قبل بدء التصويت في انتخابات مجلس النواب 2025.. تعرف على لجنتك الانتخابية بالخطوات    بعد انخفاض عيار 21.. سعر الذهب اليوم الأحد 9-11-2025 في الصاغة (آخر تحديث)    «البيطريين» تشيد بجهود «الخدمات البيطرية» في السيطرة على العترة الجديدة من الحمى القلاعية    الإحصاء: 6.7 % ارتفاع قيمة الصادرات خلال شهر أغسطس 2025    حملة توعوية بيطرية مكثفة لدعم صغار المربين بالبحيرة    قبل صرف معاشات ديسمبر.. التأمينات الاجتماعية تتيح تعديل جهة صرف المعاش    أكبر أزمة نزوح فى العالم.. الأمم المتحدة:نزوح أكثر من 12 مليون شخص بالسودان    وزارة التموين تطلق قافلة مساعدات جديدة لقطاع غزة    إنتر ميلان يستضيف لاتسيو وعينه على صدارة الدوري الإيطالي    «السعيد يلعب على حساب أي حد».. شوبير يكشف مفاتيح الزمالك للفوز على الأهلي    «أمن المنافذ»: ضبط 3354 مخالفة مرورية وتنفيذ 347 حكمًا قضائيًا خلال 24 ساعة    حالة الطقس.. الأرصاد تكشف أعلى درجات حرارة متوقعة بالقاهرة والمحافظات    موعد امتحانات منتصف العام الدراسى بالجامعات والمعاهد العليا    الداخلية تضبط 337 قضية مخدرات و150 قطعة سلاح خلال 24 ساعة    النائب على عبد الونيس: المتحف المصرى أيقونة حضارية تؤكد عبقرية المصريين    «الجراند بول» في قصر عابدين.. كل ما تريد معرفة عن حفل الأمراء والنبلاء (التذاكر تبدأ ب1500 يورو)    العالم بطريقته    مصطفى نصر.. كيف روى حكايات الإسكندرية بين التاريخ والتسجيل؟    طريقة عمل سلطة البطاطس بالزبادي.. لمسة من البساطة والابتكار    «التضامن» تقر توفيق أوضاع جمعيتين في الجيزة وكفر الشيخ    الخارجية الروسية: موسكو لن تنجر وراء استفزازات بروكسل في قضية التأشيرات    تقديرًا لأمانته.. مدرسة بقنا تكرم تلميذًا أعاد «انسيال ذهب» لمعلمته    وزير الداخلية يأذن ل 22 مواطنا بالحصول على الجنسيات الأجنبية    مواعيد مباريات اليوم.. قمة مان سيتي مع ليفربول ورايو فاليكانو أمام الريال ونهائي السوبر المصري بين الأهلي والزمالك    عمرو الحديدي: الأهلي يفتقد إمام عاشور قبل نهائي السوبر    باستثمارات قطرية وإماراتية: الساحل الشمالى الغربى «ريفيرا مصر»    أسعار الخضار والفاكهة بأسواق كفر الشيخ اليوم    انتخابات مجلس النواب وحلم الديمقراطية!    محافظ بني سويف: حياد تام وتيسيرات شاملة في انتخابات مجلس النواب 2025    اليوم.. نظر محاكمة 213 متهما بخلية النزهة    انقلاب فى نيويورك    في زيارة تاريخية.. الشرع أول رئيس سوري يزور البيت الأبيض منذ 80 عامًا    الأمم المتحدة: أزمة نزوح غير مسبوقة في السودان.. وتصاعد العنف في الفاشر    غارة من مسيرة إسرائيلية على محيط بلدة الصوانة جنوبي لبنان    لأول مرة فى تاريخ ألمانيا.. تامر حسنى يشعل الاجواء فى ستاد يايلا أرينا الألمانى بحضور 30 ألف شخص    «المتحف المصرى الكبير» أقوى من «الجاهلية»    القاهرة السينمائى يحلق بكبرياء على جناحى اتفاق السلام والمتحف الكبير    شعلة حب لا تنطفئ.. ما هي الأبراج المتوافقة في الزواج والعلاقات العاطفية؟    