"تعليم السويس" ينهي استعداداته لانطلاق العام الدراسي الجديد    "ليكن نور".. المؤتمر الأول لذوي الهمم بإيبارشية حلوان والمعصرة    ما مهام مجلس النواب في دور الانعقاد السادس المنتقص؟    أسعار الفراخ والبيض اليوم الجمعة 19 سبتمبر 2025 بأسواق الأقصر    بدر عبد العاطي: نُحضر لمشروع سعودي تنموي عقاري سياحي للاستثمار في منطقة البحر الأحمر    1.6 مليار دولار صادرات مصرية.. تعرف على تطور العلاقات الاقتصادية بين مصر وإسبانيا في 2025    «حرب إسرائيل الأخيرة».. و«الرؤيّة الثلاثيّة»    الأهلي والهلال.. التشكيل المتوقع لكلاسيكو الكرة السعودية    ماذا قال مراد مكرم عن فوز الزمالك على الاسماعيلي بالدوري؟    «الداخلية»: ضبط 366 قضية مخدرات وتنفيذ 86 ألف حكم قضائي في 24 ساعة    أمطار على مطروح والإسكندرية.. توقعات حالة الطقس اليوم الجمعة 19 سبتمبر 2025    مصادرة 1100 علبة سجائر أجنبية مجهولة المصدر في حملة ل «تموين العامرية» (صورة)    "الاستحمام الأخير" يودي بحياة شاب في أبو النمرس    الداخلية تضبط أكثر من 98 ألف مخالفة مرورية فى 24 ساعة    واتساب يطرح ميزة التذكير بالرسائل لتسهيل متابعة المحادثات    ميراث النهر والبحر، فعالية تراثية تنطلق بدمياط تحت مظلة "البشر حراس الأثر"    فيديو - أمين الفتوى يكشف عن دعاء فك الكرب وكيف تجعله مستجاباً    أستاذ بالأزهر يوضح حكم استخدام السبحة: إظهارها حرام شرعًا في هذه الحالة    إجراء أكثر من 1000 عملية بمستشفيات العريش والشيخ زويد خلال 40 يومًا    مصادرة 90 شيشة بحملة مكبرة في الوادي الجديد.. صور    نائب وزير الصحة يتفقد منشآت طبية بكفر الشيخ    بعد الانتهاء من المرحلة الأولى.. "النقل" تعلن فتح الحركة على أجزاء من الطريق الدائري الإقليمي ابتداءً من غد السبت    أسعار الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 19 سبتمبر 2025    %56 منهم طالبات.. وزير التعليم العالي: المنظومة تضم حاليًا ما يقرب من 4 ملايين طالب    رسمياً.. مكتب التنسيق يعلن نتائج تقليل الاغتراب لطلاب الشهادات الفنية    في سابقة.. سيناتور أمريكي يقدم مسودة تطالب ترامب الاعتراف بفلسطين    الاتحاد الأوروبى يسعى للحصول على أغلبية لتوسيع العقوبات على إسرائيل    خدعة كاميرات المراقبة.. أبرز حيل سرقة الأسورة الذهبية من داخل المتحف    وزير الخارجية: نسعى لتعزيز التعاون المصري-السعودي لمواجهة التحديات الإقليمية    افتتاح الملتقى الدولي التاسع لفنون ذوي القدرات الخاصة بحضور 3 وزراء    صحة غزة: 800 ألف مواطن في القطاع يواجهون ظروفا كارثية    وزير الخارجية: نُحضر لمشروع سعودى تنموى عقارى سياحى للاستثمار بمنطقة البحر الأحمر    ملك وملكة إسبانيا يفتتحان إضاءة معبد حتشبسوت فى الأقصر.. صور    وحدات التضامن الاجتماعي بالجامعات تراجع الاستعدادات النهائية لاستقبال العام الدراسي الجديد 2025- 2026    أسعار المستلزمات المدرسية في قنا 2025: الكراسات واللانش بوكس تتصدر قائمة احتياجات الطلاب    "نور بين الجمعتين" كيف تستثمر يوم الجمعة بقراءة سورة الكهف والأدعية المباركة؟    