نيويورك"، الذي اتهمه بسرقة رواية "اختراع العزلة"، ليعبر عن حالة من الهوس بهذا الكاتب إلى الدرجة التي جعلته يعتقد أن صوته يصله عبر الهاتف، والهوس هو ارتداد الصوت لما قاله بول اوستر عن العزلة في "بلاد الأشياء الاخيرة" وهو "من المستحيل أن يتخلص الإنسان من تأثير الأشياء عليه سيصبح وجوده المعزول مستحيلا، ولكن سيكتب القصص المركونة في أدراج ذاكرته؟ الأشياء عندما تتكسر وتفقد وظيفتها تتحول إلى شيء آخر، علينا أن نجد الكلمات التي تعبر عنا بصورة حقيقية."
وتكمن السخرية هنا في أنه لا يعيش في عالم الأوهام بل هو هوس إبداعي فني للتخفيف حتى وإن ارتبط ذلك بالإدمان، هو "وجود مشكلات يهرب منها الفرد خارج نفسه لينسى ويبعد عن القلق".
كذلك الأمر بالنسبة الى قصة "777" قصة مشفرة بالأرقام اذ يلتقي الراوي بسيدة في حانة نزل ببلاد أجنبية أضاعت محفظتها ثم يجد نفسه يفتش عنها فيشاركها السهر والسكر حتى الثمالة وحين ينهض لا يجدها. ولكنه يجد غرفته مرتبة، وكان عليه مغادرة النزل نحو المطار مسترجعا تفاصيل حكاية تبدو غريبة عاشها حين كان ثملا إلا أنه وهو يروي قصة غرفتها الغارقة في فوضى عارمة، كان يشير من خلال المجلات المفتوحة والممزقة، الملابس الداخلية الملقاة هنا وهناك وقد كان يشرب معها الكونياك والويسكي، السكر والغياب عن الوعي فهو يسترجع صور اللاوعي متشظية.
وقد عاد وليد سليمان في "كوابيس مرحة" إلى رموز أدبية كتبت عن الرعب وعن الكوابيس، فبنى علاقة هوس بها، وكأنها تتحدث عن واقعه بالنيابة عنه.
وكأنه يقول لها بأنه إن تجاسر عن التطرق إلى هذه المواضيع فقد انتحل صفتها وسرق قصصها، فهذا الواقع الكابوسي قد كتبوا عنه، بل هم من تلبسوا به وتصدوا له في حالات الحلم. فإلى جانب بول اوستر تراوده صورة ادغار الان بو في قصة "كوابيس مرحة" التي بدت كمشاهد سينمائية بالأبيض والأسود، غير مرتبة ومشوهة وغير مكتملة، يراوده كابوس الرجل المزعج، الذي يضع على عينيه نظارات شمسية حديثة، شخصية كابوسية عرضها على رسام قام برسمه بعد تعديل وبعد وصف دقيق، ثم حملها إلى أستوديو تصوير لتكبيرها ووضعها في إطار، إلا أن صاحب استوديو التصوير يعلمه بأنها صورة أديب الرعب الاميركي ادغار الان بو الشخصية الكابوسية التي عاشت في القرن التاسع عشر، الذي كتب عن شخصيات قصصه المرعبة والأجواء المحيطة بها في واقع مظلم خانق كئيب، يدمر الأعصاب، ولكنه توخى لبناء عوالمه القصصية كما ذكر بودلير الذي ترجم له "طرقاً وأشكالاً مجهولة يدهش بها الخيال".
في نص "في جرائم فرانز كافكا" الذي عرف "رائد الكتابة الكابوسية"، عالج ظاهرة المسخ في كلام العجائز أو تحديدا في الخرافات والتمثلات الشعبية، والذي كان هاجسا للتعبير عن الاغتراب والجانب المظلم في الشخصية للتعبير عن اجواء الكآبة، وخاصة في روايته "المسخ". وهنا نتساءل ماذا سيضيف القاص ان اكتفى باستنساخ الرموز التخيلية القابعة في ذاكرته؟
إلا أنه يخرج بنا إلى نصوص فيها الكثير من السخرية من الموت الذي يتربص بالإنسان في قصة "سيلفي مع الارهابي"، فالرهينة شاب يستأذن ليأخذ سيلفي يخلد به لحظة الرهن بنشرها على الفايسبوك والإرهابي يستعجله لأن موته يكون بعد دقائق، وهي صورة مرعبة تعبر عن السخرية من المصير القريب، التمتع بالحياة حتى عندما يدرك أنها ستاخذ منه، كذلك الأمر في قصة "العجوز والمرأة" فيرصد الحوار القصير بين العجوز والشرطي عن هجوم ارهابي روتيني والصورة تحمل الكثير من اللامبالاة وعدم الاكتراث ولكنها صادمة.