تعرف على مواقيت الصلاة بمطروح اليوم وأذكار الصباح    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم 9-11-2025 في محافظة قنا    اختطاف ثلاثة مصريين على يد تنظيم القاعدة في مالي    عميد المعهد القومي للأورام: قدمنا خدمة إضافية لنحو 32 ألف مريض 2024    اختتام فعاليات مؤتمر المعهد القومي للأورام "مستقبل بلا سرطان"    «المعاهد التعليمية» تدخل أحدث طرق علاج السكتة الدماغية بمستشفياتها    فيديو.. الصحة: آليات التحقيق في شكاوى الأخطاء الطبية تطمئن الطبيب أو المريض    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الأحد 9 نوفمبر    أحمد جعفر: تريزيجيه اكتر لاعب سيقلق دفاع الزمالك وليس زيزو وبن شرقي    التقارير الفنية أمام النيابة.. تطورات في قضية أطفال اللبيني    حبس وغرامة.. نقيب الأطباء يكشف عقوبة التجاوز والتعدي على الطبيب في القانون الجديد (فيديو)    «معي في قائمة المنتخب».. حلمي طولان يفاجئ لاعب الأهلي قبل ساعات من السوبر    إخلاء سبيل ضابط شرطة كويتي وآخر متهمين بالتحرش بفتاة على كورنيش النيل    رئيس «النيابة الإدارية» يشارك في مؤتمر الاتحاد العربي للقضاء الإداري    كورنيليا ريختر أول أسقفة في تاريخ الكنيسة الإنجيلية بالنمسا    أرتيتا بعد التعادل مع سندرلاند: لا أريد الشكوى من أي شيء    «عدد كتب الغيب 3».. خالد الجندي: الله قد يغير في اللوح المحفوظ    أمين الفتوى: صلاة المرأة بملابس البيت صحيحة بشرط    بث مباشر مباراة نيوم والنصر اليوم في دوري روشن السعودي 2025-2026.. القنوات الناقلة وطرق مشاهدة اللقاء عبر الإنترنت    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 8-11-2025 في محافظة الأقصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كوابيس مرحة .. الواقع السريري للإنسان بعقده ورموزه
نشر في صوت البلد يوم 11 - 12 - 2016

عندما يعنون وليد سليمان نصوص مجموعته القصصية الجديدة ب "كوابيس مرحة"، فنحن نستشف منذ البداية بأنه سيرسم ملامح شخصيات هذه النصوص وأحداثها عبر السخرية السوداء.
والسخرية فن قديم وجد مع الرومان مثل هوراس وجوفينال، وملهاة ارسطو فانيس الساخرة من المجتمع الاغريقي في القرن الخامس، إلا أن السخرية هنا لا تتجه إلى الواقع مباشرة بل من خلال رموزه وخطوطه السريالية الغامضة التي تظهر على شكل أحلام مزعجة.
والكوابيس هي أحلام لا تنسى، أحلام الاختناق والتوتر في حالاته القصوى، بل هي قصص اللاوعي التي يتحول فيها النائم إلى مخرج ومصور وكاتب سيناريو وهو يمارس تكنيك التقطيع لأن القصص تبنى عبر مجموعة من المقاطع المتداخلة، تتداخل فيها الأزمنة والأمكنة، وقص الكوابيس هو نتاج صراع باطني وتصوير لما يعيشه الإنسان من قلق وجودي ونفسي.
والحقيقة أن القارئ - حتى وإن لم يكن متسلحا بالنظريات والمراجع التي تؤهله لفك طلاسم هذه الكوابيس - فهو يدرك أن الأزمات النفسية والاجتماعية والسياسية وما تتركه من شروخ وندبات ستكون من المواد التي تتعقب صور الواقع في الذاكرة القريبة والبعيدة أو الآن والهنا للمبدع، فقد أسهمت الحرب العالمية الثانية في ظهور أدب العبث مع صامويل بيكيت خاصة، والواقعية السحرية في أميركا اللاتينية.