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة فى سوهاج    دونجا: عبدالقادر مناسب للزمالك.. وإمام عاشور يمثل نصف قوة الأهلي    تشجيعاً لممارسة الرياضة.. نائب محافظ سوهاج يُطلق ماراثون "دراجو سوهاج" بمشاركة 200 شاب وفتاة    بلال: فقدان الأهلي لأي نقطة أمام سيراميكا سيفتح باب الأزمات بقوة    التضخم في اليابان يصل إلى أدنى مستوى له في عشرة أشهر    أول ظهور ل رنا رئيس بعد تعافيها من أزمتها الصحية    جامعة القاهرة تفتتح المرحلة الأولى من مشروع تطوير الحرم الجامعي    أفكار تسالي للمدرسة.. اعملي الباتون ساليه بمكونات على قد الإيد    درة تهدى تكريمها فى مهرجان بورسعيد السينمائي للشعب الفلسطيني    عمرو يوسف: مؤلف «درويش» عرض عليّ الفكرة ليعطيها لممثل آخر فتمسكت بها    زلزال بقوة 7.8 درجة يهز منطقة كامتشاتكا الروسية    إجلاء الآلاف في برلين بعد العثور على قنبلة من الحرب العالمية الثانية    التعليم: حملة موجهة من مراكز الدروس الخصوصية لإبعاد الطلاب عن اختيار البكالوريا    أسعار الذهب اليوم الجمعة 19 سبتمبر في بداية التعاملات    طريقة عمل الناجتس في البيت، صحي وآمن في لانش بوكس المدرسة    مصطفى عسل يعلق على قرار الخطيب بعدم الترشح لانتخابات الأهلي المقبلة    سعر الموز والتفاح والبطيخ والفاكهة بالأسواق اليوم الجمعة 19 سبتمبر 2025    سادس فيتو أمريكي ضد وقف إطلاق النار في غزة خلال عامين    بعد رباعية مالية كفر الزيات.. الترسانة يقيل عطية السيد ويعين مؤمن عبد الغفار مدربا    حي علي الصلاة..موعد صلاة الجمعة اليوم 19-9-2025 في المنيا    رحيل أحمد سامى وخصم 10%من عقود اللاعبين وإيقاف المستحقات فى الاتحاد السكندري    الدفعة «1» إناث طب القوات المسلحة.. ميلاد الأمل وتعزيز القدرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التناص وأشياء أخرى في " نقوش على جدران الذاكرة"
نشر في صوت البلد يوم 15 - 10 - 2016

أقدم بين أياديكم مجموعة من الملاحظات النقدية من وحي ديوان "نقوش على جدران الذاكرة" للأديبة البارعة أميرة عبدالشافي، ومن قراءة سيرتها الذاتية نجد أننا أمام واحدة من العالمين باللغة العربية بفضل دراستها وموهبتها وممارستها الإبداع شعرا وسردا وأيضا ممارسة النقد الأدبي.
ولا أخفي عليكم أن زوجتي حينما أمسكت بالديوان وتصفحته قالت لي: هذا ديوان يستحق القراءة، هذا ديوان جميل، وقد قالت ذلك في معرض تفضيلها هذا الديوان الذي بين أيدينا الآن وبين ديوان آخر يغلب عليه الغموض وعدم وضوح الدلالة والرؤيا وطالما أن الحكومة – زوجتي أعني – أعجبها الديوان فلا شك عندي أنه جيد بالفعل وصدق أمير الشعراء حين قال:
ليلى على دين قيس ** فحيث مال تميلُ
و كلّ ما سر قيسا ** فعند ليلى جميلُ
إذن مدخلنا إلى الديوان هو الحب، لأن شاعرتنا قد شغلت مساحة ديوانها بقضية الحب حتى إنها جعلتها مذهبها واعتقادها كما فعل ابن عربي حين قال:
أدين دين الحب أنى توجهت ** ركائبه فالحب ديني وإيماني
وقالت أميرة متأثرة بالتراث الشعري العربي – وهذه نقطة سأفرد لها الحديث بعد قليل تقول:
"نقل فؤادك حيث شئت من الهوى"
يا من تباهي بكثرة الأسفار
"ما الحب إلا للحبيب الأول"
هذا بحق مذهبي وشعاري
والحب كما نعرف جميعا له حالاته المتعددة وأحاسيسه المتباينة ما بين وصل وهجر وبعد وقرب ما بين خوف ورجاء ما بين يأس أو أمل، ولقد أفاض ابن حزم في شرح تلك الحالات والأعراض في كتابه الثمين "طوق الحمامة".