وفي قصة "عقيل" فإن البطل الذي أحبط تضخم العملية الارهابية واسمه عقيل وقد غزا مواقع التواصل الاجتماعي لم يكن إلا كلبا اوفى من الإنسان.
"كوابيس مرحة" تغرس مخالبها الموجعة، وهي على غرار الأحلام تركز على الصورة الظاهرة وتركن الصور الخفية. فالقارئ لا يشعر بما يستثير خوفه وما يثير غرابته فحسب بل ما يبعث على تشنيجه، كما حصل في قصة "النحل" التي ترصد الصرع الطفولي جراء طنين النحل ولسع النحل لجسد رجل حمل للمستشفى وتلقى الطفل العقاب الجسدي جراء انشغاله بالتفرس في ذلك المشهد وتأخره عن الدرس، فقد اضطر للوقوف على رجل واحدة لوقت طويل وتعرض لضرب المعلمة على مؤخرته كلما حاول إنزال رجله.
ولو حاولنا تصنيف هذه النصوص لصنفناها ضمن أدب ما بعد الحداثة الذي يعود الى الحلم والكابوس والنشوة، والكتابة عن الكتابة، وانتقاء مناخات القصص من أعمال أدبية سابقة واستحضارها، والتهكم، وتصوير الحالات الداخلية للوعي والتشظي.
فمنذ العتبات الأولى ل "كوابيس مرحة" يدخل بنا الكاتب إلى متاهات التخييل عبر تصديرات لجيمس جويس وجوليان جرين وخورخيلوس بورخيس، في تفصد واضح من الواقع والدخول الى ردهات الحلم/ الكابوس الذي يحمل شذرات من الواقع تكون شذرات خفية ولكن الصور الجديدة ما هي إلا خيال اللاوعي، بل هي متاهات غريبة عن الواقع، جسدها جويس في روايته "عوليس" الذي استعمل فيها تقنيات الحوار الباطني والأفكار المشوشة المرتبة على نحو شخصي. "التاريخ كابوس أريد أن أستفيق منه" جيمس جويس.
وحين يعود إلى جوليان جرين الملقب ببطل الماورائيات، نجد صدى لذلك في نصه "وزارة الشؤون الميتافيزيقية" عند التقاط معهد الرصد الجوي ترددات غريبة هي إشارات عجز العلم عن فهم مصدرها فخصصت لها وزارة تعنى بالغيبيات، في تهكم واضح من قدرة العقل على استيعاب حالات عديدة. أو تلك الحقيقة العميقة التي تناولها جرين في أعماله التي تعيش داخل شخصياته سواء كانت مؤمنة أم ملحدة، حقيقة لا تفسرها النظريات العلمية.
"الانسانية مثل رجل نائم يرى كابوسا. وهذا الكابوس اسمه التاريخ".
كما يدرج تصديرا لخورخيلوس بورخيس صاحب القصص ذات المواضيع الوهمية التي تفترض بعض الوقائع على نحو غير واقعي وغير عادي لتتوه بالإنسان في متاهة اخرى بقوله "كابوسي المفضل هو المتاهة".
هذا لا يعني ان الكاتب لا يعود إلى الماضي أو إلى التاريخ ولكن ما يعنيه هو الملغز، العجيب والغريب في فعل الكتابة نفسها عندما تتمرد الشخصيات على الكاتب نفسه فهو يحاول أن يرسمها بطريقة معينة ولكن اللاوعي يعيد تشكيلها، شخصيات هاربة من سجون الروايات تشبه إلى حد كبير شخصيات لويجي براندلو "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" التي اقتحمت المسرح وتسببت في إيقاف بروفات المسرحية، في نص "شخصيات متمردة".
ولئن كانت نصوص "كوابيس قصيرة جدا" بمثابة مشاهد مقطعة مستقلة، فهناك نصوص طويلة يميل فيها إلى التقطيع السردي وترقيم المشاهد وإضافة مشاهد جديدة للشخصيات الأسطورية والأدبية مثل نص "أسطورة لوقيوس"، أو ظهور ادغار الان بو في الحلم لابسا نظارة شمسية والتعالق النصي مع نصوص سابقة فلأن القصة لا تكتب من ذاكرة عذراء وإنما تستدمج نصوصا سابقة تتشظى مشاهدها وحالاتها في ثنايا القصة.