وكتب تيم أوبراين الروائي الأميركي عن آثار الحرب على نفسيات الجنود الأميركيين في الفيتنام في روايته" الاشياء المحمولة"، وكتبت غادة السمان روايتها "كوابيس بيروت" أثناء الحرب اللبنانية في سبعينيات القرن الماضي، وكتب كافن باوروز عن كوابيس حرب العراق في روايته "طيور صفر" ترجمة أحمد فاضل، وقد كان جنديا ضمن سلاح المدفعية في بغداد، كما كتب الروائي المصري الشاب محمد ربيع رواية "عطارد" ليتحدث عن الكوابيس التي عرفها المجتمع المصري بعد الثورة في فترة مغموسة بالدم والقتل.
وليد سليمان القاص والمترجم التونسي الذي كتب "كوابيس مرحة" بعد سنوات من الثورة عرف فيها المجتمع التونسي حالات من العنف والتطرف فقد كان يغرف من نفس الإناء. ذلك أن المجتمع الذي لم يكن يعي أشكال العنف وظواهره وإسالة الدماء بطريقة فجة، فقد عاش فترات من الرعب الحقيقية وهو يفيق من صدمة تلو صدمة ليضعنا أمام سؤال الهسترة والهلوسة والثمالة وغياب الوعي. اذ لا يمكن تجاهل هذه الحالات التي تضغط على اللاوعي ليعيد تصويرها.
وليد سليمان وهو يحمل بين طياته هذا الواقع، يكتب عن آثاره النفسية على شخصياته القصصية، وكأنها غائبة تماما عن وجودها الحسي فتبدو في حالة إجهاد تليها حالة نشوة، بل هو يعود بنا إلى أفكار نيتشه في نقده للعقلانية واعتباره أن الثمالة هي التي تعود بنا إلى البدايات وإلى جوهر الطبيعة فتتغير طبيعة الأمور والأشياء تماما، فهو لا يحدثنا عن قصص من عالم الوعي بل من عالم اللاوعي، فيصور شخصياته في حالة ثمالة. فتضعنا القصة الأولى "المكالمة" مع بول اوستر، وتصدير لبول اوستر "من تكون؟ وإن كنت تعرف، فلماذا تكذب؟".
بعد الحديث عن إجهاد الراوي وشربه للويسكي وقراءة رواية بول أوستر، غالبه النعاس، فوجد نفسه يتحاور مع كاتب "ثلاثية نيويورك"، الذي اتهمه بسرقة رواية "اختراع العزلة"، ليعبر عن حالة من الهوس بهذا الكاتب إلى الدرجة التي جعلته يعتقد أن صوته يصله عبر الهاتف، والهوس هو ارتداد الصوت لما قاله بول اوستر عن العزلة في "بلاد الأشياء الاخيرة" وهو "من المستحيل أن يتخلص الإنسان من تأثير الأشياء عليه سيصبح وجوده المعزول مستحيلا، ولكن سيكتب القصص المركونة في أدراج ذاكرته؟ الأشياء عندما تتكسر وتفقد وظيفتها تتحول إلى شيء آخر، علينا أن نجد الكلمات التي تعبر عنا بصورة حقيقية."
وتكمن السخرية هنا في أنه لا يعيش في عالم الأوهام بل هو هوس إبداعي فني للتخفيف حتى وإن ارتبط ذلك بالإدمان، هو "وجود مشكلات يهرب منها الفرد خارج نفسه لينسى ويبعد عن القلق".
كذلك الأمر بالنسبة الى قصة "777" قصة مشفرة بالأرقام اذ يلتقي الراوي بسيدة في حانة نزل ببلاد أجنبية أضاعت محفظتها ثم يجد نفسه يفتش عنها فيشاركها السهر والسكر حتى الثمالة وحين ينهض لا يجدها. ولكنه يجد غرفته مرتبة، وكان عليه مغادرة النزل نحو المطار مسترجعا تفاصيل حكاية تبدو غريبة عاشها حين كان ثملا إلا أنه وهو يروي قصة غرفتها الغارقة في فوضى عارمة، كان يشير من خلال المجلات المفتوحة والممزقة، الملابس الداخلية الملقاة هنا وهناك وقد كان يشرب معها الكونياك والويسكي، السكر والغياب عن الوعي فهو يسترجع صور اللاوعي متشظية.
وقد عاد وليد سليمان في "كوابيس مرحة" إلى رموز أدبية كتبت عن الرعب وعن الكوابيس، فبنى علاقة هوس بها، وكأنها تتحدث عن واقعه بالنيابة عنه.