الملاحظة الثانية بعد سيطرة الحب وحالاته على الديوان هي ما ذكره الدكتور محمد عبدالله في بحثه القيم "التراث والحداثة .. فاروق شوشة نموذجا" حيث يقول:
"شكل استرفاد التراث والتناص معه أحد العناصر الأساسية في بناء القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة بما نأى بها عن الذاتية والغنائية التي وسمت خطابنا الشعري على امتداد عقوده الماضية وخصب رؤاها بأبعاد موضوعية ودرامية كاشفة عن رؤية الشاعر المعاصر لمفهوم الشعر".
ويبدو في هذا الديوان أن شاعرتنا لديها وعي بهذا الاسترفاد وهذا التناص مع التراث بحيث نجدها تتناص مع نصوص أدبية قديمة ومع أمثال شعبية ومع الأسطورة العربية الأخلد "ألف ليلة و ليلة".
أما في مجال الاقتباس من القرآن الكريم ومن الحديث النبوي الشريف فهذا واضح جلي في غير موضوع من الديوان وثمة ملاحظة أود أن أذكرها قبل ذكر أمثلة من الديوان على تأثرات الشاعرة بالقرآن والحديث أقول: إني أكره أن يقال عن القرآن إنه تراث لأن قولنا بأنه تراث يعني بداهة القول بتاريخية القرآن والسنة، والقول بتاريخية القرآن تخرجه من إطار قدسيته، وتفتح المجال للعابثين بالدين وهدم أهم قواعده بحجة أنه شيء تاريخي ونحن يهمنا الواقع والمستقبل.
القرآن إذن ليس تراثا وليس تاريخا ورثناه من عصر البداوة حتى يزعم الزاعمون وينعق غربان التنوير المزعوم وبوم الحداثة وما بعدها أن القرآن لا يصلح لهذا الزمان والحق أن الزمان لا يصلح إلا به.
عودة إلى الديوان ..
تقول الشاعرة وهو اقتباس من القرآن (كلمة اقتباس هنا متعمدة) في قصيدة "دثار الحب":
يا قلبي لا تقصص رؤياك على أحد
فيكيدوا للحب الساكن حلمك كل مساء
طاوعت بحبك كل شياطين الشعر
فبدت سوءات الكلمات
وطفقت أدثر أشعاري حبا
وأواري عجز حروفي
ليتك حين تراودك الأشعار
عن بعض الأشواق
لا تتعفف.
في هذه القطعة من القصيدة نجد الشاعرة مزجت بين قصة يوسف عليه السلام وقصة آدم وحواء وقصة سيدنا محمد – صلى الله وسلم على الأنبياء والمرسلين – وذلك بأسلوب فني وبلاغة وبراعة وبدلالات جديدة دلالات إبداعية.
وفي قصيدة "اشتهاءات الحنين" تقول:
نازلت القلب كثيرا
قلت سآوي للبعد فيعصمني من حبك
لكن الحق ..
لا عاصم من عينيك سوى عينيك
وهذا اقتباس جميل من قصة نوح عليه السلام وابنه حين قال لأبيه: "سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم".
وتقول في قصيدة "التعويذة":
تستقسم بالأزلام أمام إله البعد
لتطمئن قلبك
أنك ما أخطأت
أنك حين وأدت فؤادي
قد أرضيت الرب.
وتقول في قصيدة "دقات الرحيل":
أنا الغريب العاشق
ومذهبي كان الهوى
حطمت أصنام الدعة
وانتصبت قصيدتي في العشق
تلحي من كفر
فأتوا على أعين كل العاشقين
أشهدوا
ولتصلبوني مثل باقي الأمنيات
حرقوا قلبي وزكوا فعلكم
يا نار كوني .. برد أيام الهوى.
وفي معرض الاقتباس من الحديث الشريف يأتي قولها في قصيدة "اشتهاءات الحنين":
يا سيدي
حفت عيونك بالمكاره والفؤاد قد ابتلي بصنوف أوجاع الهوى
فأحايل النبض الذي قد كان لي
شيئا من العتبى لترضى.
وهما حديثان عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول في الأول ما معناه: "إن الجنة قد حفت بالمكاره وأن النار قد حفت بالشهوات. "فالشاعرة جعلت عيون الحبيب معادلة للجنة والطريق لعيونه محفوفة بكل المصاعب والأوجاع، وهذا اقتباس جيد جدا.
والحديث الثاني وهو من دعاء الرسول عليه الصلاة والسلام يوم الطائف:
"لك العتبى حتى ترضى ولا حول و لاقوة إلا بك".