"كوابيس مرحة" في ظاهرها قصص بسيطة ساخرة وهي على غرار رواية "فرانكشتاين" لماري شيلي توقظ ذلك المتوحش في الإنسان من لاوعيه، معبرة عن الواقع السريري للإنسان بعقده ورموزه وآثار الصدمات عليه.
عندما يعنون وليد سليمان نصوص مجموعته القصصية الجديدة ب "كوابيس مرحة"، فنحن نستشف منذ البداية بأنه سيرسم ملامح شخصيات هذه النصوص وأحداثها عبر السخرية السوداء.
والسخرية فن قديم وجد مع الرومان مثل هوراس وجوفينال، وملهاة ارسطو فانيس الساخرة من المجتمع الاغريقي في القرن الخامس، إلا أن السخرية هنا لا تتجه إلى الواقع مباشرة بل من خلال رموزه وخطوطه السريالية الغامضة التي تظهر على شكل أحلام مزعجة.
والكوابيس هي أحلام لا تنسى، أحلام الاختناق والتوتر في حالاته القصوى، بل هي قصص اللاوعي التي يتحول فيها النائم إلى مخرج ومصور وكاتب سيناريو وهو يمارس تكنيك التقطيع لأن القصص تبنى عبر مجموعة من المقاطع المتداخلة، تتداخل فيها الأزمنة والأمكنة، وقص الكوابيس هو نتاج صراع باطني وتصوير لما يعيشه الإنسان من قلق وجودي ونفسي.
والحقيقة أن القارئ - حتى وإن لم يكن متسلحا بالنظريات والمراجع التي تؤهله لفك طلاسم هذه الكوابيس - فهو يدرك أن الأزمات النفسية والاجتماعية والسياسية وما تتركه من شروخ وندبات ستكون من المواد التي تتعقب صور الواقع في الذاكرة القريبة والبعيدة أو الآن والهنا للمبدع، فقد أسهمت الحرب العالمية الثانية في ظهور أدب العبث مع صامويل بيكيت خاصة، والواقعية السحرية في أميركا اللاتينية.
وكتب تيم أوبراين الروائي الأميركي عن آثار الحرب على نفسيات الجنود الأميركيين في الفيتنام في روايته" الاشياء المحمولة"، وكتبت غادة السمان روايتها "كوابيس بيروت" أثناء الحرب اللبنانية في سبعينيات القرن الماضي، وكتب كافن باوروز عن كوابيس حرب العراق في روايته "طيور صفر" ترجمة أحمد فاضل، وقد كان جنديا ضمن سلاح المدفعية في بغداد، كما كتب الروائي المصري الشاب محمد ربيع رواية "عطارد" ليتحدث عن الكوابيس التي عرفها المجتمع المصري بعد الثورة في فترة مغموسة بالدم والقتل.
وليد سليمان القاص والمترجم التونسي الذي كتب "كوابيس مرحة" بعد سنوات من الثورة عرف فيها المجتمع التونسي حالات من العنف والتطرف فقد كان يغرف من نفس الإناء. ذلك أن المجتمع الذي لم يكن يعي أشكال العنف وظواهره وإسالة الدماء بطريقة فجة، فقد عاش فترات من الرعب الحقيقية وهو يفيق من صدمة تلو صدمة ليضعنا أمام سؤال الهسترة والهلوسة والثمالة وغياب الوعي. اذ لا يمكن تجاهل هذه الحالات التي تضغط على اللاوعي ليعيد تصويرها.
وليد سليمان وهو يحمل بين طياته هذا الواقع، يكتب عن آثاره النفسية على شخصياته القصصية، وكأنها غائبة تماما عن وجودها الحسي فتبدو في حالة إجهاد تليها حالة نشوة، بل هو يعود بنا إلى أفكار نيتشه في نقده للعقلانية واعتباره أن الثمالة هي التي تعود بنا إلى البدايات وإلى جوهر الطبيعة فتتغير طبيعة الأمور والأشياء تماما، فهو لا يحدثنا عن قصص من عالم الوعي بل من عالم اللاوعي، فيصور شخصياته في حالة ثمالة. فتضعنا القصة الأولى "المكالمة" مع بول اوستر، وتصدير لبول اوستر "من تكون؟ وإن كنت تعرف، فلماذا تكذب؟".