وكأنه يقول لها بأنه إن تجاسر عن التطرق إلى هذه المواضيع فقد انتحل صفتها وسرق قصصها، فهذا الواقع الكابوسي قد كتبوا عنه، بل هم من تلبسوا به وتصدوا له في حالات الحلم. فإلى جانب بول اوستر تراوده صورة ادغار الان بو في قصة "كوابيس مرحة" التي بدت كمشاهد سينمائية بالأبيض والأسود، غير مرتبة ومشوهة وغير مكتملة، يراوده كابوس الرجل المزعج، الذي يضع على عينيه نظارات شمسية حديثة، شخصية كابوسية عرضها على رسام قام برسمه بعد تعديل وبعد وصف دقيق، ثم حملها إلى أستوديو تصوير لتكبيرها ووضعها في إطار، إلا أن صاحب استوديو التصوير يعلمه بأنها صورة أديب الرعب الاميركي ادغار الان بو الشخصية الكابوسية التي عاشت في القرن التاسع عشر، الذي كتب عن شخصيات قصصه المرعبة والأجواء المحيطة بها في واقع مظلم خانق كئيب، يدمر الأعصاب، ولكنه توخى لبناء عوالمه القصصية كما ذكر بودلير الذي ترجم له "طرقاً وأشكالاً مجهولة يدهش بها الخيال".
في نص "في جرائم فرانز كافكا" الذي عرف "رائد الكتابة الكابوسية"، عالج ظاهرة المسخ في كلام العجائز أو تحديدا في الخرافات والتمثلات الشعبية، والذي كان هاجسا للتعبير عن الاغتراب والجانب المظلم في الشخصية للتعبير عن اجواء الكآبة، وخاصة في روايته "المسخ". وهنا نتساءل ماذا سيضيف القاص ان اكتفى باستنساخ الرموز التخيلية القابعة في ذاكرته؟
إلا أنه يخرج بنا إلى نصوص فيها الكثير من السخرية من الموت الذي يتربص بالإنسان في قصة "سيلفي مع الارهابي"، فالرهينة شاب يستأذن ليأخذ سيلفي يخلد به لحظة الرهن بنشرها على الفايسبوك والإرهابي يستعجله لأن موته يكون بعد دقائق، وهي صورة مرعبة تعبر عن السخرية من المصير القريب، التمتع بالحياة حتى عندما يدرك أنها ستاخذ منه، كذلك الأمر في قصة "العجوز والمرأة" فيرصد الحوار القصير بين العجوز والشرطي عن هجوم ارهابي روتيني والصورة تحمل الكثير من اللامبالاة وعدم الاكتراث ولكنها صادمة.
وفي قصة "عقيل" فإن البطل الذي أحبط تضخم العملية الارهابية واسمه عقيل وقد غزا مواقع التواصل الاجتماعي لم يكن إلا كلبا اوفى من الإنسان.
"كوابيس مرحة" تغرس مخالبها الموجعة، وهي على غرار الأحلام تركز على الصورة الظاهرة وتركن الصور الخفية. فالقارئ لا يشعر بما يستثير خوفه وما يثير غرابته فحسب بل ما يبعث على تشنيجه، كما حصل في قصة "النحل" التي ترصد الصرع الطفولي جراء طنين النحل ولسع النحل لجسد رجل حمل للمستشفى وتلقى الطفل العقاب الجسدي جراء انشغاله بالتفرس في ذلك المشهد وتأخره عن الدرس، فقد اضطر للوقوف على رجل واحدة لوقت طويل وتعرض لضرب المعلمة على مؤخرته كلما حاول إنزال رجله.
ولو حاولنا تصنيف هذه النصوص لصنفناها ضمن أدب ما بعد الحداثة الذي يعود الى الحلم والكابوس والنشوة، والكتابة عن الكتابة، وانتقاء مناخات القصص من أعمال أدبية سابقة واستحضارها، والتهكم، وتصوير الحالات الداخلية للوعي والتشظي.