الشاعرة أميرة عبدالشافي في ديوانها "نقوش على جدران الذاكرة" تعتمد كما هو واضح جدا على التراث كمنبع لا ينضب للجمال والرؤى.
الحديث عن أمر الاقتباس من القرآن والحديث في ديوان أميرة عبدالشافي يلذ لي ولكن كي لا أطيل أنتقل إلى نقطة أخرى.
ننتقل إلى مبحث الحديث عن التناص مع التراث في "نقوش على جدران الذاكرة " فإننا نجد أن شاعرتنا الرقيقة تتناص مع الشعر العربي القديم والأمثال فنجد في قصيدة "مراسم عيدي" قولها:
من القلب للقلب ألف رسول
وباقات نور
وتقول في "سياف الشعر":
مسرور
مزروع تحت وسادة عشقي
في دولابي
خلف ستائر دنياي إلى الحب
لا يتحرك قيد براح عن قلمي
يرقبني
كيف الهرب إلى البوح
كيف استدعاء البحر إلى شعري؟!
إن ألفاظا مثل سياف و مسرور – أضف إلى ذلك تلك الحالة من الحصار والرقابة الخانقة – تلك الألفاظ تدفع العقل والوجدان دفعا إلى حضن ألف ليلة وليلة وشهرزاد وحكاياها الخلابة.
ولكن توجد قضية هنا، وهي قضية توق الشاعرة إلى الحرية إلى البوح بدون قيود وها هي تعلن في "حلم الحب":
دعني أحبك في المنام
دعني احبك دون أي تحفظ
دون اتهام
وتقول بعد ذكرها لحالة الحصار في "سياف الشعر" تقول:
كيف النوم بلا رعب في أحضان الحب
كيف أغازل محبوبي في ملأ
من دون رقابة؟!
ولست أدري إن كان يمكننا حمل بعض القصائد في الديوان على أنها نوع من العشق الصوفي الإلهي، ونؤولها على ذلك ربما نستطيع ذلك وربما لا المهم أننا إذا حاولنا التأويل فلا يجب أن نعتسف اعتسافا ونلوي عنق النصوص كي تبوح بما نريده نحن منها وأقول بأننا لا نعدم وجود بعض شذرات ولمحات صوفية هنا وهناك في ثنايا الديوان ففي قصيدة "معراج" تقدم الشاعرة نموذجا لذلك:
وأبيت على قارعة الليل أقيم صلاتي
أتلوك الورد الأوحد للبعد
وتقول:
معراج الروح إليك صلاة
وصلاتي في الحب حياة
وكذلك تقول الشاعرة في قصيدة "شقيق الروح":
قد اتخذ الفؤاد هواك دينا واعتناقا
وقولها:
وافتح بين القلب وبين فيوض الله ستارا
باركني
عمد قلبي في حبك .
وشاعرتنا تدرك بوحي من ثقافتها وتجربتها الإبداعية كيف أن الإبداع يأتي من رحم الألم والمعاناة فتقول ذلك في صراحة وبشكل تقريري مباشر في قصيدة "قري عينا":
إبداعي
يخرج من رحم الألم
فاقس بعض الشيء على قلبي
لكني أستحلف قلبك .... لا تبعد
كن لي أرضا
تستقبل كل خريف
أوراق الشعر
إن تساقط من قلبي
قل لي: قري عينا
أختبئ بقلبك سرا
فاكتمني عشقا
واصرف عنا أنات البعد
لملمني
وانثرني في ليلك فجرا
أسكني أوراق الشعر
لأفوح بحبك دوما
إني أتضوع عشقا
هذا النص تحديدا – وقد أوردته هنا كاملا – رغم بدايته التقريرية كما أسلفت إلا أنه يحمل قدرا كبيرا من التصوير الشعري الرقيق ومن الاقتباس من القرآن ويحمل وعيا بأن الشعر تنضجه المعاناة.
• ملاحظات ختامية:
جاءت أكثرية النصوص من الشكل التفعيلي وجاءت ثلاثة نصوص فقط في الشكل البيتي والثلاثة كلهم من بحر الكامل "متفاعلن" وهي نصوص "أول الأحباب" و"كأس الهوى" و"ذكرى لقاء" وجاءت عناوين النصوص الثلاثة مركبة من كلمتين إحداهما مضاف والثانية مضاف إليه.