بعد الحديث عن إجهاد الراوي وشربه للويسكي وقراءة رواية بول أوستر، غالبه النعاس، فوجد نفسه يتحاور مع كاتب "ثلاثية نيويورك"، الذي اتهمه بسرقة رواية "اختراع العزلة"، ليعبر عن حالة من الهوس بهذا الكاتب إلى الدرجة التي جعلته يعتقد أن صوته يصله عبر الهاتف، والهوس هو ارتداد الصوت لما قاله بول اوستر عن العزلة في "بلاد الأشياء الاخيرة" وهو "من المستحيل أن يتخلص الإنسان من تأثير الأشياء عليه سيصبح وجوده المعزول مستحيلا، ولكن سيكتب القصص المركونة في أدراج ذاكرته؟ الأشياء عندما تتكسر وتفقد وظيفتها تتحول إلى شيء آخر، علينا أن نجد الكلمات التي تعبر عنا بصورة حقيقية."
وتكمن السخرية هنا في أنه لا يعيش في عالم الأوهام بل هو هوس إبداعي فني للتخفيف حتى وإن ارتبط ذلك بالإدمان، هو "وجود مشكلات يهرب منها الفرد خارج نفسه لينسى ويبعد عن القلق".
كذلك الأمر بالنسبة الى قصة "777" قصة مشفرة بالأرقام اذ يلتقي الراوي بسيدة في حانة نزل ببلاد أجنبية أضاعت محفظتها ثم يجد نفسه يفتش عنها فيشاركها السهر والسكر حتى الثمالة وحين ينهض لا يجدها. ولكنه يجد غرفته مرتبة، وكان عليه مغادرة النزل نحو المطار مسترجعا تفاصيل حكاية تبدو غريبة عاشها حين كان ثملا إلا أنه وهو يروي قصة غرفتها الغارقة في فوضى عارمة، كان يشير من خلال المجلات المفتوحة والممزقة، الملابس الداخلية الملقاة هنا وهناك وقد كان يشرب معها الكونياك والويسكي، السكر والغياب عن الوعي فهو يسترجع صور اللاوعي متشظية.
وقد عاد وليد سليمان في "كوابيس مرحة" إلى رموز أدبية كتبت عن الرعب وعن الكوابيس، فبنى علاقة هوس بها، وكأنها تتحدث عن واقعه بالنيابة عنه.
وكأنه يقول لها بأنه إن تجاسر عن التطرق إلى هذه المواضيع فقد انتحل صفتها وسرق قصصها، فهذا الواقع الكابوسي قد كتبوا عنه، بل هم من تلبسوا به وتصدوا له في حالات الحلم. فإلى جانب بول اوستر تراوده صورة ادغار الان بو في قصة "كوابيس مرحة" التي بدت كمشاهد سينمائية بالأبيض والأسود، غير مرتبة ومشوهة وغير مكتملة، يراوده كابوس الرجل المزعج، الذي يضع على عينيه نظارات شمسية حديثة، شخصية كابوسية عرضها على رسام قام برسمه بعد تعديل وبعد وصف دقيق، ثم حملها إلى أستوديو تصوير لتكبيرها ووضعها في إطار، إلا أن صاحب استوديو التصوير يعلمه بأنها صورة أديب الرعب الاميركي ادغار الان بو الشخصية الكابوسية التي عاشت في القرن التاسع عشر، الذي كتب عن شخصيات قصصه المرعبة والأجواء المحيطة بها في واقع مظلم خانق كئيب، يدمر الأعصاب، ولكنه توخى لبناء عوالمه القصصية كما ذكر بودلير الذي ترجم له "طرقاً وأشكالاً مجهولة يدهش بها الخيال".
في نص "في جرائم فرانز كافكا" الذي عرف "رائد الكتابة الكابوسية"، عالج ظاهرة المسخ في كلام العجائز أو تحديدا في الخرافات والتمثلات الشعبية، والذي كان هاجسا للتعبير عن الاغتراب والجانب المظلم في الشخصية للتعبير عن اجواء الكآبة، وخاصة في روايته "المسخ". وهنا نتساءل ماذا سيضيف القاص ان اكتفى باستنساخ الرموز التخيلية القابعة في ذاكرته؟
إلا أنه يخرج بنا إلى نصوص فيها الكثير من السخرية من الموت الذي يتربص بالإنسان في قصة "سيلفي مع الارهابي"، فالرهينة شاب يستأذن ليأخذ سيلفي يخلد به لحظة الرهن بنشرها على الفايسبوك والإرهابي يستعجله لأن موته يكون بعد دقائق، وهي صورة مرعبة تعبر عن السخرية من المصير القريب، التمتع بالحياة حتى عندما يدرك أنها ستاخذ منه، كذلك الأمر في قصة "العجوز والمرأة" فيرصد الحوار القصير بين العجوز والشرطي عن هجوم ارهابي روتيني والصورة تحمل الكثير من اللامبالاة وعدم الاكتراث ولكنها صادمة.