فمنذ العتبات الأولى ل "كوابيس مرحة" يدخل بنا الكاتب إلى متاهات التخييل عبر تصديرات لجيمس جويس وجوليان جرين وخورخيلوس بورخيس، في تفصد واضح من الواقع والدخول الى ردهات الحلم/ الكابوس الذي يحمل شذرات من الواقع تكون شذرات خفية ولكن الصور الجديدة ما هي إلا خيال اللاوعي، بل هي متاهات غريبة عن الواقع، جسدها جويس في روايته "عوليس" الذي استعمل فيها تقنيات الحوار الباطني والأفكار المشوشة المرتبة على نحو شخصي. "التاريخ كابوس أريد أن أستفيق منه" جيمس جويس.
وحين يعود إلى جوليان جرين الملقب ببطل الماورائيات، نجد صدى لذلك في نصه "وزارة الشؤون الميتافيزيقية" عند التقاط معهد الرصد الجوي ترددات غريبة هي إشارات عجز العلم عن فهم مصدرها فخصصت لها وزارة تعنى بالغيبيات، في تهكم واضح من قدرة العقل على استيعاب حالات عديدة. أو تلك الحقيقة العميقة التي تناولها جرين في أعماله التي تعيش داخل شخصياته سواء كانت مؤمنة أم ملحدة، حقيقة لا تفسرها النظريات العلمية.
"الانسانية مثل رجل نائم يرى كابوسا. وهذا الكابوس اسمه التاريخ".
كما يدرج تصديرا لخورخيلوس بورخيس صاحب القصص ذات المواضيع الوهمية التي تفترض بعض الوقائع على نحو غير واقعي وغير عادي لتتوه بالإنسان في متاهة اخرى بقوله "كابوسي المفضل هو المتاهة".
هذا لا يعني ان الكاتب لا يعود إلى الماضي أو إلى التاريخ ولكن ما يعنيه هو الملغز، العجيب والغريب في فعل الكتابة نفسها عندما تتمرد الشخصيات على الكاتب نفسه فهو يحاول أن يرسمها بطريقة معينة ولكن اللاوعي يعيد تشكيلها، شخصيات هاربة من سجون الروايات تشبه إلى حد كبير شخصيات لويجي براندلو "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" التي اقتحمت المسرح وتسببت في إيقاف بروفات المسرحية، في نص "شخصيات متمردة".
ولئن كانت نصوص "كوابيس قصيرة جدا" بمثابة مشاهد مقطعة مستقلة، فهناك نصوص طويلة يميل فيها إلى التقطيع السردي وترقيم المشاهد وإضافة مشاهد جديدة للشخصيات الأسطورية والأدبية مثل نص "أسطورة لوقيوس"، أو ظهور ادغار الان بو في الحلم لابسا نظارة شمسية والتعالق النصي مع نصوص سابقة فلأن القصة لا تكتب من ذاكرة عذراء وإنما تستدمج نصوصا سابقة تتشظى مشاهدها وحالاتها في ثنايا القصة.
"كوابيس مرحة" في ظاهرها قصص بسيطة ساخرة وهي على غرار رواية "فرانكشتاين" لماري شيلي توقظ ذلك المتوحش في الإنسان من لاوعيه، معبرة عن الواقع السريري للإنسان بعقده ورموزه وآثار الصدمات عليه.
عندما يعنون وليد سليمان نصوص مجموعته القصصية الجديدة ب "كوابيس مرحة"، فنحن نستشف منذ البداية بأنه سيرسم ملامح شخصيات هذه النصوص وأحداثها عبر السخرية السوداء.
والسخرية فن قديم وجد مع الرومان مثل هوراس وجوفينال، وملهاة ارسطو فانيس الساخرة من المجتمع الاغريقي في القرن الخامس، إلا أن السخرية هنا لا تتجه إلى الواقع مباشرة بل من خلال رموزه وخطوطه السريالية الغامضة التي تظهر على شكل أحلام مزعجة.
والكوابيس هي أحلام لا تنسى، أحلام الاختناق والتوتر في حالاته القصوى، بل هي قصص اللاوعي التي يتحول فيها النائم إلى مخرج ومصور وكاتب سيناريو وهو يمارس تكنيك التقطيع لأن القصص تبنى عبر مجموعة من المقاطع المتداخلة، تتداخل فيها الأزمنة والأمكنة، وقص الكوابيس هو نتاج صراع باطني وتصوير لما يعيشه الإنسان من قلق وجودي ونفسي.