كما تنوعت أوزان وإيقاعات القصائد بين المتدراك "فاعلن" في صورة الخبب وبين المتقارب "فعولن" و بين الكامل "متفاعلن" والرجز "مستفعلن" أيضا.
ومما يؤكد على ان قضية الحب هي قضية شاعرتنا الكبرى، شيوع كلمة الحب في الديوان منذ أوله وحتى آخره فقد وردت مادة "حبب" حوالي 66 مرة في مساحة قدرها 62 صفحة هذا بصرف النظر عن ألفاظ أخرى تحمل معنى الحب مثل كلمة الهوى والعشق وغير ذلك مما يشيع في الديوان. وهو ملمح أسلوبي إحصائي ذو دلالة مهمة استفدناه من الدراسات القيمة التي قدمتها د. الأديبة سميرة شرف.
تقول شاعرتنا في قصيدة "ميلاد الحب":
وأذن لليل الأبدي بأن يرحل
أرى أن الشاعرة لو استخدمت كلمة الأزلي بدلا من الأبدي لكان أفضل لأن الأزلي تدل على الماضي البعيد العمق والأبدي تدل على المستقبل.
وفي نص "اشتهاءات الحنين" أرى شيئا من التناقض – وقد أكون مخطئا – تقول الشاعرة:
وأرى الليالي جاثمات فوق درب الصبح
تغتال السكوت
وأتساءل: كيف تغتال الليالي السكوت والسكوت والهدوء من سمة الليل والحركة والصوت من سمة الصباح؟
تقول الشاعرة في قصيدة "سراب":
فأنا اعتزلت الشعر والأشواق
وقلبُك ... لا أريد
هل الأولى أن تقول الشاعرة: قلبك بالنصب أم قلبك بالرفع (المثبت في نسخة الديوان هو الرفع بالضمة) وفي اللغة سعة وسماحة تتيح لنا التأويل.
أعجبني في الديوان استخدام القوافي في النصوص التفعيلية بما له من موسيقى مريحة للنفس وهو إضافة إلى ذلك ملمح أصيل ورثناه عن رواد شعر التفعيلة بما يجعلها ذات وشيجة بتيار الشعر العربي وموسيقاه الرائعة.
أعجبني جدا استخدام الشاعرة ضمير الجمع "نا" في قولها:
فاكتمني عشقا
واصرف عنا أنات البعد
فقد كانت الشاعرة تتحدث بضمير المفرد ثم انتقلت إلى الضمير الجمعي، وهذا التحول له دلالته لأن البعد لا يؤذي العاشقة وحدها بل هو يؤذي العاشق والمعشوق. وفي الوصل شفاء لهما، هذا العدول عن صيغة المفرد إلى صيغة الجمع جاء ذكيا وملهما. وصدق من قال بأن البلاغة والنحو صنوان وتلك صفة لا توجد إلا في لغتنا العربية اللغة الشاعرة بحق وليس تعصبا ولا توهما.
لقد تماشت القصائد والتناص مع التراث مع عنوان الديوان، وكأني بالشاعرة تقول لنا بكل ثقة إن ذاكرة هذه الأمة تحتوي الكثير من الجمال الذي لا ينضب وعلينا أن نبتكر في إطار ذاكرتنا – الفردية والجمعية - وتراثنا وأن نضيف إليها إبداعاتنا دون الانقطاع عن التراث وعن جذور أمتنا العريقة.
أقدم بين أياديكم مجموعة من الملاحظات النقدية من وحي ديوان "نقوش على جدران الذاكرة" للأديبة البارعة أميرة عبدالشافي، ومن قراءة سيرتها الذاتية نجد أننا أمام واحدة من العالمين باللغة العربية بفضل دراستها وموهبتها وممارستها الإبداع شعرا وسردا وأيضا ممارسة النقد الأدبي.