وفي قصة "عقيل" فإن البطل الذي أحبط تضخم العملية الارهابية واسمه عقيل وقد غزا مواقع التواصل الاجتماعي لم يكن إلا كلبا اوفى من الإنسان.
"كوابيس مرحة" تغرس مخالبها الموجعة، وهي على غرار الأحلام تركز على الصورة الظاهرة وتركن الصور الخفية. فالقارئ لا يشعر بما يستثير خوفه وما يثير غرابته فحسب بل ما يبعث على تشنيجه، كما حصل في قصة "النحل" التي ترصد الصرع الطفولي جراء طنين النحل ولسع النحل لجسد رجل حمل للمستشفى وتلقى الطفل العقاب الجسدي جراء انشغاله بالتفرس في ذلك المشهد وتأخره عن الدرس، فقد اضطر للوقوف على رجل واحدة لوقت طويل وتعرض لضرب المعلمة على مؤخرته كلما حاول إنزال رجله.
ولو حاولنا تصنيف هذه النصوص لصنفناها ضمن أدب ما بعد الحداثة الذي يعود الى الحلم والكابوس والنشوة، والكتابة عن الكتابة، وانتقاء مناخات القصص من أعمال أدبية سابقة واستحضارها، والتهكم، وتصوير الحالات الداخلية للوعي والتشظي.
فمنذ العتبات الأولى ل "كوابيس مرحة" يدخل بنا الكاتب إلى متاهات التخييل عبر تصديرات لجيمس جويس وجوليان جرين وخورخيلوس بورخيس، في تفصد واضح من الواقع والدخول الى ردهات الحلم/ الكابوس الذي يحمل شذرات من الواقع تكون شذرات خفية ولكن الصور الجديدة ما هي إلا خيال اللاوعي، بل هي متاهات غريبة عن الواقع، جسدها جويس في روايته "عوليس" الذي استعمل فيها تقنيات الحوار الباطني والأفكار المشوشة المرتبة على نحو شخصي. "التاريخ كابوس أريد أن أستفيق منه" جيمس جويس.
وحين يعود إلى جوليان جرين الملقب ببطل الماورائيات، نجد صدى لذلك في نصه "وزارة الشؤون الميتافيزيقية" عند التقاط معهد الرصد الجوي ترددات غريبة هي إشارات عجز العلم عن فهم مصدرها فخصصت لها وزارة تعنى بالغيبيات، في تهكم واضح من قدرة العقل على استيعاب حالات عديدة. أو تلك الحقيقة العميقة التي تناولها جرين في أعماله التي تعيش داخل شخصياته سواء كانت مؤمنة أم ملحدة، حقيقة لا تفسرها النظريات العلمية.
"الانسانية مثل رجل نائم يرى كابوسا. وهذا الكابوس اسمه التاريخ".
كما يدرج تصديرا لخورخيلوس بورخيس صاحب القصص ذات المواضيع الوهمية التي تفترض بعض الوقائع على نحو غير واقعي وغير عادي لتتوه بالإنسان في متاهة اخرى بقوله "كابوسي المفضل هو المتاهة".
هذا لا يعني ان الكاتب لا يعود إلى الماضي أو إلى التاريخ ولكن ما يعنيه هو الملغز، العجيب والغريب في فعل الكتابة نفسها عندما تتمرد الشخصيات على الكاتب نفسه فهو يحاول أن يرسمها بطريقة معينة ولكن اللاوعي يعيد تشكيلها، شخصيات هاربة من سجون الروايات تشبه إلى حد كبير شخصيات لويجي براندلو "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" التي اقتحمت المسرح وتسببت في إيقاف بروفات المسرحية، في نص "شخصيات متمردة".
ولئن كانت نصوص "كوابيس قصيرة جدا" بمثابة مشاهد مقطعة مستقلة، فهناك نصوص طويلة يميل فيها إلى التقطيع السردي وترقيم المشاهد وإضافة مشاهد جديدة للشخصيات الأسطورية والأدبية مثل نص "أسطورة لوقيوس"، أو ظهور ادغار الان بو في الحلم لابسا نظارة شمسية والتعالق النصي مع نصوص سابقة فلأن القصة لا تكتب من ذاكرة عذراء وإنما تستدمج نصوصا سابقة تتشظى مشاهدها وحالاتها في ثنايا القصة.
"كوابيس مرحة" في ظاهرها قصص بسيطة ساخرة وهي على غرار رواية "فرانكشتاين" لماري شيلي توقظ ذلك المتوحش في الإنسان من لاوعيه، معبرة عن الواقع السريري للإنسان بعقده ورموزه وآثار الصدمات عليه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.