والحقيقة أن القارئ - حتى وإن لم يكن متسلحا بالنظريات والمراجع التي تؤهله لفك طلاسم هذه الكوابيس - فهو يدرك أن الأزمات النفسية والاجتماعية والسياسية وما تتركه من شروخ وندبات ستكون من المواد التي تتعقب صور الواقع في الذاكرة القريبة والبعيدة أو الآن والهنا للمبدع، فقد أسهمت الحرب العالمية الثانية في ظهور أدب العبث مع صامويل بيكيت خاصة، والواقعية السحرية في أميركا اللاتينية.
وكتب تيم أوبراين الروائي الأميركي عن آثار الحرب على نفسيات الجنود الأميركيين في الفيتنام في روايته" الاشياء المحمولة"، وكتبت غادة السمان روايتها "كوابيس بيروت" أثناء الحرب اللبنانية في سبعينيات القرن الماضي، وكتب كافن باوروز عن كوابيس حرب العراق في روايته "طيور صفر" ترجمة أحمد فاضل، وقد كان جنديا ضمن سلاح المدفعية في بغداد، كما كتب الروائي المصري الشاب محمد ربيع رواية "عطارد" ليتحدث عن الكوابيس التي عرفها المجتمع المصري بعد الثورة في فترة مغموسة بالدم والقتل.
وليد سليمان القاص والمترجم التونسي الذي كتب "كوابيس مرحة" بعد سنوات من الثورة عرف فيها المجتمع التونسي حالات من العنف والتطرف فقد كان يغرف من نفس الإناء. ذلك أن المجتمع الذي لم يكن يعي أشكال العنف وظواهره وإسالة الدماء بطريقة فجة، فقد عاش فترات من الرعب الحقيقية وهو يفيق من صدمة تلو صدمة ليضعنا أمام سؤال الهسترة والهلوسة والثمالة وغياب الوعي. اذ لا يمكن تجاهل هذه الحالات التي تضغط على اللاوعي ليعيد تصويرها.
وليد سليمان وهو يحمل بين طياته هذا الواقع، يكتب عن آثاره النفسية على شخصياته القصصية، وكأنها غائبة تماما عن وجودها الحسي فتبدو في حالة إجهاد تليها حالة نشوة، بل هو يعود بنا إلى أفكار نيتشه في نقده للعقلانية واعتباره أن الثمالة هي التي تعود بنا إلى البدايات وإلى جوهر الطبيعة فتتغير طبيعة الأمور والأشياء تماما، فهو لا يحدثنا عن قصص من عالم الوعي بل من عالم اللاوعي، فيصور شخصياته في حالة ثمالة. فتضعنا القصة الأولى "المكالمة" مع بول اوستر، وتصدير لبول اوستر "من تكون؟ وإن كنت تعرف، فلماذا تكذب؟".
بعد الحديث عن إجهاد الراوي وشربه للويسكي وقراءة رواية بول أوستر، غالبه النعاس، فوجد نفسه يتحاور مع كاتب "ثلاثية نيويورك"، الذي اتهمه بسرقة رواية "اختراع العزلة"، ليعبر عن حالة من الهوس بهذا الكاتب إلى الدرجة التي جعلته يعتقد أن صوته يصله عبر الهاتف، والهوس هو ارتداد الصوت لما قاله بول اوستر عن العزلة في "بلاد الأشياء الاخيرة" وهو "من المستحيل أن يتخلص الإنسان من تأثير الأشياء عليه سيصبح وجوده المعزول مستحيلا، ولكن سيكتب القصص المركونة في أدراج ذاكرته؟ الأشياء عندما تتكسر وتفقد وظيفتها تتحول إلى شيء آخر، علينا أن نجد الكلمات التي تعبر عنا بصورة حقيقية."
وتكمن السخرية هنا في أنه لا يعيش في عالم الأوهام بل هو هوس إبداعي فني للتخفيف حتى وإن ارتبط ذلك بالإدمان، هو "وجود مشكلات يهرب منها الفرد خارج نفسه لينسى ويبعد عن القلق".