ولا أخفي عليكم أن زوجتي حينما أمسكت بالديوان وتصفحته قالت لي: هذا ديوان يستحق القراءة، هذا ديوان جميل، وقد قالت ذلك في معرض تفضيلها هذا الديوان الذي بين أيدينا الآن وبين ديوان آخر يغلب عليه الغموض وعدم وضوح الدلالة والرؤيا وطالما أن الحكومة – زوجتي أعني – أعجبها الديوان فلا شك عندي أنه جيد بالفعل وصدق أمير الشعراء حين قال:
ليلى على دين قيس ** فحيث مال تميلُ
و كلّ ما سر قيسا ** فعند ليلى جميلُ
إذن مدخلنا إلى الديوان هو الحب، لأن شاعرتنا قد شغلت مساحة ديوانها بقضية الحب حتى إنها جعلتها مذهبها واعتقادها كما فعل ابن عربي حين قال:
أدين دين الحب أنى توجهت ** ركائبه فالحب ديني وإيماني
وقالت أميرة متأثرة بالتراث الشعري العربي – وهذه نقطة سأفرد لها الحديث بعد قليل تقول:
"نقل فؤادك حيث شئت من الهوى"
يا من تباهي بكثرة الأسفار
"ما الحب إلا للحبيب الأول"
هذا بحق مذهبي وشعاري
والحب كما نعرف جميعا له حالاته المتعددة وأحاسيسه المتباينة ما بين وصل وهجر وبعد وقرب ما بين خوف ورجاء ما بين يأس أو أمل، ولقد أفاض ابن حزم في شرح تلك الحالات والأعراض في كتابه الثمين "طوق الحمامة".
الملاحظة الثانية بعد سيطرة الحب وحالاته على الديوان هي ما ذكره الدكتور محمد عبدالله في بحثه القيم "التراث والحداثة .. فاروق شوشة نموذجا" حيث يقول:
"شكل استرفاد التراث والتناص معه أحد العناصر الأساسية في بناء القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة بما نأى بها عن الذاتية والغنائية التي وسمت خطابنا الشعري على امتداد عقوده الماضية وخصب رؤاها بأبعاد موضوعية ودرامية كاشفة عن رؤية الشاعر المعاصر لمفهوم الشعر".
ويبدو في هذا الديوان أن شاعرتنا لديها وعي بهذا الاسترفاد وهذا التناص مع التراث بحيث نجدها تتناص مع نصوص أدبية قديمة ومع أمثال شعبية ومع الأسطورة العربية الأخلد "ألف ليلة و ليلة".
أما في مجال الاقتباس من القرآن الكريم ومن الحديث النبوي الشريف فهذا واضح جلي في غير موضوع من الديوان وثمة ملاحظة أود أن أذكرها قبل ذكر أمثلة من الديوان على تأثرات الشاعرة بالقرآن والحديث أقول: إني أكره أن يقال عن القرآن إنه تراث لأن قولنا بأنه تراث يعني بداهة القول بتاريخية القرآن والسنة، والقول بتاريخية القرآن تخرجه من إطار قدسيته، وتفتح المجال للعابثين بالدين وهدم أهم قواعده بحجة أنه شيء تاريخي ونحن يهمنا الواقع والمستقبل.
القرآن إذن ليس تراثا وليس تاريخا ورثناه من عصر البداوة حتى يزعم الزاعمون وينعق غربان التنوير المزعوم وبوم الحداثة وما بعدها أن القرآن لا يصلح لهذا الزمان والحق أن الزمان لا يصلح إلا به.
عودة إلى الديوان ..
تقول الشاعرة وهو اقتباس من القرآن (كلمة اقتباس هنا متعمدة) في قصيدة "دثار الحب":
يا قلبي لا تقصص رؤياك على أحد
فيكيدوا للحب الساكن حلمك كل مساء
طاوعت بحبك كل شياطين الشعر
فبدت سوءات الكلمات
وطفقت أدثر أشعاري حبا
وأواري عجز حروفي
ليتك حين تراودك الأشعار
عن بعض الأشواق
لا تتعفف.
في هذه القطعة من القصيدة نجد الشاعرة مزجت بين قصة يوسف عليه السلام وقصة آدم وحواء وقصة سيدنا محمد – صلى الله وسلم على الأنبياء والمرسلين – وذلك بأسلوب فني وبلاغة وبراعة وبدلالات جديدة دلالات إبداعية.
وفي قصيدة "اشتهاءات الحنين" تقول:
نازلت القلب كثيرا
قلت سآوي للبعد فيعصمني من حبك
لكن الحق ..
لا عاصم من عينيك سوى عينيك
وهذا اقتباس جميل من قصة نوح عليه السلام وابنه حين قال لأبيه: "سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم".
وتقول في قصيدة "التعويذة":
تستقسم بالأزلام أمام إله البعد
لتطمئن قلبك
أنك ما أخطأت
أنك حين وأدت فؤادي
قد أرضيت الرب.
