من اللافت أن العقل "نزل"، فجأة ودفعة واحدة، على زعماء العالم ومسؤوليه، الذين أفشت وثائق "ويكيليكس" أسرارهم الدفينة، فجنحوا جميعاً وبدون استثناء للتعامل بترفع و"ورصانة" مع "إدعاءات الموقع المغرض ونواياه الخبيثة". جميعهم طعنوا بصدقية ما أوردته الوثائق، وغمزوا من قناة الموقع، وشككوا بصدقيته، ونالوا من سلامة أهدافة وغاياته.. ولكن بلطف، ودون انفعال، وب"روح من المسؤولية العالية"، التي لو توافرت لهم قبل الآن لأعفوا العالم من الكثير من المآسي والمهازل التي تسببوا بها. وجميعهم، بلا استثناء، قللوا من شأن الوثائق وما تضمنته، وأبدوا قلة اكتراث بهذا "القيل والقال" الذي يمارسه الموقع.. الرئيس الفرنسي ساركوزي يصف وزير الخارجية الروسي ب"الكاذب". ووزير الخارجية سيرجي لافروف يستبعد أن يكون ذلك دقيقاً، وينزه الرئيس الفرنسي عن إتيان مثل هذه الفعلة. دول عربية تحرض أمريكا على ضرب إيران، بينما الرئيس الإيراني يطعن في صدقية الموقع، وينزه الدول العربية عن ذلك، فيقول: "وثائق ويكيليكس تفتقد إلى القانونية والمصداقية ولن تؤثر على علاقات إيران بدول المنطقة، دعوني أصحح لكم أولاً. المواد لم تسرّب بل نشرت بطريقة مدبّرة". ورئيس الوزراء الإيطالي بيرلسكوني لا يجد عند سماعه شتيمته الأمريكية سوى الانفجار بالضحك.. إنها رباطة جأش وآية من آيات الحلم غير المعهود، تلك التي يبديها زعماء العالم اليوم! ولكن.. لماذا وكيف واتاهم الحلم فجأة، ونزلت السكينة على قلوبهم، وغادرتهم العزة بالإثم.. حتى باتوا يتطوعون لتبرئة شاتميهم، وتنزيه متهميهم..!؟ ببساطة.. لأن موقع "ويكيليكس" كان قد أعلن مسبقاً أن لديه المزيد والمزيد مما يكشفه.. إذن.. إذا كان ساركوزي مديناً ل"لافروف" هذه المرة، فإن "لافروف" سيكون -من غير بد- مدينا لساركوزي المرة المقبلة. وإذا كانت الدول العربية مدينة لإيران هذه المرة، فإنها ربما تكون الدائنة في الوجبة التالية من الوثائق.. ومن المؤكد كذلك، أن رئيس الوزراء الإيطالي بيرلسكوني تقبل شتيمته الأمريكية بالضحك، تقليلاً من أهمية أية شتائمه للآخرين إن وجدت طريقها للكشف.. ومهما قيل حول عدم أهمية وثائق "ويكيليكس"، إلا أنها أكبر زلزال يصيب الدبلوماسية الأمريكية في تاريخها، بل أسوأ كارثة في تاريخ الدبلوماسية على الإطلاق؛ فحقيقة أنه حتى أسرار الدولة الأعظم في العالم ليست محصنة، يزلزل الثقة بأمان الاجتماعات والجلسات والمحاضر السرية (سبب نصف مآسينا) التي يلجأ إليها في العادة الزعماء فاقدو الشعبية والشرعية. ومن المؤكد أن "كارثة" "ويكيليكس" ستنعكس أزمة ثقة عامة بالدبلوماسية الأمريكية بشكل خاص، وبالدبلوماسية بشكل عام، وستفضي بلا ريب إلى تغيير في آليات وتقاليد التعاطي الدبلوماسي المتبادل. وعودة على الحلم الذي نزل فجأة على زعماء العالم، الذين لا يتسامح جلهم مع مواطن بسيط وينزلون به شرّ العذاب لمجرد تجرؤه على ذكر أسمائهم مجردة وغير مشفوعة بالألقاب، هو إنجاز غير مسبوق يسجله موقع "ويكيليكس".. إننا نتحدث عن "التربية".. تربية الزعماء.. التي تبدأ بالبرهنة لهم على العواقب الوخيمة للكذب والنفاق وعدم صون اللسان! ---- * كاتب وصحفي أردني