كذلك الأمر بالنسبة الى قصة "777" قصة مشفرة بالأرقام اذ يلتقي الراوي بسيدة في حانة نزل ببلاد أجنبية أضاعت محفظتها ثم يجد نفسه يفتش عنها فيشاركها السهر والسكر حتى الثمالة وحين ينهض لا يجدها. ولكنه يجد غرفته مرتبة، وكان عليه مغادرة النزل نحو المطار مسترجعا تفاصيل حكاية تبدو غريبة عاشها حين كان ثملا إلا أنه وهو يروي قصة غرفتها الغارقة في فوضى عارمة، كان يشير من خلال المجلات المفتوحة والممزقة، الملابس الداخلية الملقاة هنا وهناك وقد كان يشرب معها الكونياك والويسكي، السكر والغياب عن الوعي فهو يسترجع صور اللاوعي متشظية.
وقد عاد وليد سليمان في "كوابيس مرحة" إلى رموز أدبية كتبت عن الرعب وعن الكوابيس، فبنى علاقة هوس بها، وكأنها تتحدث عن واقعه بالنيابة عنه.
وكأنه يقول لها بأنه إن تجاسر عن التطرق إلى هذه المواضيع فقد انتحل صفتها وسرق قصصها، فهذا الواقع الكابوسي قد كتبوا عنه، بل هم من تلبسوا به وتصدوا له في حالات الحلم. فإلى جانب بول اوستر تراوده صورة ادغار الان بو في قصة "كوابيس مرحة" التي بدت كمشاهد سينمائية بالأبيض والأسود، غير مرتبة ومشوهة وغير مكتملة، يراوده كابوس الرجل المزعج، الذي يضع على عينيه نظارات شمسية حديثة، شخصية كابوسية عرضها على رسام قام برسمه بعد تعديل وبعد وصف دقيق، ثم حملها إلى أستوديو تصوير لتكبيرها ووضعها في إطار، إلا أن صاحب استوديو التصوير يعلمه بأنها صورة أديب الرعب الاميركي ادغار الان بو الشخصية الكابوسية التي عاشت في القرن التاسع عشر، الذي كتب عن شخصيات قصصه المرعبة والأجواء المحيطة بها في واقع مظلم خانق كئيب، يدمر الأعصاب، ولكنه توخى لبناء عوالمه القصصية كما ذكر بودلير الذي ترجم له "طرقاً وأشكالاً مجهولة يدهش بها الخيال".
في نص "في جرائم فرانز كافكا" الذي عرف "رائد الكتابة الكابوسية"، عالج ظاهرة المسخ في كلام العجائز أو تحديدا في الخرافات والتمثلات الشعبية، والذي كان هاجسا للتعبير عن الاغتراب والجانب المظلم في الشخصية للتعبير عن اجواء الكآبة، وخاصة في روايته "المسخ". وهنا نتساءل ماذا سيضيف القاص ان اكتفى باستنساخ الرموز التخيلية القابعة في ذاكرته؟
إلا أنه يخرج بنا إلى نصوص فيها الكثير من السخرية من الموت الذي يتربص بالإنسان في قصة "سيلفي مع الارهابي"، فالرهينة شاب يستأذن ليأخذ سيلفي يخلد به لحظة الرهن بنشرها على الفايسبوك والإرهابي يستعجله لأن موته يكون بعد دقائق، وهي صورة مرعبة تعبر عن السخرية من المصير القريب، التمتع بالحياة حتى عندما يدرك أنها ستاخذ منه، كذلك الأمر في قصة "العجوز والمرأة" فيرصد الحوار القصير بين العجوز والشرطي عن هجوم ارهابي روتيني والصورة تحمل الكثير من اللامبالاة وعدم الاكتراث ولكنها صادمة.
وفي قصة "عقيل" فإن البطل الذي أحبط تضخم العملية الارهابية واسمه عقيل وقد غزا مواقع التواصل الاجتماعي لم يكن إلا كلبا اوفى من الإنسان.