وتقول في قصيدة "دقات الرحيل":
أنا الغريب العاشق
ومذهبي كان الهوى
حطمت أصنام الدعة
وانتصبت قصيدتي في العشق
تلحي من كفر
فأتوا على أعين كل العاشقين
أشهدوا
ولتصلبوني مثل باقي الأمنيات
حرقوا قلبي وزكوا فعلكم
يا نار كوني .. برد أيام الهوى.
وفي معرض الاقتباس من الحديث الشريف يأتي قولها في قصيدة "اشتهاءات الحنين":
يا سيدي
حفت عيونك بالمكاره والفؤاد قد ابتلي بصنوف أوجاع الهوى
فأحايل النبض الذي قد كان لي
شيئا من العتبى لترضى.
وهما حديثان عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول في الأول ما معناه: "إن الجنة قد حفت بالمكاره وأن النار قد حفت بالشهوات. "فالشاعرة جعلت عيون الحبيب معادلة للجنة والطريق لعيونه محفوفة بكل المصاعب والأوجاع، وهذا اقتباس جيد جدا.
والحديث الثاني وهو من دعاء الرسول عليه الصلاة والسلام يوم الطائف:
"لك العتبى حتى ترضى ولا حول و لاقوة إلا بك".
الشاعرة أميرة عبدالشافي في ديوانها "نقوش على جدران الذاكرة" تعتمد كما هو واضح جدا على التراث كمنبع لا ينضب للجمال والرؤى.
الحديث عن أمر الاقتباس من القرآن والحديث في ديوان أميرة عبدالشافي يلذ لي ولكن كي لا أطيل أنتقل إلى نقطة أخرى.
ننتقل إلى مبحث الحديث عن التناص مع التراث في "نقوش على جدران الذاكرة " فإننا نجد أن شاعرتنا الرقيقة تتناص مع الشعر العربي القديم والأمثال فنجد في قصيدة "مراسم عيدي" قولها:
من القلب للقلب ألف رسول
وباقات نور
وتقول في "سياف الشعر":
مسرور
مزروع تحت وسادة عشقي
في دولابي
خلف ستائر دنياي إلى الحب
لا يتحرك قيد براح عن قلمي
يرقبني
كيف الهرب إلى البوح
كيف استدعاء البحر إلى شعري؟!
إن ألفاظا مثل سياف و مسرور – أضف إلى ذلك تلك الحالة من الحصار والرقابة الخانقة – تلك الألفاظ تدفع العقل والوجدان دفعا إلى حضن ألف ليلة وليلة وشهرزاد وحكاياها الخلابة.
ولكن توجد قضية هنا، وهي قضية توق الشاعرة إلى الحرية إلى البوح بدون قيود وها هي تعلن في "حلم الحب":
دعني أحبك في المنام
دعني احبك دون أي تحفظ
دون اتهام
وتقول بعد ذكرها لحالة الحصار في "سياف الشعر" تقول:
كيف النوم بلا رعب في أحضان الحب
كيف أغازل محبوبي في ملأ
من دون رقابة؟!
ولست أدري إن كان يمكننا حمل بعض القصائد في الديوان على أنها نوع من العشق الصوفي الإلهي، ونؤولها على ذلك ربما نستطيع ذلك وربما لا المهم أننا إذا حاولنا التأويل فلا يجب أن نعتسف اعتسافا ونلوي عنق النصوص كي تبوح بما نريده نحن منها وأقول بأننا لا نعدم وجود بعض شذرات ولمحات صوفية هنا وهناك في ثنايا الديوان ففي قصيدة "معراج" تقدم الشاعرة نموذجا لذلك:
وأبيت على قارعة الليل أقيم صلاتي
أتلوك الورد الأوحد للبعد
وتقول:
معراج الروح إليك صلاة
وصلاتي في الحب حياة
وكذلك تقول الشاعرة في قصيدة "شقيق الروح":
قد اتخذ الفؤاد هواك دينا واعتناقا
وقولها:
وافتح بين القلب وبين فيوض الله ستارا
باركني
عمد قلبي في حبك .
وشاعرتنا تدرك بوحي من ثقافتها وتجربتها الإبداعية كيف أن الإبداع يأتي من رحم الألم والمعاناة فتقول ذلك في صراحة وبشكل تقريري مباشر في قصيدة "قري عينا":
إبداعي
يخرج من رحم الألم
فاقس بعض الشيء على قلبي
لكني أستحلف قلبك .... لا تبعد
كن لي أرضا
تستقبل كل خريف
أوراق الشعر
إن تساقط من قلبي
قل لي: قري عينا
أختبئ بقلبك سرا
فاكتمني عشقا
واصرف عنا أنات البعد
لملمني
وانثرني في ليلك فجرا
أسكني أوراق الشعر
لأفوح بحبك دوما
إني أتضوع عشقا
هذا النص تحديدا – وقد أوردته هنا كاملا – رغم بدايته التقريرية كما أسلفت إلا أنه يحمل قدرا كبيرا من التصوير الشعري الرقيق ومن الاقتباس من القرآن ويحمل وعيا بأن الشعر تنضجه المعاناة.
• ملاحظات ختامية:
جاءت أكثرية النصوص من الشكل التفعيلي وجاءت ثلاثة نصوص فقط في الشكل البيتي والثلاثة كلهم من بحر الكامل "متفاعلن" وهي نصوص "أول الأحباب" و"كأس الهوى" و"ذكرى لقاء" وجاءت عناوين النصوص الثلاثة مركبة من كلمتين إحداهما مضاف والثانية مضاف إليه.
كما تنوعت أوزان وإيقاعات القصائد بين المتدراك "فاعلن" في صورة الخبب وبين المتقارب "فعولن" و بين الكامل "متفاعلن" والرجز "مستفعلن" أيضا.
ومما يؤكد على ان قضية الحب هي قضية شاعرتنا الكبرى، شيوع كلمة الحب في الديوان منذ أوله وحتى آخره فقد وردت مادة "حبب" حوالي 66 مرة في مساحة قدرها 62 صفحة هذا بصرف النظر عن ألفاظ أخرى تحمل معنى الحب مثل كلمة الهوى والعشق وغير ذلك مما يشيع في الديوان. وهو ملمح أسلوبي إحصائي ذو دلالة مهمة استفدناه من الدراسات القيمة التي قدمتها د. الأديبة سميرة شرف.
تقول شاعرتنا في قصيدة "ميلاد الحب":
وأذن لليل الأبدي بأن يرحل
أرى أن الشاعرة لو استخدمت كلمة الأزلي بدلا من الأبدي لكان أفضل لأن الأزلي تدل على الماضي البعيد العمق والأبدي تدل على المستقبل.
وفي نص "اشتهاءات الحنين" أرى شيئا من التناقض – وقد أكون مخطئا – تقول الشاعرة:
وأرى الليالي جاثمات فوق درب الصبح
تغتال السكوت
وأتساءل: كيف تغتال الليالي السكوت والسكوت والهدوء من سمة الليل والحركة والصوت من سمة الصباح؟
تقول الشاعرة في قصيدة "سراب":
فأنا اعتزلت الشعر والأشواق
وقلبُك ... لا أريد
هل الأولى أن تقول الشاعرة: قلبك بالنصب أم قلبك بالرفع (المثبت في نسخة الديوان هو الرفع بالضمة) وفي اللغة سعة وسماحة تتيح لنا التأويل.
أعجبني في الديوان استخدام القوافي في النصوص التفعيلية بما له من موسيقى مريحة للنفس وهو إضافة إلى ذلك ملمح أصيل ورثناه عن رواد شعر التفعيلة بما يجعلها ذات وشيجة بتيار الشعر العربي وموسيقاه الرائعة.
أعجبني جدا استخدام الشاعرة ضمير الجمع "نا" في قولها:
فاكتمني عشقا
واصرف عنا أنات البعد
فقد كانت الشاعرة تتحدث بضمير المفرد ثم انتقلت إلى الضمير الجمعي، وهذا التحول له دلالته لأن البعد لا يؤذي العاشقة وحدها بل هو يؤذي العاشق والمعشوق. وفي الوصل شفاء لهما، هذا العدول عن صيغة المفرد إلى صيغة الجمع جاء ذكيا وملهما. وصدق من قال بأن البلاغة والنحو صنوان وتلك صفة لا توجد إلا في لغتنا العربية اللغة الشاعرة بحق وليس تعصبا ولا توهما.
لقد تماشت القصائد والتناص مع التراث مع عنوان الديوان، وكأني بالشاعرة تقول لنا بكل ثقة إن ذاكرة هذه الأمة تحتوي الكثير من الجمال الذي لا ينضب وعلينا أن نبتكر في إطار ذاكرتنا – الفردية والجمعية - وتراثنا وأن نضيف إليها إبداعاتنا دون الانقطاع عن التراث وعن جذور أمتنا العريقة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.