"كوابيس مرحة" تغرس مخالبها الموجعة، وهي على غرار الأحلام تركز على الصورة الظاهرة وتركن الصور الخفية. فالقارئ لا يشعر بما يستثير خوفه وما يثير غرابته فحسب بل ما يبعث على تشنيجه، كما حصل في قصة "النحل" التي ترصد الصرع الطفولي جراء طنين النحل ولسع النحل لجسد رجل حمل للمستشفى وتلقى الطفل العقاب الجسدي جراء انشغاله بالتفرس في ذلك المشهد وتأخره عن الدرس، فقد اضطر للوقوف على رجل واحدة لوقت طويل وتعرض لضرب المعلمة على مؤخرته كلما حاول إنزال رجله.
ولو حاولنا تصنيف هذه النصوص لصنفناها ضمن أدب ما بعد الحداثة الذي يعود الى الحلم والكابوس والنشوة، والكتابة عن الكتابة، وانتقاء مناخات القصص من أعمال أدبية سابقة واستحضارها، والتهكم، وتصوير الحالات الداخلية للوعي والتشظي.
فمنذ العتبات الأولى ل "كوابيس مرحة" يدخل بنا الكاتب إلى متاهات التخييل عبر تصديرات لجيمس جويس وجوليان جرين وخورخيلوس بورخيس، في تفصد واضح من الواقع والدخول الى ردهات الحلم/ الكابوس الذي يحمل شذرات من الواقع تكون شذرات خفية ولكن الصور الجديدة ما هي إلا خيال اللاوعي، بل هي متاهات غريبة عن الواقع، جسدها جويس في روايته "عوليس" الذي استعمل فيها تقنيات الحوار الباطني والأفكار المشوشة المرتبة على نحو شخصي. "التاريخ كابوس أريد أن أستفيق منه" جيمس جويس.
وحين يعود إلى جوليان جرين الملقب ببطل الماورائيات، نجد صدى لذلك في نصه "وزارة الشؤون الميتافيزيقية" عند التقاط معهد الرصد الجوي ترددات غريبة هي إشارات عجز العلم عن فهم مصدرها فخصصت لها وزارة تعنى بالغيبيات، في تهكم واضح من قدرة العقل على استيعاب حالات عديدة. أو تلك الحقيقة العميقة التي تناولها جرين في أعماله التي تعيش داخل شخصياته سواء كانت مؤمنة أم ملحدة، حقيقة لا تفسرها النظريات العلمية.
"الانسانية مثل رجل نائم يرى كابوسا. وهذا الكابوس اسمه التاريخ".
كما يدرج تصديرا لخورخيلوس بورخيس صاحب القصص ذات المواضيع الوهمية التي تفترض بعض الوقائع على نحو غير واقعي وغير عادي لتتوه بالإنسان في متاهة اخرى بقوله "كابوسي المفضل هو المتاهة".
هذا لا يعني ان الكاتب لا يعود إلى الماضي أو إلى التاريخ ولكن ما يعنيه هو الملغز، العجيب والغريب في فعل الكتابة نفسها عندما تتمرد الشخصيات على الكاتب نفسه فهو يحاول أن يرسمها بطريقة معينة ولكن اللاوعي يعيد تشكيلها، شخصيات هاربة من سجون الروايات تشبه إلى حد كبير شخصيات لويجي براندلو "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" التي اقتحمت المسرح وتسببت في إيقاف بروفات المسرحية، في نص "شخصيات متمردة".
ولئن كانت نصوص "كوابيس قصيرة جدا" بمثابة مشاهد مقطعة مستقلة، فهناك نصوص طويلة يميل فيها إلى التقطيع السردي وترقيم المشاهد وإضافة مشاهد جديدة للشخصيات الأسطورية والأدبية مثل نص "أسطورة لوقيوس"، أو ظهور ادغار الان بو في الحلم لابسا نظارة شمسية والتعالق النصي مع نصوص سابقة فلأن القصة لا تكتب من ذاكرة عذراء وإنما تستدمج نصوصا سابقة تتشظى مشاهدها وحالاتها في ثنايا القصة.
"كوابيس مرحة" في ظاهرها قصص بسيطة ساخرة وهي على غرار رواية "فرانكشتاين" لماري شيلي توقظ ذلك المتوحش في الإنسان من لاوعيه، معبرة عن الواقع السريري للإنسان بعقده ورموزه وآثار الصدمات عليه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.